الأربعاء ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٢

ذكرى يوم الجلاء

حسين حمدان العسّـاف

تطل علينا الذكرى السادسة والستون لجلاء فرنسا عن سورية، ذكرى يوم الاستقلال الذي حدث في السابع عشرمن نيسان عام ستة وأربعين وتسعمئة وألف، وكان هذا اليوم ثمرة نضال مؤلم وقاس خاضه الشعب السوري ضد الاستعمارالفرنسي الذي حكم سوريا قرابة ربع قرن، كانت بدايته يوم تصدى شعبنا السوري الشجاع للقوات الفرنسية الزاحفة إلى سوريا بقيادة الجنرال (هنري غورو) في معركة ميسلون غيرالمتكافئة، وقاده فيها وزيرالحربية البطل الشهيد (يوسف العظمة) في 24 يوليو، تموز 1920م، ثمّ مالبثت أنْ استعرت بعدها ثورات الشعب السوري ضد الاستعمارالفرنسي في دمشق وحوران وجبل العرب وحلب وجبل الزاوية والساحل السوري وحمص وحماه وديرالزوروالجزيرة. ثارالشعب السوري في كل مكان على الاحتلال الفرنسي من أجل استعادة حريته وكرامته وعزته التي انتهكها هذا المحتل الدخيل، المحتل الذي احتكرالسلطة، واستأثروحده بخيرات البلد وموارده، و كمّم الأفواه، وعقل الألسنة، وصادرحرية الرأي، وألقى المناضلين في غياهب السجون والمعتقلات، و دمّرالمدن، وخرّب المنشآت العامة، وأحرق المزارع. المحتل الذي شوّه صورة الثائرين الأحرار وصورة ثورات الشعب السوري المتلاحقة، ونعتهم بالخارجين على القانون مرّة وبالمجرمين مرّة أخرى، وبالعصابات المسلحة وقطاع الطرق والرعاع والغوغاء. لقداعتمد الاستعمارالفرنسي على عملائه في الداخل ليكونوا عوناً له على مواجهة انتفاضات الشعب السوري وثوراته، وطمأنهم بطول بقائه في سوريا، ووعدهم بقمع كل تمرد وسحق كل انتفاضة وإخماد كل ثورة، ولكنه لم يستطع أن ينجزماوعد، وهيهات أن يكسرإرادة شعب صبرعلى المحن، وصمّم على انتزاع حقه بنفسه من مغتصبه، وكان من الطبيعي أن تنتصرإرادة الشعب الشجاع الذي توّج ثوراته المتتالية منتصراً ومنهزماً بيوم الجلاء الأغر، يوم أن طردالمستعمر، وجلاه عن أرضه، وفي غمرة أفراح شعبنا بعيد الجلاء تخطربباله قصيدة الشاعرالسوري شفيق جبري الرائعة (الجلاء)، وهي درّة شعره، منها الأبيات الآتية:

حُلم على جنبات الشـــــــــام أَم عيد؟
لا الهمُّ همٌّ ولا التسهيد تســــــــهيدُ
أتكذبُ العينُ والرايــــــــــاتُ خافقةٌ؟
أَمْ تكذب الأذن،والدّنيا أغاريـــــــدُ؟
كـأَنَّ كلَّ فـؤادٍ في جـــــــــــــــلائِهمُ
نشــــــــــوان، قد لعبت فيه العـناقيدُ
ملء العيون دمــــوع من هنـــاءتها
فالدّمــــع درٌّ على الخـدين منضودُ
على النواقيــس أَنغامٌ مُســــــــــبِّحة
وفي المـآذن تســــــــبيحٌ و تحـميدُ
لو ينشــــــدُ الدّهرفي أَفراحنا ملأَت
جوانب الدّهر في البشرى الأَناشــيدُ
ليت العيونَ، صـلاح الدين، ناظرةٌ
إلى العــدوّ الذي ترمي به البيــــــدُ
اضرب بعينــــــك هل تلقى له أَثراً
كأنه شــــــــــبح في اللـيل مطـرودُ
ما نامت الشـــــــــــام عن ثأر تُبَيّتُه
هيهاتَ ما نومُـها في الثأر معهــــودُ
يا فتيةَ الشــــــــــــام للعلياء ثورتُكم
وما يضـيع مع العـلياء مجـــــــهودُ
جُدتم فسالت على الثورات أنفســكم
علمتم الناس في الثورات ماالجــــود؟

على أنّ رحيل الاستعمارلا يعني للشعب السوري نهاية مرحلة القمع والعسف والاستغلال ونهب خيراته، وإنّما كان مقدمة لخوضه معركة شاقة وطويلة ضد أنظمة الفساد والاضطهاد والاستغلال التي تلت الاستقلال، دخلها الشعب السوري، ولم يجد فيها شيئاً جديداً تغيّرعليه، فما كان يعاني منه أيام الاحتلال الفرنسي ظلّ يعانيه في مختلف مراحل الحكم الوطني اللاحقة، لاسيما بعد جريمة الانفصال التي فصلت سوريا عن مصر، ومنذ عهد الانفصال إلى انفراد حزب البعث بالسلطة، إلى سيطرة مراكزالقوى على السلطة تحت ستار هذا الحزب إلى حكم العائلة الواحدة التي حوّلت النظام الجمهوري إلى نظام وراثي، أقول: منذ عهد الإنفصال إلى هذا اليوم والشعب السوري يرزح تحت وطأة كابوس الذل والفقروالقمع والإقصاء، وسوريّة التي كانت مهيّأة للصعود الحضاري والانطلاق العلمي في مرحلة الاستقلال أيام دمّرت أمريكا اليابان، مازالت إلى اليوم تراوح في مكانها في حين أنّ اليابان المدمّرة انطلقت من الصفر، وسابقت الزمن في نهوضها الحضاري والاقتصادي والصناعي، وها هي اليوم تعدّ في طليعة الدول المتقدمة صناعياً، والنظام السوري أخفق في تطويرسوريّة وتقدمّها، وعجزعن نقلها إلى مصاف الدول المتقدمة في العالم، ولم يقدّم لها إلاّ شعارات فقدت مضامينها وصدقها. ووجد السوريون أن حياتهم منذ عهد الانفصال إلى اليوم لا تختلف عن حياة آبائهم وأجدادهم في عهد الاستعمارالفرنسي إلاّ في الشكل، أمّا المضمون فواحد: الاستعمارالفرنسي سوّغ ممارسته في هدركرامة الإنسان السوري وقمعه حريته ونهبه ثروات بلده بغطاء التحضروالتمدن وحقوق الإنسان، والنظام السوري مارس الشيء ذاته متقنّعاً بشعارات رنّانة جوفاء باسم الوطنية والوحدة والممانعة والديمقراطية والشفافية والتطوّروالإصلاح، وما إلى ذلك من ألفاظ ممجوجة صارالإنسان السوري يتقيء من سماعها لكثرة تردادها بلا طائل، وكلاهما لم يؤمن بالرأي الآخروحق الاختلاف، فأنكروجود قوى المعارضة، وشوّه صورة الثورات ضده، ونعتها بأسوأ ألفاظ النعوت وأقبحها، بل إنّ مدة تسلط النظام الشمولي على الشعب السوري الذي يسعى لبقائه في الحكم إلى الأبد قارب ضعف مدة الاحتلال الفرنسي لسورية، ولم يكن الضحية في هذا وذاك إلاّ الشعب السوري، لكن آلة الفتك والدمارالتي كان الاستعمارالفرنسي يستخدمها ضد الشعب السوري لم تنقذه من هزيمته أمام انتفاضة الشعب وثوراته العارمة، كذلك فإنّ هذه الآلة نفسها التي يستخدمها النظام الشمولي ضد شعبه قد تنفعه حيناً، لكنها لاتنفعه في كل حين، ولا تحميه من غضب شعبه، أو تطيل عمره إلى مالانهاية. فالاستقلال الذي يعني في بعض دلالته التحرّرالسياسي، تحرّرالبلد من الاستعمار، يعني أيضاً في بعضها الآخرتحرّرالشعب من الفساد والاضطهاد والاستغلال وتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي للسلطة. إنّ يوم الجلاء الحقيقي الكامل هو يوم يتحررفيه البلد ليس من الاحتلال الخارجي فحسب، وإنّما من الاستبداد الداخلي أيضاً. وهذه مهمّة كبرى يقع إنجازها على ثورة الشعب وحده.

حسين حمدان العسّـاف

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى