الأحد ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠٢٤

ارتحاليّة في مدن غرقى

مشهور محمد محمود بطران

I
من نافذتي أراها،
تتبدّى كحفنة من نور،
لؤلؤة تومِضُ كلّ شروقٍ،
ينبجسُ منها خيطُ نورٍ يشقشقُ من قلبِ الفجرِ.
نورها يغويني.
بحثتُ عنها عند مصبّ الوادي.
نقّبتُ الحجارةَ حجرًا حجرًا
انتظرتُ المطرَ ليشطف مصاطبَ النهر.
قرأتُ رسائلَ الماءِ للحصى.
وسمعتُ هسيسَ الصخرِ
ووشوشة الحصباء،
بوح الرمل على الحوافّ.
أسرفتُ في الشوقِ،
ارتحلتُ إلى مدنٍ عديدة باحثًا عنها،
لم أعثرْ عليها.
عدتُ محمّلًا بأناشيد قديمة.
ومذّاك قالوا: الولد المجنون الذي يغنّي عند مفارق الدروب
وعلى كتفيه سرب حمامات غريرات.

II
دخلتُ مدينةً تتنفّسُ الصبحَ ضوءًا،
وتزفرهُ أنهارًا مسيّجةً بأمنيات بناتٍ غرقى.
جئتُها محلّقًا على جناحي نبوءة،
بقميصٍ يتنفّسُ غبارًا،
رميته فحلّقَ في الهواء،
كطائرٍ غريبٍ مقطوع الرأس،
ثم عَلِقَ بغصنِ صفصافة في الجوارِ.
صلّيتُ الصبحَ خلف جدار كاتدرائيّة من الحقبة اللوثريّة.
القميصُ ما زال عالقًا،
يتدلّى كشبحٍ غريق،
تقطرُ منه قصائد محتضرة وتعاويذ قديمة.

III
لا شيء في هذه المدينة أكثر من الساعات،
ساعاتٌ كثيرة معلّقة في معاصمها،
ساعات أكثر مربوطة في خاصرتها،
أو تلوحُ على صدرِها كبندولٍ كبير.
المدينةُ نفسها آلةٌ كبيرةٌ،
محيط هائل من النوابض والعجلات والمسنّنات،
تدقّ أجراسُها بعنفِ قلبٍ أصابه الربو.
لا ساعة في معصمي،
لكنّ الزمن يُحاصرني كوجع قولون مُزمن.

IV
كريحٍ تعبرُ مضيقًا، يحاصرني الضجرُ
سأمٌ ثقيلٌ ينبتُ على حوافِّ البلاطِ.
عواءُ القطارات المسعورة يثقبُ روحي.
هذا هو حالي في أيّام الآحاد البليدة.
في مدينة من نوابض ومسنّنات
سكك وقطارات لا تتوقّف.

V
في شارعٍ كهلٍ
أمشي بهدوء رجلٍ غريب،
على جسر العبور إلى المحطّة، حاذيتُ امرأة أربعينيّة،
جسدها برونزيّ مشويّ على نار هادئة
وموشوم برسومات ورموز خضراء،
كأنّه لوحة لـ (ماتيس)
قَرَأَتْ حقولَ الحنطةِ في وجهي،
ابتسمتْ لي، وأهدتني خصلةً من شعرها الأحمر،
وضعتُها في جيبي فترنّخ جسدي عطرًا.
من غبطتي، عبرتُ الجسرَ والضوء أحمر.
لكنّ المرأة لم تتبعْني خوف أنْ تدهسها ظنونها،
ولا هي عادت من حيث أتت.

VI
كلابُ هذه المدينة يائسةٌ
لا تنبح ولا تعضّ،
تبسطُ ذراعيها وتنظرُ للعابرين سلامًا.
في المحطّة كلب هنجاريّ يلاعبُ شابّة من كولونيا.
وشبابٌ أفارقة يغنّون (هيب هوب)
وصبايا شقراوات يرقصْنَ حولهم،
في انتظار قطار فرانكفورت البليد.

VII
القطارُ دودةٌ طويلةٌ ومَرِحَة،
تتلوّى في الغابات،
يُلقي التحيّة على أشجار السمْطِ والدردار،
فتردّ طيور (التدرج) وأوزّات (التندرا) المسترخية في البحيرات: مِن هنا مرَّ (فاجنر وباخ) .
من النافذة يبدو نهر (الراين)
محفوفًا بأشجار الزان والبلّوط
يتلوّى في سهول (بون) الرحيبة
متفقّدًا غاباته الماردة،
يحملُ في راحتيه سفنًا هادئة
تسيرُ نحو مستقرِّها
إلى مدنٍ تستحمّ في مرافئه ليل نهار.

VIII
المسافرون يتأرجحون في قطارٍ معلّق
بين محطّتي انتظار.
على الناصية شرطيّ ضجر يحاولُ ضبطَ أعصابه.
أمام عصبة مهاجرين يتكلّمون الألمانيّة بلكنة أفريقيّة،
وشُبّان متعصّبون للكرة الفرنسيّة
يشكّكون في مهارات رونالدو.
وأنا هنا أحصي ضحكات الرفاق البعيدة.

IX
ألقى بي القطارُ في قلبِ مدينة خضراء.
مدينة مثل غابة تتنفّس ضوءًا،
وتزفره أشجارًا سامقة.
لكن لا صخور في هذه المدينة.
أزاميل كثيرة وقطّاعات معلّقة
ادّخرتها لهذه المهمّة.
انتظرتُ عبورَ النهر ليلقي فَيْضَهُ،
فما ظفرت إلّا بخرزات زرقاوات،
وأقفال ومفاتيح عشّاق سقطت في النهر،
لا تسعف حتّى لاختيار عنوان.

X
أجلسُ في ظلِّ تفّاحة برّيّة،
تفاحّها الأحمر يغويني،
لكن لا ملائكة في هذه المدينة تهزُّ جذعها.
وحدها الريحُ تفعل ذلك.
صديقي المغربيّ "عبد الإله نخلة"
الذي هزمني في لعبة شطرنج
هزّها بقامته الطويلة وأطعمني.
ليطمس مرارة الانكسار.

XI
أمشي في ذات الشارع الطويل
مَرَرْتُ بخيمةِ كهلٍ غريب الأطوار
ظننته بائعَ سجائر مهرّبة من روسيا
فإذا به يبيع قمصانًا لعبدة الشياطين
واسطوانات قديمة وفونوغرافات.
مَدَّ لي قميصًا عليه صورة لحفيد يهودا الإسخريوطيّ
لذتُ بقلبي فزعًا من فجيعة في عينيه.
وفررتُ لأنجو بروحي.

XII
اكتشفتُ اليومَ نهرًا جديدًا
ضَلَّ طريقه في الوديان.
عاريًا مثل طفلٍ غرير
يتلوّى في الشعابِ بلا صخبٍ
كأنّه أغنية وداع.
على ضفّتيه كثيرٌ من النفائسِ
وحصًى صقيلة لها صفيرٌ مؤنسٌ.
أهداني ياقوتة حمراء أضاءتْ عتمتي.
غدًا سأهديه بذور السمّاق والعُلَّيْق؛
كي تعرشَ في قادم السنين عُرْيَه الفاتن.

XIII
في الجوار فتيات ثملات يشربن بيرة من بافاريا
عاريات النهود، يَصْهَلْنَ من النشوةِ،
يتبعهُنَّ شرطيّ مؤدّبٌ
خوفَ أن يرمينَ أنفسهنَّ في النهر.
ابتسمَ لي، وسألني عن سرّ الجديلة التي تلوح في جيبي.
وحين رآها ظنَّ أنّني اللصّ الهارب
من عيونِ الصحافة،
أخبرته أنّها هديّة من امرأة تقاسي الوَحدة
فودّعني بتلويحة من يده.
وقال: من هنا الدرب يا غريب.

XIV
أمشي وأمسحُ الغبارَ عن جلدي
مررتُ ببائعة وردٍ ترفعُ أعلامًا
وصورًا لشهداء يشبهونَني.
قرَأَتْ حقول القمحِ في وجهي، وفرحتْ لي.
قالت بإنجليزيّة ركيكة: هذه الوردة لك.
أخذتُها ومضيتُ.
الآن صار عندي وردة وجديلة.

XV
السّيّدةُ التي أهدتني جديلتها ما زالت واقفةً.
تضعُ مظلّةً على رأسِها؛
كيلا تبلّلها أمطارُ (أوجست)،
تلومُ كلبها الأسود الذي قطعَ الإشارة الحمراء.
والكلبُ جالسٌ عند قدميها؛
كي يتعلّمَ درسًا في الألوان.

XVI
على مقهى الرصيف رأيت (هاينز زونكر) (Heinz Sunker)
يمازحُ شبّانًا يساريّين، ويبشّرُ بالثورة.
لوّح لي بابتسامة داعية،
بين رشفتين من كأس ناضبة،
بإنجليزيّة مضرّجة بالنشوة،
قال المتبتّل النشوان زونكر:
واحدٌ بعد الآخر يختفي الرفاقُ
كحجارة دومنو تنهار.
أنا الثوريّ الأخير في قلعة (فوبرتال) البهيّة.
أين عصابة كارل ماركس الشجعان؟
أين تلامذةُ (أدورنو) الفطنون؟
وأحفادُ مدرسة فرانكفورت المرحون؟
ثمّ بأسى الرشفة الأخيرة:
يبدو أنْ لا أحدَ يسمعني.

XVII
في المساء، لا أحدَ في المساءِ
تذبلُ المدينةُ وتُكَفِّنُ شوارعَها
في انتظار العابرين.
أمّا أنا فأعودُ إلى البيتِ،
أطوي ذكرياتي عن شارعٍ كهل أتعبه عابروه.
على مدخلِ الحيّ
يَلوْحُ لي من بعيدٍ تمثالُ بائع السّكّر .
في الصباح ودّعته وكان كامدًا حزينًا
أمّا الآن فَلَوَّحَ لي بقبّعتهِ مبتسمًا
فعرفتُ أنّ الصبايا العاطلات عن العمل
كَسَيْنَهُ هذا المساء وشاحَ صوفٍ زاهيَ الألوان.
حينَ حاذيته ابتسمَ لي وأعطاني مكعّبًا من السّكّر.

XVIII
على الناصية صادفْتُ مجنون (دوزلدورف ) العظاميّ
الذي يستوطنُ الطرقات منذ سنين، وينامُ في أقبية القطارات
على طريقة (اوغستو بوال )
يخلقُ مسرحًا وجمهورًا طيّبًا مُكرهًا على الفرجة
يرتجلُ نصوصًا بلكنة (غوته ) (وهاينرش هاينه )
صوته دراميّ تشوبه بحّةُ اغتراب
فيما قبضته تُمسكُ بسيفٍ من وهمٍ؛ كي يستعيد أمجاده القديمة.

XIX
انعطفتُ في طريق نهر (الفوبر )
في الجوار كلبان يتلكّأان،
يقودان امرأةً عمياءَ
تترنحُّ على إيقاع همس الحجارة
التي يقلِّبُها النهرُ في جريانه الأبديّ
النهرُ متعبٌ
غادره مصطافوه
وصغار صيّادين يتلهّون بأسماكٍ حزينة
لا تُميّز بين الطعامِ والطعمِ.

XX
جيوبي (تُخرخش) بصخبٍ،
فيها خرز كثير،
مرَّتْ امرأة (مدندشة)
يتدلّى من شَعْرِها عناقيدُ من حجارة كريمة،
طلبتُ شعرةً من جديلتها؛
لأربط خرزاتي المنفلتة،
ابتسمتْ لي، ووضعتْ رأسَها على صدري،
فغشيتني رائحة الشواطئ ونكهة أزهار الكاميليا.
منحتني شعرةً طويلة.
(لظمتُ) بها كلّ خرزاتي وفاضتْ عن حاجتي،
حتّى الآن لم تمتلئ بالخرز.
على أطرافها الشقراء متّسع لفائض حجارة.

XXI
الآن خَزَّ الجوعُ بطني
فبادلتُ قصيدةً بسمكةٍ نيّئة،
من عجوزٍ تصيدُ من النهرِ
ناولتُها القصيدةَ،
فقالتْ: غَنِّها.
قلتُ: لا أغنّي.
فقالت: هاتِ السمكة.

XXII
في ممشى شجري طويل غشيني نسيم الزعرور المهفهف فترطّبتْ روحي.
عناقيدُ الزعرور الشهباء تغويني،
لكنّ يدي لا تطول،
مرّة أخرى يُسعفني عبد الإله نخلة،
المغربيّ ذو القامة الرشيقة العالية
قطفَ لي عنقودًا.
أخذته ومضيت،
تحفّني سحابة من عبق التفّاح الوحشيّ.

XXIII
في مدينةٍ لا تحتفي بأبنائِها
ماذا يفعلُ غريبٌ مثلي
غير منادمة الشارعِ والليلِ؟
بردُ (أوجسْتْ) لا يُحْتَمَل
الشارعُ يرتجفُ والنوافذ تصطكّ.
المتسوّلُ الرومانيّ نيكولاس
تَعِبَ وأسندَ ظهره للريح،
خَلَعَ معطفه وغطّى كَلْبَه،
نامَ الكلبُ فبدا كميّتٍ للتوّ
لكنّ نيكولاس لم ينَم.
ظَلَّ يحرسُ كَلْبَه في غفوته.

XXIV
الرجلُ الذي يبحث عن الزجاجات الفارغة هو الآخَر أنهكه التعبُ وغفا قربَ الحاوية.
انزعجتْ منه الجرذانُ
فراحتْ تقرضُ أظافره العارية.
الشارع أطفأ فوانيسه واستسلم للرقادِ.

XXV
أخيرًا على الرصيفِ،
جلستْ السّيّدةُ (هالفريدا)
تأكلُ شرائحَ بطاطا مقليّة وهي تبكي.
في يدها صورة فوتوغرافيّة لرجلٍ غائبٍ.
تأكلُ قطعةً وتطعمُه أخرى،
الرجُلُ الذي في الصورة جائعٌ
إنّه يريد أكثر، وهي تقولُ له بصوتٍ عالٍ:
واحدة لك وواحدة لي،
لا تكن طمّاعًا يا صغيري.

XXVI
في الطريق إلى البيت،
كان جاري الموسيقار (اولريخ كلان)
يجلسُ على مصطبة بيته،
برفقة سيّدة ذات أوتار أوبراليّة
قرأ الجوع في عينيّ، فدعاني إلى مأدبة سمكٍ.
في الصالون، رأيتُ كيسَ رملٍ معلّقًا في قصيدةٍ
كان مثقوبًا وينِـزُّ صحاري.
رأيتُ بيانو بحجم حصان مجنّح رابضٍ في الشرفة.
و(فيولين) يقِظٌ يتّكئ على قوس مشدودة،
يغازلُ قيثارة تستندُ على حائطٍ وتلبسُ كشاكشَ زهريّة.
جلسنا في المطبخِ قبالة شجيرة كرز.
ثمّة دالية عنب تطلّ من النافذةِ
وقوارير صُبّار ناعسة.
في الغرفة المجاورة كان (الساكسفون) ينتحبُ.
فجأة اندفع النهرُ
حاملًا معه أسماكًا ذهبيّةً.
ثمّ اجتاح أرصفةَ المدينة وغمرها بالموسيقى.
السيِّدةُ ذات الأوتار الأوبراليّة تسلَّقتْ صوتَها،
وارتقتْ ذروة اللحنِ،
البيانو الصادحُ تهيّأ لإعلان نواياه الشجيّة.
ثمّة وردة تتسلّقُ الضوءَ بأوتارٍ مستلّة من سيمفونيّة قديمة.
نغمة تتربّع في حضرة إله.
أصابعُ العازفِ تشقُّ الطريقَ في مفازاتِ اللحنِ.
يا ألله، امنحني أُذنًا أكثر رهافةً كي أرى الصوت.
الصوت الذي يمشي على مهلٍ في منحدرات الأغنية.

XXVII
جارتي (ريدماخر)
لا تأبه بكلّ هذه الحداثة،
أسمالها رثّة لكنّ روحها متوقّدة
ما زالت تصقلُ خرزاتها، بكاملِ رشاقة أصابعها.
تحملُ كل يوم صرَّةَ محارات من بحر الشمال،
وكثيرًا من حجارة ملوّنة،
جمعَتْها من طمي السيولِ.
دعتني لسيجارة لَفٍّ.
أومأتُ لها: لا أدخّن.
فهزَّتْ خرزةً زمرّديّة لتغويني،
وقالت: وجدتها على ضفاف (الراين)

XXVIII
أخيرًا وصلتُ البيتَ،
تمدَّدْتُ لأنام،
في يدي وردة وجديلة شقراء.
المرأة التي أهدتْني جديلتها جاءتني يقودُها كلبُها.
أقعى عند الباب،
بينما هي راحت تفكّ ضفيرتها.
وتزيّنها بوردة الروز الوحيدة.
تمدّدَتْ بجانبي مثل نهر.
وراحتْ تتعرّى من ألوانها.
من النافذة ينسرب ضوء قمر خفيف
موشّحًا بأنينِ بومة يتيمة،
أغصان المشمش هدأت،
ونام العصفور الطنّان.

XXIV
في الليل حطّ غرابٌ مبلولٌ على النافذة،
يرقدُ وحيدًا منكَّسَ الرأسِ،
راح يحتضر،
قاومَ احتضاره بخرمشات يائسة،
يحكُّ الزجاجَ بمنقاره
كأنّما يبحثُ عن أحدٍ يودّعه،
في هذا المطر السقيم.
زجاجٌ يحولُ بيني وبينه
زجاجٌ مضبّبٌ بأنفاسٍ متصدّعة.
بأظافري أخرمشُ الزجاجَ أيضًا
كلانا وحيدان.

XXV
أشحْتُ بصري عن الغراب
ووقفت أمامَ الصقالِ،
أشاهدُ آخر يشبهني،
أمدُّ يدي إليه،
لكنّه بعيد المنال
حارسٌ باردٌ أبكمُ يمنعني.
أقتربُ منه: مَن أنت؟
فلا أسمع إلا جلجلة الدمعِ المُسال.

XXVI
في الليل جاءني أيضًا ذئبٌ حزينٌ،
جاءَ من أقصى الغابة
أَقْعَى تحت شجرة التَّنُّوب،
عَوَى، اختبأْتُ وراء ظنوني،
ناداني باسمي، وقال: يا غريب.
ارتجفْتُ.
خَرْمَشَ الهواءَ،
ثم عَضَّ النافذةَ ومضى.
بعد ذلك سمعتُ صخبَ الطرائد،
وصيّاد أيائل يحتضرُ،
وكاهنًا على ظهره بندقيّة
يقرأُ على روحه تراتيلَ الوداع.

XXVII
طلعتْ شمسُ الصباح
لا أمطار في هذا اليوم،
شمسٌ ماكرةٌ تتسلّلُ إلى كرزات حديقتي
المغسولة من الأمس.
شجيراتُ الكرز هيّأَتْ روحَها للتعرّي،
تتودّدُ للريحِ أنْ يرأفَ بعريها،
لكنّ رياح (أوجست) عاتية.
تهزّها بشغفِ مُحارب عائدٍ من الحرب.
الشجيراتُ شبه عاريةٍ ومذهولةٌ أمام الريح،
كعرائس في ليلة زفافهنّ.
الأوراقُ رسائلُ شغفٍ.
حفيفُها دفقات ناي مبحوح،
هسيس هواء في شبّاك مجروح
يا ريحُ كوني طيّبة وخفيفة
كحبيب الروح.

XXVIII
لا شيء في الصباح،
لا شيء إلّا ثلاثة حساسين
تتثاءبُ على غصنِ القيقب.
لا شيء إلّا ريح خجولة
وشروق ناعس
لا شيء إلّا الانتظار اليائس
لرسائل لا تأتي
لا شيء لا شيء
غير أنّي أُحدّق في الفراغ.
لا شيء غير السأم
وعينين خاويتين تنبشان في العدم.

XXIX
(أوجست)، شهرنا المطير،
يأتي كزائرٍ مبلولٍ
تخبُّ أقدامه في الطين،
ينحني للريح والمطرِ.
(أوجست)، هسيس الريح يُفزعُ المُحبّينَ،
مهلًا، غدًا تختفي الأعراسُ،
ويخبّئ المُحبّون حكاياتهم لقادم الأصياف.

XXX
وحدي أنا، أُسامرُ نفسي،
أُلقي عليها نكتًا قديمة، وأضحك.
أحيانًا ألعبُ الشطرنجَ معي.
يدي اليمنى تقود الجيش الأبيض،
لتظفر بالنقلة الأولى،
يدي اليسرى تشفقُ على أُختِها،
وتفشي أسرارها للجنود.
المحاربون تعانقوا عند التخوم،
والأحصنةُ خانتْ ملوكَها،
وغفا في حظائرها الجنودُ،
وأنا ما زلت وحيدًا،
أفكّر في النقلة التالية.

XXXI
قميصي ما زال معلّقًا على الصفصافة،
نظرتُ إليه بأسًى،
ما عدتُ أطيقُ القمصانَ أُحاديّة اللون،
حتّى البيضاء منها.
أريدُ قمصانًا بألوانٍ مبهجة.
فيها زخارف ومنمنمات كثيرة،
وأعشاب ربيع قادم.
قميصًا كحديقةٍ تهبُّ إليه أسرابُ النحلِ واليعاسيب.

مشهور محمد محمود بطران

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى