الخميس ٣١ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم أوس داوود يعقوب

الجرح العربي النازف

أصبح جرحا إنسانيا كونيا

يحتفل العالم في كل عام بيوم الشعر في 21 آذار (مارس)، وهذا ما يؤكد أهمية الشعر بالنسبة لثقافة الأمة أياً كانت ودليل عالمية الشعر. ومثلما كان ولم يزل الشعر ديوان العرب فإنه يعتبر بحق ضمير العالم وقلبه النابض اليقظ الذي يحلقُ بجناحيه فوق العالم ناشراُ المحبة والتسامح، رافضاً الاستبداد والظلم، فالشعر روح الحياة، ونشيد الوجدان، والشعر ليس في اللغة وإنما هو في الوجود بكل مظاهره الجمالية البديعة، وهو مقيم في الموسيقى والرسم وفي كل ما هو بديع جميل. وبالشعر تجسد أدق التفاصيل في بحور التجربة الإنسانية..

وقد أكد الشاعر الكامروني «بول داكيو» في كلمته بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للشعر هذا العام أن « الشعر كان ومازال سفراً للإنسان من أجل ذاته ليقترب من ذهب الجمال الجواني ، وليمدّ يده نحو الآخر المختلف».

وفي مثل هذا اليوم لا أظن أن هناك أسمى وأنبل من الكتابة عن فلسطين التي في القلب والوجدان والفكر والشعر، مع إدراكنا أن الاقتراب من تخومها يبقى دائماً مسألة صعبة جداً، غير أن الدارس يلاحظ أن قضية فلسطين كانت حاضرة في الأدب العربي، شعره ونثره، باستمرار، منذ مطالع القرن الماضي، تغنيه وتخصبه وتمده بألق متميز، والذي يطالع هذا الأدب يرى ذلك رأي العين، ويلمس قوة ذلك الحضور وتميزه. وهذا ليس بمستغرب،إذ الشيء من معدنه لا يستغرب كما يقال، فشعوبنا العربية عاشت قضية فلسطين بتفاصيلها في جميع مراحلها، لا بل امتزجت دماء أبناء أمتنا العربية بدماء المجاهدين من أبناء فلسطين، فما كان من الطبيعي أبداً أن يظل الأدب العربي بمنأى عن هذا الهم القومي والإسلامي.

وكما مثلت فلسطين ـ في الأدب عامة والشعر خاصة ـ أحد أهم مكونات التواصل بين مشرق الأمة ومغربها، فقد كانت كذلك جسر تواصل وجداني وثقافي بين شعراء وشعوب أمتنا العربية والإسلامية وشعراء عالميون انحازوا إلى ضمائرهم ووجدانهم ووعيهم الحضاري ضد آلة القتل والإرهاب الصهيوني والأمريكي.
ومثلما انشغل الشعر العربي بالموضوع الفلسطيني، وصوروا معاناة شعبنا على يد الغاصبين، وتغنوا بعشقهم لفلسطين ومدنها وقراها، ورثوا شهداءها ومجّدوا انتفاضتها الباسلة. انشغل كذلك الكثير من شعراء العالم بفلسطين وما يعانيه أهلها من تشريد أو تجويع أو تهجير أو تقتيل، متخّذين من المواقف ما يمليه عليهم ضميرهم وعواطفهم وحسهم الإنساني، فأن تكون فلسطينياً فهذا لا يعني على الإطلاق أن تكون مولوداً هناك أو تنتمي إلى أهل البلاد قبلياً، فالانتماء الفكري هو الأساس وليس انتماء الدم، وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة الانتباه إلى أولئك الشعراء والأدباء العالميين الذين ينتمون لفلسطين قضية وأرضاً وشعباً من أجل استمرار التواصل معهم لتشكيل جبهة ثقافية حقيقية معهم، ليس في يوم الشعر فقط لأن الشعر في كل الأيام وليس في يوم واحد.

فلسطين في المشهد الثقافي الشعري العالمي

للوقوف على مدى حضور فلسطين قضيةً وشعباً ومقاومةً في المشهد الثقافي الشعري العالمي؛ لنا في دراسة الباحث والأكاديمي الفلسطيني الدكتور محمد عبد الله الجعيدي ـ أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة مدريد ـ (فلسطين في الشعر الإسباني المقاوم .. «سهاد رام الله أنموذجاً»)#؛ نموذجاً جلياً عن مدى حضور فلسطين في الوجدان الشعري الاسباني، الذي هو جزء من الوجدان الشعري العالمي، يقول الدكتور الجعيدي : «من الواضح أنَّ لفلسطين حضورها في الشعر الإسباني المقاوم الذي اشتد عوده وسط معارك الحرب الأهلية الإسبانية الطاحنة، وسيلة تمسك بالحياة وحفظٍ للكرامة الوطنية والشخصية، وتحدٍ للنهج الفاشي الذي نصَّب نفسه وفرض أيديولوجيته ومفاهيمه الضيقة على الواقع الإسباني، بالانقلاب العسكري على الحكومة الجمهورية الشرعية الثانية في البلاد». ويضيف الدكتور الجعيدي: «التقت المظلومية الفلسطينية، بوجهها الإنساني والحقوقي، مع ما في نفوس الشعراء الإسبان المقاومين، في واقعهم الجديد، من رفض لعبث الأجهزة الأمنية والعسكرية، والقتل على البطاقة الشخصية والاغتصاب وتزييف التاريخ، وهي من طبائع الصهيونية صانعة (إسرائيل) وطبائع الفاشية أيضاً صانعة الانقلاب العسكري على إسبانيا الديمقراطية الحرة في 17/7/1936م».

وقد «تميزت صورة فلسطين كأنموذج، بخصوصية محلية، التقت مع ما في نفوس المبدعين من تصور لشرقنا العربي الإسلامي، كما تميز بشمولية إنسانية عالمية جعلتهم يعبرون عما يعيشونه في بلدانهم، من تجارب مشابهة، رغم تنائي المكان عن المكان... ويضفي شعراء المقاومة في العالم الهسباني بعامة، على صورة فلسطين كأنموذج، أطيافاً من نفوس مجربة، استوعبت الواقع الفلسطيني وأبعاده التاريخية والأنثروبولوجية»

وفي هذا السياق يشير الدكتور الجعيدي أن صورة فلسطين تأطرت كنموذج في شعر الشعراء الإسبان، واغتنت صورتها، في شعرهم وضمائرهم، بما وصلهم خبره من فصول تغريبتها الملحمية في ظلام الاحتلال، عبر القراءات الشخصية والمشاهدات ووسائل الإعلام، أو عبر التجربة المباشرة والمشاركة، ومعايشة الواقع الفلسطيني وإفرازاته، عن قرب، معايشة مكانية وزمانية، راحت تتكامل عناصرها ومعطياتها وتنضج، حتى بلغت، عند الشاعر السرقسطي أنخل بيتيسمي في ديوانه «سهاد رام الله، قصائد فلسطينية» ، أكمل أشكالها، وأدقها مواكبةً للوقائع، وملامسةً لحقيقة الوضع المعيش، شاهد عيان ينقل لنا الصورة، ببعديها المادي والمعنوي، نقلاً حياً، على جناح القصيد القادم من قلب الحدث، في الداخل الفلسطيني الأبيّ المنتفض وخارجه المتوثب المنتظر في المهاجر والمنافي، فيحترم منا العقل ويصدِقنا النقل مكفولاً بأدوات إبداع تعمق من واقعية الصورة أنموذجاً...

وقد زار «بيتيسمي» في شباط (فبراير) وآذار (مارس) من العام 2004م فلسطين للمشاركة في الفعاليات الشعبية لمناهضة إقامة جدار العزل العنصري وإدانة الجريمة الصهيونية، في سلب الفلسطينيين أرضَهم وتجريف مزارعهم وحرق محاصيلهم وردم آبارهم وهدم بيوتهم وقتل أطفالهم، وأقام هناك العديد من النشاطات الأدبية والموسيقية، وبعد عودته تصدر في كانون الأول (ديسمبر 2005م)، عن «منشورات اكليبسادوس» في سرقسطة، مجموعته الشعرية «سهاد رام الله، قصائد فلسطينية» التي تحتضن صورة فلسطين من خلال تجربة الشاعر النضالية ضد الاحتلال الصهيوني في هذا البلد، وهي مشاعر تراكمت في صدر مناضل إسباني جمهوري الهوى ملتزم بقضايا الإنسان التحررية والحقوقية والمصيرية، لتتبلور في قصائد انسيابية الأسلوب دقيقة التصوير، تقدم الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال دامياً وشامخاً، وموجعاً وعزيزاً. خلاصة الرسالة التي يحملها شعر «بيتيسمي» وأغانيه إلى القارئ والسامع، هي أن فلسطين وطن مغصوب، وإذا أُنجز جدار العزل العنصري فسوف يصبح سجناً.

يقول الدكتور الجعيدي : في «سهاد رام الله» يقدم الشاعر، على مدى مئة وثلاث وعشرين صفحة، صورة فلسطين تحت الاحتلال، بتقنيات شعرية جديدة تحمل بجماليتها وجدليتها روح التبشير بالأمل في عصر اختلت موازينه، واتسعت الهوة بين طواغيته ومستضعفيه. الديوان مؤطر الصورة هو درع فريد ونشيد جديد، وبيرق للالتزام الإبداعي الإنساني، كما هو فعل شخصي فريد ضد الظلم والعنف ووصمة العار التي تلحق بعالمنا، لصمته مدمي القلوب على عذابات شعب يتجرع وحيداً، أمام آلات تصوير وسائل الإعلام العالمية، الذل والمهانة والتقتيل والحصار، كما هو صرخة جمالية وأخلاقية، ترفعها الصورة الشعرية، في وجه بشاعة كل أسلحة الهيمنة والتعذيب والتنكيل والاغتصاب؛.. وفيه على طريقة الرواة الشعبيين، يشخص الوجع الإنساني في موضعه، وينحاز إلى المستضعفين ويبشر بخلاص قريب:

قل لقلبك أن يخرج إلى الخلاء
وأن ينفض عن جذاه كل حزن:
فالربيع إلى فلسطين آتٍ#

وتبقى صورة فلسطين الذبيحة تحت الاحتلال، عبر قصائد «بيتيسمي» رمزاً للصمود والمقاومة:

«معنى الضياعِ هو التيهُ في المنفى،
وأطفالنا حديثو الولادة، هنا في الضفة الغربية
كما كانوا في بطون أمهاتهم،
لا يزالون يسمعون خرير أنهار دمهم،
ويصرخون في مهودهم،
كلما راحت مراوح السمتيات الحربية
ترسم سهاد
المذبحة»# .

وعلى خطى شاعرنا السرقسطي اهتمّ شعراء عالميون كثر بالفعل الفلسطيني المقاوم، فمجّدوا مفهوم المقاومة، وأشاروا إلى حتمية انتصار الشعب الذي يواجه الرصاص بفعل الخصب، ويقدّم جيلاً جديداً يتابع المسيرة التي بدأها الأجداد، وفي هذا الإطار كتب الشاعر الاسباني «خواكين بينيتو دى لوكاس» واحدة من أجمل القصائد الإنسانية وأهداها إلى «إيمان الهمص» وهى طفلة فلسطينية في ربيعها الثالث عشر ولدت في مخيم رفح للاجئين الفلسطينيين لأبوين شردا من قرية «يبنة» الفلسطينية المغصوبة سنة 1948م، وهى في طريقها إلى مدرستها عام 2004م حيث مزق رصاص الاحتلال الصهيوني جسدها.
يقول في القصيدة:

«لم يكن باستطاعتها أن تتغيب
إنه المستقبل ..
كل يوم كانت تذهب إلى المدرسة ..
مجتازة شوارع من حفر كئيبة ..
تخترق سمعها فرقعات عنيفة من قنابل .
أشد قوة ..
وأشد حزما من صوت المعلم .
وبنظرات شاردة كانت تتأمل بقايا ..
ما كان من قبل بيوتا متواضعة ..
كانت تتلهى ببرك دم جافة بريئة ..
وتتعثر ببقايا حدائد محترقة ..
هكذا كانت تذهب بين يوم وآخر.»#.

ويتوحد الشاعر الكوبي «بدور أوسكار غودينيث» عند جذره الاسباني مع فلسطين من خلال مسقط رأس أسلافه في أسبانيا وهنا تلتقي جذوره بجذور الفينيقيين وتحمله على جناح الإلهام إلى أرض كنعان فتتفتق قريحته عشقاً وإيماناً وابداعاً عن أعذب الأشعار في التغني بجبالها وسهولها وزيتونها وريحانها وتاريخها ومآثر مجاهديها وشهدائها وحجارة أطفالها المنتفضين على الظلم والاغتصاب الأجنبي وهيمنته.
يقول في قصيدته «فلسطين، أنتِ حبَّي»:

«استعد للوثبة المميتة على الرمال المتلظية
واستعد كي لا تجمِّد قبلةُ الصحراء الدمَ في عروقك
لأنك، يا ابن الدم الشارد
ستعود
لأن المفردَ في لسانِك جمعٌ
تذوَّق العنب الشفاف والزيتون الأخضر اللامع والقمح الذي
ينموا في الشفق بلون الذهب
يمد إليك حبوبه الذهبية
مضيئةً
عندما يعود سيف صلاح الدين العظيم
يشدو منتصراً في أرض كنعان كلها
وتُمرَّغ وجوه فرنجة صهيون الجدد
في التراب
تحت النظرة المجردة في قفار العزلة القاتلة
لأنَّ الروح الفلسطينية واحدة
كوردة أريحا المتألقة
وجمع هي السواعد المقاوِمة
مستعدة لنشر ملاطفات فدائية دافئة
على البندقية الفادية
التي يتخلل الفجرُ نيرانَها
لتضيء الدرب، من جديد
إلى قدس المستقبل.»#.

ونقرأ للشاعر الأرجنتيني «بدرو تشاكمكيان» ، من قصيدة له بعنوان «شهيد واحد، فحسب» :
« عندما تترقرق دمعتان من عينيك

وقد سُبِّلتا
تتزيَّنين بحزنك، وتردين غطاء الستر إلى رأسك.
عندما أراك
تنفجر في قلبي
سيول جارفة من ألف لسان فصيح
وأشعر بما تشعرين
أيتها الأم!
أنت أمي أنا أيضاً.
ولدك الذي اكتسى ريشاً
في العش فوق القرميد
لم ينس حنانك
ولا هدهداتك له في المهد.
من مرفأ عينيك الباكيتين
انزلق الفجر مبحراً
ليكتب على أمواج
بحر الشام الوديعة
أناشيد الفرح الآتي
وأشعار العاشقين
الذين سيعودون ذات يوم لديارهم
في مهد الحب الإلهي الذي كان
في بلدي فلسطين، وقد اغتصبها اليوم أبناءُ الحقد
ودنَّسوها... »#.

ويقول الشاعر الفيتنامي «لي كيم» في تلقيه للموضوع الفلسطيني كشاعر مقاومة واجه الطغيان والظلم في بلاده التي تحررت من الظلم وفلسطين لا تزال على الطريق، في قصيدة له بعنوان « العيون الجميلة »:
« في كل مكان، وعلى طرقات الشرق الأوسط، كنت دائماً أقابل العيون الساحرة في الوجوه الفلسطينية:
عيون النساء والأطفال،

آه أيتها العيون الفلسطينية، والعيون العربية.
آه، أيتها النظرات الناعمة...
النظرات التي لا تنسى،
والعيون الحوراء ذات البياض الناصع.
والعيون الواسعة ذات الشعاع النافذ، الذي يخترق
ويخترق.. ويخترق أعماق قلبي
آه، أيتها النظرات الفلسطينية الجميلة...
التي تعتبر مرآه الماضي المجيد، وشعاع المستقبل ورمز الحاضر »#.

وفي قصيدتها « رثاء غزة » تقول الشاعرة الاسترالية «ديبورا رويز وول»:

« لأن الأرضَ في فلسطينَ تُساوي المَوْت
ليس الكلامُ رخيصاً, فإن آلةَ الحربِ
التي تُسْكتُ همس أحلامَنا الأرضيةَ
سوف تُبقينا جميعاً ضِمنَ السلاسلِ
بعيداً عنِ الوصولِ إلى اكتمالِ
إنسانيتنا, بعيداً عن تَوحُدِنا
مع قدسيةِ الحياةِ كلِّها »#

أهم المصادر والمراجع:
الكتب:
الدكتور محمد عبد الله الجعيدي : « فلسطين في الشعر الإسباني المقاوم .. "سهاد رام الله أنموذجاً" »، النسخة الالكترونية، 2007م.
الدكتور محمد عبد الله الجعيدي: « الشعر الأمريكي اللاتيني المعاصر، قصائد من أمريكا اللاتينية إلى فلسطين المجاهدة »، النسخة الالكترونية، بدون تاريخ.
الدكتور محمد عبد الله الجعيدي، « فلسطين في الشعر الاسباني المعاصر »، مراجعة الدكتور حسام الخطيب، مركز الترجمة بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، الدوحة، 2006م.
المواقع الالكترونية:
موقع بيت فلسطين للشعر: http://www.ppbait.org/
موقع الدكتور عبد الله الجعيدي:
http://usuarios.multimania.es/muqawama/Masader_principal.htm

.......
تنويه: نشرت هذه المادة في الموقع الالكتروني لبيت فلسطين للشعر(http://www.ppbait.org/) بتاريخ 21/03/2011م.

أصبح جرحا إنسانيا كونيا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى