الأحد ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم عادل الأسطة

حنين إلى القدس

لَسْتَ تدري متى زرْتَ القدس أول مرة. ربما كان ذلك في أوساط الستينات، ربما كان ذلك تمَّ يوم كنْتَ طالباً مدرسياً، وربما كان ذلك يوم اصطحبتك قريبتك معها لتعالج ابنها هناك. كان ذلك، هكذا يبدو لك الآن، منذ زمن ... منذ زمن سحيق كأنه بداية الخلق.
ولكنك، منذ بداية السبعينات، أخذت تذرع شوارع المدينة، وتسبح في بركة جمعية الشبان المسيحية، وتشاهد مباريات كرة القدم. كان ذلك يوم كنت تذهب إلى حقل الرعاة في بيت ساحور لتنفق هناك عشرة أيام، تزور خلالها القدس. وحين أنهيْتَ التوجيهي زرْت المدينة مراراً، وزرتها أكثر بعد العام 1976، ومنذ ذلك العام غدت القدسُ الكعبةَ التي تحجُّ إليها.

والقدس منذ ذلك العام أخذت تربطك بمكتب جريدة "الشعب"، وبمكتب مجلة "العودة"، وبجريدة "الاتحاد" الممنوع توزيعها في المناطق، وبدار نشر صلاح الدين، وغدت زيارة أصدقاء مثل علي الخليلي وأكرم هنية وإبراهيم قراعين ومحمد البطراوي جزءاً من زيارتك القدس، تماماً كما غدا شراء الكعك المقدسي واجباً لابدّ منه، حتى تقنع أمّك أن السفر إلى القدس لا يعني شراء الكتب وحسب.

وحين غدوْتَ محرراً أدبياً في جريدة "الشعب" أصبح الذهاب إلى القدس – أو السفر إلى القدس على رأي أهل نابلس – عادة أسبوعية، تزور في أثناء وصولك المدينة، مكتب جريدة "الشعب" وقد تُعّرج على المكتب الفلسطيني لتزور عبد الكريم سمارة، وأحياناً كثيرة تجد قدميك تجرانك إلى شوارع البلدة القديمة، وفيها تبحلق في الأرصفة والمحلات والناس الذين هم مِنْ أمَم شتى، ويوم زرْتَ المدينة، ذات سبت، أنجزت قصتك "تلك القدس.. ذلك السبت "، وفيها لم تَرَ القدس في القدس. كانت مدينةً أخرى، مدينةً غير عربية سكاناً.

وحين غادرت فلسطين لمدة أربعة أعوام، كنت تَحِنّ إلى القدس، ولم تُنْسِكَ إياها المدن الأوروبية الجميلة. كنت تحن إلى أصدقائك فيها، كنت تحن إلى شوارعها، وكنت تحن إلى كعكها وإلى كلام أبي علي يعيش على الرغم من أنه كان يبدو لك كلام صاحب جريدة يهمه تسويق جريدته أكثر من باب نشر الوعي الثقافي التي أراد أكرم هنية تسويقها من باب نشر الوعي الثقافي ونشر الأدب الوطني والإنساني. وكلما سرت في شوارع (بامبرغ) أو في شوارع (ميونيخ) أو في الشارع الطويل في (هايدلبرغ)، تذكرت أرصفة القدس وبلاط شوارعها وازدحام الحركة فيها. بل إن وقوفك أمام مبنى الكنيسة في (فرايبورغ) ومبنى الكنيسة في (كولن)، سرعان ما كان يذكرك بكنائس القدس وبيت لحم.
والقدس هي التي علمتك أن تتسلل إليها، بعد أنْ غدا الوصول إليها محرماً على أبناء مناطق الاحتلال الثاني، ولم تكن، وأنت تمر أمام الحاجز، لِتَرْتَبِكَ إطلاقاً. إن أكثر ما سيفعله الجندي لا يتجاوز إعادتك أو حجزك لمدة ثلاثة أيام أو إجبارك على أن تدفع مائة دينار. وكنت منذ 1991 تتسلل إلى القدس لزيارتها أو لتحرير صفحة "الشعب الثقافي" من جديد، أو لحضور مؤتمر ثقافي أو للمشاركة في ندوة أدبية.

والقدس هي التي تذكرك بقصائد الشعراء المشهورين، ومن أجلها أنجزت دراستك "القدس في الشعر العربي المعاصر" والقدس أيضاً هي التي تجعلك تغني مع فيروز "الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان"، ولا تدري ما نوع الإيمان، أهو الإيمان الوطني أم الإيمان الديني ... أم ... أم...؟

وتسألُ نفسك الآن: كم تبعد القدس عن نابلس!!؟ وتصرخ أحياناً: يا قدسُ، يا قدسُ، يا قدسُ!! وفي كل يوم خميس، في صباح كل خميس تفتقد القدس. تذرعُ شوارع نابلس، تجوبها في ساعة، ويبقى من اليوم زمن طويل، كأن يوم الخميس ألف سنة مما نعد في هذه الفانية. وتهمس يوم الخميس: لو كانت الطريق إلى القدس ميسرة، لو لم تكن هناك حواجز لمرّ الوقت سريعاً. وتهمس يا قدسُ!!

وتحن إلى القدس، تحن إلى شوارعها، تحن إلى أصدقائك فيها، تحن إلى مكتب جريدة "الشعب"، إلى كلام أبي علي يعيش: لا تنشر في الصفحة مقالاً واحداً، أنشر عشر قطع حتى يشتري أصحابها الجريدة، وحتى يقرأ القراء، فالقراء يملون من الموضوعات التي تشغل صفحة بأكملها، تحن إلى شوارع القدس القديمة التي تقودك إلى مكتبة يهودية اشتريت منها كتاب (ألف مليم) لتتعلم العبرية، وتحن إلى مقهى التقيت فيه بالكاتب عفيف سالم، عفيف سالم الذي كان ترك الاتحاد ليحرر في صحيفة النهار، وليعيش حياة الصعلكة التي ذكرتك بطرفة بن العبد، وتحن إلى مكتبة المحتسب التي كنت تشتري منها الكتب، المكتبة التي كنت تدفع لصاحبها مما كان محاسب جريدة الشعب يمنحك إياه، وتحن إلى بائع اللوحات التشكيلية الذي كان يتركك تبحلق في اللوحات دون أن يبدو بائعاً متعجلاً.

وتحن إلى تلك المدينة التي غَيَّرَتْ رأي عبد اللطيف عقل فيها، حتى قال:

"لأكاد أقسم أن جسم القدس

من نور

وليست هذه الحسناء من طين وماء"

وتحن إلى القدس!!

الأحد 14/1/2001


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى