الخميس ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

دروب جميلة.. استحضار النكبة

قبل عام من الآن أصدر أكرم هنية مجموعته "دروب جميلة" (2007) وفيما اطلعت عليه من مراجعات لها، لاحظت أنها لم تحظ بما حظيت به مجموعاته القصصية الأولى. حقا إنه أوفر حظا من غيره من الكتاب الذين تصدر نصوصهم دون أن تحظى بمراجعات، بل بكتابة خبر مفصل عنها، إلا أنني أعتقد أنه كان يمكن أن يكتب عنها أكثر.

ثمة قصة في المجموعة قد تبدو لافتة أكثر من غيرها، هي القصة التي اختار عنوانها ليكون عنوانا للمجموعة كلها، وهي "دروب جميلة"، وربما تبدو لافتة في نتاج هنية كله، إذ يستحضر فيها نكبة العام 1948. حقا إنه كان في قصصه الأولى يستحضر التراث: الرسمي والشعبي، مثل النابغة والنعمان بن المنذر وتغريبة بني هلال، ليقول من خلاله فكرة معاصرة، إلا أنه في "دروب جميلة" يستحضر الماضي الفلسطيني نفسه، ليرد في جانب من القصة على الرواية الصهيونية، وليصور في جانب منها ما آل إليه اهل فلسطين في المنافي بعد العام 1948.

في العام 1992 شغلت نفسي بكتابة مقالات نشرتها في جريدة الشعب المقدسية، جمعتها بعد عام في كتاب عنوانه: "الأديب الفلسطيني والأدب الصهيوني"، وكنت التفت إلى الفكرة وأنا أعد رسالة الدكتوراة، ولاحظت أن الأدب الصهيوني يشكل أحد مكونات أدبنا منذ فترة مبكرة، منذ كتب إبراهيم طوقان قصيدته في الرد على شاعر اليهود "رئوبين". وسألحظ أن غسان كنفاني ومحمود درويش ومعين بسيسو وآخرين كتبوا نصوصا تعد، في جوهرها، رداً على الكتابة الصهيونية ودحضا لها. قصة أكرم هنية "دروب جميلة" تعد أيضا ردا على الرواية الصهيونية التي قالت إن فلسطين منذ تركها اليهود قبل ألفي عام غدت أرضا خربة، فالذين أقاموا فيها من العرب حولوها إلى صحراء، لأنهم أبناء الصحراء. وحين كتب (ثيودور هرتسل) روايته "أرض قديمة جديدة"، وصور يافا والقدس وأراضي فلسطين، صورها على أنها أحياء بائسة ومدن بائسة يكثر فيها الذباب والمتسولون والفقراء، وصور أرضها على أنها أرض قاحلة ومستنقعات تحتاج إلى تجفيف.

سيشغل أكرم هنية نفسه في قصته هذه "دروب جميلة"، على لسان راويه طبيب الأسنان، الذي يروي بدوره ما رواه له عيسى اليافاوي، سيشغل أكرم هنية نفسه بالرد على الرواية الصهيونية، وسيكتب عن يافا قبل العام 1948 كتابة تدحض بالأرقام والمعلومات ما أوردته الرواية الصهيونية، وسيبرز صورة مضيئة للمدينة، ولحياة الناس فيها، ولوضعها الاقتصادي والثقافي، ولن يكتفي بذلك إذ سيعزز ما يذهب إليه باقتباس فقرات من كتابة كتاب غربيين، مثل (لامارتين)، زاروا يافا وكتبوا عنها كتابة أبرزت لها صورة مشرقة.

وسيستحضر الراوي في القصة، ابن مدينة يافا الذي يروي روايته الطبيب، سيستحضر طفولته وشبابه في المدينة التي سيظل يحن إليها، وستظل صورتها في ذهنه، وهو في المنفى، صورة جميلة مشرقة على الرغم مما ألم بالمدينة من بؤس ودمار بعد العام 1948، حيث تحولت إلى بقايا مدينة، فلم يعتن بها الإسرائيليون الذين اعتنوا، منذ وقت مبكر، بتل أبيب. كأنما أرادوا من خلال إهمال يافا وإبراز تل أبيب أن يقولوا للأوروبيين، حين يزورون المدينتين، كأنما أرادوا أن يقولوا لهم: انظروا، انظروا إلى الفارق بيننا وبين العرب، نحن نعمر وهم يهملون، نحن أبناء الحضارة وهم يجيدون الخراب، وربما تذكر المرء هنا رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (1968) وما دار من حوار فيها بين بطلها سعيد وزوجته صفية.

بعد هزيمة العام 1967 سمحت السلطات الإسرائيلية لأهل الضفة الغربية بزيارة حيفا ويافا وتل أبيب واللد والرملة والكرمل، لكي تقول لهم، ما قاله سعيد في رواية كنفاني: انظروا، ها نحن حولناها إلى جنة. ويعقب سعيد على كلام زوجته التي دهشت لما غدت عليه حيفا: كان بإمكاننا أن نجعلها أفضل بكثير.

أكرم هنية في "دروب جميلة" لا يقول هذا كما قال سعيد، وإنما يبرز صورة لمدينة يافا تقول أن فلسطين لم تكن صحراء قاحلة أصلا، إنها كانت مزدهرة، وما حل بها من خراب إنما تم لإهمال المدينة بعد نكبة 1948 ومغادرة أهلها لها.

نحن الآن على أبواب الذكرى الستين للنكبة التي بدأت تحضر في نصوصنا: في "دروب جميلة" وفي "ماء السماء" ليحيى خلف، وفي الملهاة الفلسطينية: "زمن الخيول البيضاء" لإبراهيم نصر الله، وفي "في حضرة الغياب" لمحمود درويش أيضا، وإن كان الحضور هنا جزئيا. وربما تساءل بعضنا: لماذا استحضار النكبة؟ سأتذكر حواراً أجريته في العام 1986 مع الشاعر المرحوم عبد اللطيف عقل، سألته فيه: لماذا استحضار الحسن بن زريق في شعرك؟ لماذا استحضار الماضي؟ وسيقول لي: أنا لا أستحضره، إنه حاضر فينا. هل نحن نستحضر النكبة أم انها حاضرة فينا؟ سؤال، مجرد سؤال.

هامـش: وجــه يافـــا

"وجه يافا" هل هذه الجملة لأدونيس؟ لم أعد أذكر، لكنني ما زلت أذكر "وجه يافا"، وما زلت أذكر شاطئها وميناءها وتلك التلة التي تشرف على البحر، ما زلت أذكر الساعة والشارع المرقم بالرقم 60، وما زلت أذكر فرن دار أبي العافية الذين تَمت أمُّ أصحابه بصلة قرابة لأمي، فهي ابنة عم أمي، وما زالتا على قيد الحياة.

"وجه يافا". لماذا وجدتني أكرر هذه الجملة هذا الأسبوع، وأبحث عنها في بعض كتب الأدب الحديث في مكتبتي؟ الذكرى الستون للخروج الكبير، الخروج من الجنة تدق على الأبواب، كما يأتي صوت فيروز من بعيد: أذكر أن لنا بيتا في يافا. وما زلت أحلم بالمدينة. ثمة حنين غامض بين ثناياي إليها على الرغم مما رأيته فيها، حين زرتها، وعلى الرغم مما قاله راشد حسين فيها حين رأى أحوالها، بعد العام 1948، إثر إهمال الحكومات الإسرائيلية المتعمد لها، لأبنيتها، لشوارعها، لحركة العمران فيها:

مداخن، الحشيش في "يافا" توزع الخدر
والطرق العجاف.. حبلى.. بالذباب، والضجر
وقلب يافا صامت أغلقه حجر
(يافا-لمن يجهلها-كانت مدينة
مهنتها تصدير برتقال
وذات يوم هدمت.. وحولوا
مهنتها.. تصدير لاجئين).

"وجه يافا". لماذا أتذكر الآن وجه يافا؟ لماذا لم أشعر بغربة فيها؟ سأتذكر ما قاله كاتب إسرائيلي عراقي المولد والنشأة، لعله شمعون بلاص، حين رأى حيفا من الطائرة وهو قادم من بغداد: إنها مدينة جميلة تستحق أن يعاش فيها. هل قلت أنا هذا عن يافا؟

سأزور المدينة بعد العام 1967 مرارا، سأزورها بعد أن تعلمت في المدرسة قصائد أبرزت لها صورة جميلة، وبعد أن أصغيت إلى أبي وأعمامي يتحدثون عن طفولتهم فيها، عن البحر والمنزل والشباب الذي خلعوه على ملاعبها، وسارى أنها مدينتي التي أورثني أهلها/ أهلي حبها، وزرعوا في طفولتي فكرة أنها مدينتي، وأنني في المخيم أقيم إقامة عابرة مؤقتة. وجه يافا، ما زلت أذكره، وثمة حنين إليه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى