الأحد ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٣
بقلم إبراهيم مشارة

ذاكرة الحج

حين تخلو مكة من رجالها في مهرجان القيس*

كان مما اعترف به الشاعر الغزلي عمر بن أبي ربيعة تعرضه للنساء أثناء تأديتهن لركن الحج وخاصة في الطواف وتشبيبه وتغزلهن بهن:

يقصد الناس للطواف احتسابا
وذنوبي مجموعة في الطواف

وقد حفلت دواوين الشعر القديم بكم كبير من أمثلة هذا الشعر الذي احتفى بالمرأة وهي حاجة، رامية، طائفة وبجراءة الشعراء العشاق عليها وعدم مراعاتهم لحرمة المكان وعظمة الركن.

والحق أن مكة والحجاز عموما عرف في القديم بالغناء وكان من أشهر المغنين المكيين ابن مسجح والغريض وابن سريج وابن محرز وكثير من الحبور والشعر والمرح عاشه الحجاز خاصة أثناء حكم بني أمية وفي ظل حكم يزيد بن معاوية كما ذكر ذلك المسعودي.

حتى إن الشاعر الأموي جرير قال مرة وقد سمع صوتا من ابن سريج: (لله دركم يا أهل مكة ماذا أعطيتم والله لو أن نازعا نزع إليكم ليقيم بين أظهركم فيسمع هذا صباح مساء لكان أعظم الناس حظا ونصيبا).

وبدورها حلمت المرأة المكية بمدينة بلا رجال وحقق لها ركن الحج ذلك وهكذا أبدعت بمفردها مهرجان القيس الذي اختفى في الستينيات فقط.

حلم المرأة بمدينة بلا رجل حلم قديم يقول الطرطوشي عن هذا الحلم: (مدينة كبيرة واسعة الرقعة في جزيرة في بحر المغرب أهلها نساء لا حكم للرجال عليهن يركبن الخيول ويباشرن الحرب بأنفسهن ولهن بأس شديد عند اللقاء ولهن ممالك يختلف كل مملوك بالليل إلى سيدته ويكون معها طول ليلته ويقوم بالسحر ويخرج مستترا عند انبلاج الفجر فإذا وضعت إحداهن ذكرا قتلته في الحال وإن وضعت أنثى تركتها ،وقال : مدينة النساء يقين لا شك فيها).

إن هذا الإصرار من الطرطوشي على توقيع الخيال يعكس في الواقع رغبة المرأة على التوفر على فضاء لا يوجد فيه رجل تخلو فيه إلى صويحباتها وإلى نساء الحارة وتمارس حياتها بلا تقتير ولا تضييق ولا إحراج ولا مراقبة حتى إن القزويني تحدث عن جزيرة للنساء في بحر
*القدس العربي 12 يوليو 2021

الصين (فيها نساء لا رجل معهن أصلا وإنهن يلقحن من الريح ويلدن النساء مثلهن وقيل إنهن يلقحن من ثمر شجرة عندهن يأكلن منها فيلقحن ويلدن النساء ).

وفي هذه الحكاية من القزويني يقف القارئ على رغبة قوية عند الأنثى في وأد الذكر رمزيا مثلما وأدها حقيقة هو ورغبة كذلك في نفيه وإبعاده من ساحتها وهي لا تحتاجه لتلقيحها فتلقحها الرياح أو ثمر الشجر، تلد الأنثى مثلها وإن ولدت الذكر قتلته.

يأتي مهرجان القيس الذي عرفته مكة المكرمة في شهر الحج حيث تبقى مكة المدينة الوحيدة في العالم التي تخلو من الرجال أيام الحج يقول الغذامي عن مهرجان القيس: (وتأتي الحكاية عن مهرجان نسائي خالص النسوية تمارسه وتمثله وتبدعه النساء في مكة المكرمة أيام الحج وذلك لأن مكة تخلو من الرجال خلوا تاما في الأيام الأربعة التي يخرج فيها الجميع إلى المشاعر المقدسة في عرفات ومزدلقة ومنى بدء من يوم التروية وهو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر من الشهر نفسه ومن عادة المكيين أن يرحلوا إلى المشاعر هناك لخدمة الحجيج ويتفقدوا مصالحهم التي يعتمد عليها اقتصاد ومعاش الأسرة المكية وهذا يجعل مكة خالية من الرجال لمدة بضعة ليال وأيام ويتبقى النساء وحدهن في المدينة).

ويقول أبو بكر أحمد باقادر صاحب أطروحة جامعية في الموضوع :(القيس مهرجان نسائي غنائي تنكري في مكة).
هكذا يأتي مهرجان يضرب عدة عصافير بحجر واحد فهو من جهة لخدمة الحجيج وما في ذلك من الأجر والمثوبة وقد قدموا شعثا غبرا من كل فج عميق ،فيهم العاجز والضعيف والمقتر والموسر والشيخ والعجوز ولا ريب في أنهم يحتاجون إلى من يرعى أمورهم ومن جهة أخرى يخدم اقتصاد الأسرة المكية فهو عمل مجز يساهم في تحسين اقتصاديات الأسر في مكة.

ومن جهة أخرى يعد هذا المهرجان استمرارية لذلك الإبداع والمرح والفن الذي عرف به الحجاز في الجاهلية وفي الإسلام وخاصة في العصر الأموي حيث نبغ مجموعة من المغنين والمغنيات وحفلت كتب الشعر والأدب بأخبارهم وأشعارهم ولياليهم. ومن جهة أخرى يحقق المهرجان للمرأة رغبتها في إبعاد الذكر ولو لمدة والتحرر من مراقبته ومضايقته وإحراجه في ليال أنثوية خالصة تخلو للشعر والغناء والرقص من حارة إلى حارة من بعد العشاء إلى انبلاج الإصباح.

تتجاوز المرأة في مكة الأمر من تخيلات الطرطوشي والقزويني إلى توقيع الخيال ورده حقيقة ببصمتها الشخصية حيث تخرج النساء بعد العشاء يطفن في شوارع مكة من حارة إلى حارة ترتفع أصواتهن مخشنة- تقليدا للصوت الذكوري- بالغناء والرقص والتصفيق والمرح وقد حلي الوجه بالشوارب واللحى تلبس لباس الرجل وتمثل مختلف أدواره كشريف مكة ورئيس الشرطة وشيخ الحارة ونساء بلباس العساكر وأزياء العلماء ورجال المدينة وشيوخ القبائل ومعهن أطفال بلباس القرود وتحمل النسوة ما يعرف بمجسم الغزالة بطول متر ونصف وبعرض ثمانين سنتمترا وبداخله امرأة وتستلهم الحكاية من قصة قيس بن الملوح وليلى العامرية لكن التهكم والسخرية من المجتمع الرجالي ومن رقابته ومضايقته التاريخية جلية في الأهزوجة التي يرددنها:

يا قيس يا قيـس
يا دقن التيــــس
الناس حجـــــوا
وأنت قاعد ليش

هكذا يرغب الرجل في الحج ومغادرة مكة ربحا لثواب أداء الركن وربحا للمال وربحا لأجر خدمة الحجيج وترك النساء على حريتهن بلا رجل وحتى لا يقع فريسة للتهكم والضرب أو الاختباء في البيت:

الناس حجــــــــــــوا
وأنت هنا ليش ليش
قوم روح بيتـــــــك
قوم اخبز العــــــيش

وتقال هذه الأهزوجة للعساس الذي يفترض إنه بقي وحده فيتهكم منه بتولي شغل المرأة لأن لا رجل في المدينة فحضور المرأة يقتضي غياب الرجل والعكس هكذا من خلال هذه الأهزوجة لا يستطيع رجل أن يخرج إلى الشارع فيغدو مصدر تهكم يبلغ حد الضرب:

أبو الصمادة والعقـــــال
من يوم شفته عقلي طار

التهكم من شريف مكة ظاهر في هذا البيت عبر التشهير بعلامته (الصمادة والعقال) وطيران العقل إمعانا في السخرية.
وماذا تقول النسوة لشيخ الحارة وقد تنكرت واحدة في زيه:

وان جـــــاء يهرجني
ما أبغي أهرجــــــــه
وان جــــــاء يكلمني
ما أبغي أكلمــــــــــه
ما أبغي أهرجـــــــه
ما أبغي أكلمـــــــــه

إنه الامتناع عن الكلام مع الذكر والامتناع عن كل مشاحنة وتعال على كل نقاش ومذاكرة مع جنس الرجال فهو زمن للأنثى وفضاء لها فقط تمارس فيه حريتها وتفصح عن رغبتها ومكبوتها وتحتفي بحلمها القديم القديم.

يقول وليد شلبي:( حال البيوت والشوارع قبل خمسين عاما مضت إذ كان الصمت يسكن أرجاء كل مدينة من مدن الحجاز وما أن يرخي الليل أستاره حتى تستعد الحجازيات للقيام بمهمة الحراسة وتأمين الحي وكن يخرجن في أزياء رجالية مختلفة ويتفنن في إظهار أجمل الأصوات وأحسن الإيقاعات ودق الطبول في إيقاع معين بعد أن يقسمن أنفسهن إلى مجموعتين وأضاف أن تسمية المهرجان بهذا الاسم يعود إلى اختيار إحدى النساء اسم رجل قيس الشخص السليم المتعافي عن خدمة الحجيج).

لقد تحول الذكر إلى مصدر تهكم فهو قابع في مجسم الغزالة يحمل على الأكتاف حيث تمثل امرأة دوره وهو إن لم يحج أو يذهب إلى المشاعر مختبئ في داره لا يجرؤ على الخروج حتى لا يتعرض للتهكم والضرب وتزف ليلى إلى قيس وهو بلباسه الذكوري( الثوب والغترة ) وهكذا تمارس المرأة عبر اقتحام أمكنة ذكورية - محرمة عليها في وجود الرجل - والصوت والأهزوجة ما لم تمارسه بالقلم والكتابة وتفضي وتفصح وتعلن عن رغبات مكبوتة وأحلام مجهضة في التوفر على نص أنثوي لا تحاكي فيه الرجل ولا تقاس به يقول الغذامي:( الغائب هو النص المكتوب النص الذي حاولت المرأة أن تكتبه فلم تستطع كتابته ،ولذا سعت إلى أن تفصح عنه بواسطة الحكاية ومارست الحكي على مدى قرون،ثم جاءت المحاولة في مثل هذا المهرجان لكي تجسد المرأة حكايتها من خلال تحريك جسدها وصوتها ليكون الجسد والصوت أداة لغوية تمثل القلم والورق فتسطر قصتها وتدون حكايتها وهذا مدلول هذا المهرجان).

حين ينتهي الحج ويعود الرجال إلى مكة تكون النساء المكيات قد احتفلن في ليلتهن الأخيرة ورقصن وتطارحن الأشعار والنكات ورقصن رقصات الفرح ومارسن الشقاوة وهتفن لآخر مرة:

هيا هيا على البيت
هيا هيا زي الطير
الليلة غلقــــــــــت
والسنة الجيه بخيـر

هكذا تضرب المرأة المكية للمهرجان موعدا في العام القادم وفي موسم الحج التالي ولكن ظروف الحياة تغيرت فقد اختفى المهرجان في الستينيات وذلك لاستحالة خلو مكة من الرجال في الوقت الحالي بسبب توفر المواصلات وإمكانية العودة للرجال في المساء.

يعكس هذا المهرجان جانبا فنيا من جوانب مكة المكرمة وهذه المرة عبر نسائها وهو استمرار لذلك الجو التاريخي الذي احتفت به كتب الأدب والشعر منذ العصر الأموي خاصة ،كما يعكس رغبة دفينة عند المرأة في ممارسة نديتها وجدارتها واحتفائها بأنوثتها ولو عبر الحكي والتمثيل والصوت والحركة والرمز خاصة في التنكر في أزياء رجالية مع الاحتفاظ بطابع التهكم والسخرية ولو أن المرأة دخلت إلى عالم الكتابة ومارست الإفضاء بالقلم تلك الأداة الذكورية التي ظلت حكرا على الرجل آمادا عديدة وولد النص النسوي - شعرا ورواية ومقالا- ولكنه يظل يحتاج إلى مزيد من الصقل والتميز والخبرة فمازالت اللغة ذكورية ومازال التراث ذكوريا كله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى