الأربعاء ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠٠٨

رحيل الفنانة العراقية نزيهة سليم

أحمد بزون - السفير اللبنانية

لا يستمد رحيل الفنانة العراقية نزيهة سليم، عن 81 عاماً، قوته من حضورها الطاغي في الساحة الفنية، في سنواتها الأخيرة، إنما من خلال غيابها القسري والكآبة التي تضرب مزاجها والعزلة التي تتحصن خلفها أولاً، وكونها آخر عنقود عائلة محمد سليم الموصلي ثانياً. تلك العائلة التي شكلت عصباً قوياً في التشكيل العراقي، إذ ما زال نصب الحرية يرتفع في ميدان التحرير بوسط بغداد. ورغم كل الإهمال الذي طال إرث جواد سليم، ما زال تاريخه يلمع، رغم كل الغبار الذي غطّى منزله الذي توفيت فيه نزيهة سليم، والذي كانت الوعود تُضرب، منذ أكثر من عشرين سنة، لتحويله إلى متحف، من دون أن يتحقق وعد منها.

يكشف رحيل نزيهة سليم كل السلطات التي تدعي حرصها على الفن والفنانين، فالفنانة التي كانت تعيش عزلتها القاتلة، وتعايش مرضها الصعب، وتحاول مداواة نفسها ببعض الفن، وفقرها ببيع بعض لوحات البيت لتسد رمقاً، لم تكن لتتلقى أي التفاتة، لا من نظام صدام حسين السابق، الذي ساهمت مع أخوتها في إسناد متحفه بالمزيد من الأعمال، ولا من النظام الجديد الذي يدّعي المغايرة والغيرة على الفن والثقافة.
بقيت نزيهة سليم تقفل الباب على نفسها خوفاً من عصابات السرقة والقتل، وقد كانت إبان الغزو الأميركي للعراق تعيش عزلة حتى عن سماع الأخبار ، إذ لم تكن تملك راديو تعرف من خلاله ما يجري في الخارج، تنتظر موتها وتعيش مرضها، في أي لحظة. وقد توقفت عن الرسم، وغابت أخبارها عن الوسط الفني والإعلامي العراقي والعربي، وباتت الأخبار عنها شحيحة، فأتى خبر رحيلها فاجعة مزدوجة وغياباً متجدداً. صحيح أن بعض الجمعيات، وحتى وزارة الثقافة، تذكرتها في السنوات الثلاث الماضية، لكن بميداليتين أو ثلاث، لا تسمن ولا تغني من جوع.
يذكّرنا رحيلها، بتاريخ الفن العراقي، بعائلة فنية بدأت بالوالد محمد سليم الموصلي، الذي كان له ولولديه سعاد وجواد سليم دور كبير في تأسيس أول جمعية للفن هي «جمعية أصدقاء الفن»، وهي أخت جواد سليم الذي لا يزال نصبه، نصب الحرية، يدهش العراقيين، ويشكل رمزاً بارزاً للفن العراقي وللنفس الثوري الذي تربى عليه العراقيون، وقد صمد هذا النصب عندما انهارت أنصاب كثيرة في بغداد وسواها من مدن العراق، وهي أخت الفنان سعاد الأكبر بين أخوتها، والذي حمل اسمه الخاص، وإن كانت شهرة جواد وديناميته جعلتاه يتخطى جميع أفراد العائلة لا بل العديد من الأسماء التشكيلية العراقية الكبيرة. نزيهة هي الأصغر، وتأتي بعد نزار، الذي كان له حضور مهم هو الآخر في الساحة الفنية العراقية.
ومع كل الدور الكبير الذي لعبته عائلة فنية مؤسسة للفن إن على مستوى الرواد أو مستوى الجمعيات الفنية، فقد شاركت نزيهة سليم في أكثر معارض «جماعة بغداد للفن الحديث»، التي أقيمت في داخل العراق وخارجه. وساهمت في تأسيس جمعية الفنون التشكيلية، وكانت مساندة لجماعة الرواد الفنية.


بغداديات

وهي مثل أخيها جواد استطاعت أن تخلع عنها ثوب الدراسة الفنية في بلاد الغرب، لتنتبه إلى موضوع تأصيل الفن بالاستفادة طبعاً من منجزات الغرب. فالفنانة التي راحت ترسم نساء بلادها والحارات والعمارة البغدادية بروح شرقية بارزة، تعلمت في باريس، وكانت أولى نساء بلادها في «البوزار»، وأولى الفنانات العرب، ومعها الفنانة اللبنانية سلوى روضة شقير (مواليد 1916)، المتخرجات من البوزار في باريس العام ,1951 وإن كانتا على خلاف في التوجه، فنزيهة سليم اتجهت نحو الواقعية المطعمة بالحداثة وتطوير الشكل بالتجريد، والثانية اتجهت نحو التجريد الصافي المطعم بالفن الإسلامي.

لم تهمل نزيهة سليم الموضوع ولا الواقع الذي ينتمي إليه هذا الموضوع، أو تنتمي هي إليه، فقد راعت إلى حد بعيد مجتمعها وتماهت معه، وإن شعرت باصطدامها به في البداية، قبل أن تنتقل إلى شيء من المحافظة، وتكفّ عن رسم صديقاتها وأحلام صباها، نحو رسم الفلاحات وبائعات اللبن والمرأة العراقية التقليدية وقارئة الفنجان. وإذا كانت تنحو في خطوطها نحو التبسيط وبعض العفوية الطفولية، فلأنها أساساً أحبت رسوم الأطفال وقضت عاماً كاملاً في التخصص بدراسة رسوم كتب الأطفال ومسرح الأطفال في ألمانيا الديمقراطية (سابقاً).

تقول لفاطمة المحسن، في حوار نادر قطفته منها بعناء، العام 2003: «تأثرت بأستاذي فرناند ليجيه الفنان المعروف، ثم عملت بورتريهات تأثراً بموديلياني وأسلوبه. وعندما عدت إلى بغداد في الخمسينيات، استأنفت مشروع رسم النساء، الذي بدأته على النهج الواقعي أول الأمر، أعطي للريفيات وبائعات اللبن مبلغاً من المال، وأطلب منهن الجلوس أمامي، وكل صديقاتي وطالباتي رسمتهن، فكانت بعض معارضي تسبب إشكالياتÅعائلية، فالعوائل المحافظة ترفض صور بناتهن، فأضطر إلى الامتناع عن عرضها، وهكذا كنت أذهب أنا إلى الأسواق والجوامع والطقوس الشعبية ومنها عزاء الحسين والأعراس وغيرها».

مأساة

تلك هي، بكل بساطة مواضيع الرسم والمناهل التي أخذت منها أشكال لوحاتها وشخوصها وألوانها، تصوّر الواقع، وتجتهد في تحميله شاعرية التراث والروح الشرقية العراقية، بل شاعرية العمارة والريف وأشكال البسطاء من الناس.

كان والدها معلمها الأول، فهو العراقي الذي خدم ضابطاً في الجيش العثماني، وكانت له مساهمته الفنية مع سواه من المؤسسين في الفن التشكيلي العراقي، ثم كان أخوها جواد سليم أستاذها الثاني، الذي علّمها في كلية الفنون وتأثرت به قبل أن تنطلق نحو فرنسا، وتطلع من قرب على الحداثة الفنية في بلاد الغرب، وبعد عودتها، متأثرة ببغدادياته وبنائيته وصوغ حداثته المحلية، قبل أن تنطلق نحو تبسيط أكثر وتلقائية وارتجال، تناسب الموضوعات الشعبية التي ركزت عليها. وربما بتميّزها عن أخيها وريادته في الفن التشكيلي، كامرأة عراقية تترك أنوثتها وشعريتها الرقيقة أثرها في فضاء اللوحة، بعيداً عن ذلك العنف التعبيري الذي قد يعتمده الرجال، كان لها فضل المساهمة في نهضة الفن التشكيلي العراقي، الذي بدأ يعيش طفرة مهمة وانتعاشاً ملحوظاً بالمقارنة مع المنطقة العربية، خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.

سُرق الكثير من لوحات نزيهة سليم التي كانت في المتحف العراقي الكائن في مركز صدام للفنون، أثناء وبعيد الاجتياح الاميركي للعراق العام ,2003 ولم يبق من تلك الاعمال، حسبما ورد في أخبار الفن العراقي، سوى القليل منها.

لا شك في أن شهرة أخيها جواد سليم في الساحة الفنية العراقية والعربية، كانت تحجب شهرتها وتجربتها، وقد اعترف الإعلام العراقي بالتقصير من ناحيتها، لكنها امرأة مؤسسة، ثانية نساء الفن التشكيلي في العراق بعد مديحة عمر (1909ـ 2006)، التي لعبت دوراً ريادياً في اللوحة الحروفية العربية، بل كانت صاحبة اللوحة الحروفية العربية الأولى، العام .1946

تختصر نزيهة سليم، بغيابها، المعاناة التي عاشها الفنان العراقي، عندما حجز نظام صدام حريته، وأفقده الحصار أدواته وقدرته على العطاء ولقمة عيشه، ولم يعوّض النظام الجديد، بمراحله المختلفة، أي خسارة أصابت الفن والفنانين العراقيين.

أحمد بزون - السفير اللبنانية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى