الأربعاء ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم بوشعيب الساوري

رواية اعترافات امرأة لعلي أفيلال

بين البوح بمعاناة الذات وكشف المسكوت عنه في أوضاع المهاجرين

بإصداره لرواية اعترافات امرأة عن منشورات نادي القلم المغربي 2007 والتي تقع في 198 صفحة من الحجم المتوسط والمتكونة من اثنين وعشرين فصلا، يكون علي افيلال قد حقق تراكما روائيا مهما يتجاوز خمسة عشر نصا. وتتميز نصوصه الروائية بخصوصية وهي جعله من أوضاع المهاجرين، سجلا أساسيا في بناء عوالمه الروائية التي تستند على محكيات مستقاة من تجارب حياتية مختلفة للمهاجرين، خصوصا النساء منهم. وأمام هذا التراكم أصبحت روايات علي أفلال تمثل ذاكرة مهمة لحيوات كثير من المهاجرين التي وجدت طريقها إلى التدوين.

ورواية اعترافات امرأة لا تخرج عن ذلك التقليد الذي وسم به علي أفيلال نصوصه الروائية. إذ تحكي الرواية قصة امرأة مهاجرة مغربية (هدى) تنتظر حبيبها الأول والأخير، بعدما بلغت تقدمت في السن ووهن الجسم بسبب مرض السكري، الذي كان زميلا لها زمن دراستها الثانوية بالمغرب، فتحولت الزمالة إلى حب. لكن الظروف الاجتماعية المتباينة لكل منهما هو ينتمي إلى أسرة فقيرة تسكن بحي صفيحي، بينما هي تتنمي إلى أسرة غنية، إضافة إلى سلطة التقاليد التي أقبرت ذلك الحب، الذي لم ينطفئ لدى كل منهما. فأجبرت هدى على الزواج من ابن عمها، أما هو فقد فرض عليه خاله الذي تكفل بدراسته الزواج من ابنته الخرساء. ثم انقطعت الصلة بينهما وكل واحد اتبع مساره في الحياة. وبعد أن رأته في إحدى الحدائق بفرنسا، ضرب لها موعدا لزيارتها. وفي انتظار تلك الزيارة التي تعيد الحياة إلى جسمها المريض وتنعش روحها. تقوم الساردة هدى بتسليط الضوء على مسار حياتها بعد زواجها من ابن عمها، والويلات التي جرها لها، إلى ان أصبحت مريضة بداء السكري، وامتناع ابنتها عن الزواج بسبب ما شاهدته من فشل في علاقة والديها. انتقلت إلى فرنسا لمتابعة دراستها لتكتشف أن زوجها، الذي كان يدرس الاقتصاد، قد أصبح نصابا يتحايل على القانون ويزوّر أوراق الإقامة مستغلا نساء ضعيفات. وهو ما سيقوده إلى السجن. تابعت دراستها إلى أن أصبحت طبيبة، بينما هو توالت انحداراته وواصل انهياره خصوصا بعد وفاة والديه على إثر حادثة سير في الوقت الذي كانا في طريقهما إلى زيارة العم المريض بالمستشفى فمات الثلاثة في يوم واحد، عاد الزوج من فرنسا وتولى تبديد ثروة والديه إلى أن أفلس.

تحفل الرواية بمعالجة العديد من القضايا التي لها صلة بأوضاع المهاجرين بالتحليل والتفكير والتأمل عبر الحوار الذي يتم أثناء عملية سرد الحكاية بين الساردة وصوتها الداخلي، وأهمهما قضيتان تتفرع عنهما العديد من القضايا:

 قضية سلطة التقاليد وخصوصا ما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية التقليدية وآثارها السلبية على الأجيال الجديدة، حيث تسود تقاليد اجتماعية يصعب التخلي عنها على مستوى العائلة والتحكم في الأبناء وتوجيه مستقبلهم والتأثير عليه دون مراعاة المشاعر والميول، من خلال استجابة الأب التلقائية لطلب أخيه بتزويج ابنته هدى(الساردة البطلة) من ابنه دون أن يستشيرها. تقول:"كان أمر الأب بالزواج بابن العم لا مرد له."(ص.13.) وإبراز تبعات ذلك الاختيار، من عنف الزوج ليلة الزفاف. تقول الساردة:"انقض علي كما ينقض الوحش الضاري على فريسة ضعيفة."(ص.74.) واستمر ذلك العنف في حياتهما المشتركة بفرنسا، فتعيش هدى معه في غياب تام لأي عاطفة تجاهه، خصوصا بعد اكتشافها لاحترافه النصب والاحتيال الذي سيقوده إلى السجن، واستمراره في ذلك بعد خروجه. وأكثر من ذلك كان من تبعات تصرفات الزوج أن أصيبت هدى بداء السكري. لكن الرواية تبرز كيف قاومت هدى على الرغم من معاناتها وكيف استطاعت تحقيق أهدافها، بدراسة الطب إلى أن أصبحت طبيبة. كما تبرز الرواية انعكاسات ذلك الاختيار على البنت سخاء التي كانت نتيجة لذلك الزواج والتي قررت عدم الارتباط بأي رجل كان وقررت أن تدرس بدورها الطب وتتخصص في أمراض القلب.

 المسكوت عنه في حياة بعض المهاجرين، بإظهار الوجه الآخر لصنف من المهاجرين يتظاهرون بالالتزام ويوهمون الناس بأنهم يكدون ويجتهدون بالمهجر. لكن في حقيقتهم يقومون بأعمال مخالفة للقانون. وقد مثلت الرواية لذلك بشخصية توفيق الزوج الذي فُرض على هدى استجابة للتقاليد. والذي أوهم والديه بدراسة الاقتصاد، لكنه كان يعيش على النصب والاحتيال والتزوير واستغلال النساء الفقيرات استغلالا ماديا وجسديا. تقول:"بل كان نصابا ومحتالا، يعرف كيف يحتكر، وبمهارة، القادمات من ربوع محيطهن المتخلف ليكافحن فقرهن، بكل ما تحتم عليهن الحاجة إليه، فإذا بهذه الحاجة تدفع بهن إلى زوجي."(ص.81.). كما سلطت الرواية الضوء على فئة من المهاجرات اللواتي هاجرن من أجل تحسين أوضاعهن المعيشية، فوقعن تحت حبال الاستغلال المادي والجسدي من أجل الحصول على أوراق الإقامة.

يفتتح السرد في رواية اعترافات امرأة بمشهد انتظار الساردة لحبيبها القديم، الانتظار الذي يكون فرصة لنبشها في ذاكرتها من أجل بعث ذلك الحب القديم وإحيائه عبر تقنية الاسترجاع والتذكر وغيرها من التقنيات السردية التي تضيئ تلك العلاقة القديمة. وإبراز كيف انبعثت ولم تنس على الرغم من مرور السنين وكبر سن طرفيها وعلى الرغم من افتراق طرقهما الحياتية وتغير أوضاعهما الاجتماعية والصحية، تلك التجربة التي تعيد الحياة إلى الساردة. تقول:"ذاب وتلاشى كل ما كنت أحس بوقعه ثقيلا على ذاتي. غدوت بسرعة، سليمة معافاة، لا أشكو ضعفا ولا ألما، لا بالظهر ولا بالساقين والركبتين.. ولا عياء مما أحمل من طول الأعوام التي عشتها بعيدة من هذا الذي قال إنه سيأتي."(8)

وتبعا لذلك كان السرد فرصة لإجراء مقارنة بين حاضر جسد هدى وماضيه، مع التأكيد على ثبات القلب ووفائه، بالمقارنة مع الجسد. تقول:"كل هذا غير فتنته تراكم الأيام إلا من القلب، لم يبد عليه ما بدا على الجسم والوجه."(ص.13.) من خلال استعادة الساردة لتجربة ماضية ومعاناتها بالتأمل فيها انطلاقا من وعي حاضرها بمتغيراته وشروطه.
يتطور السرد وينمو عبر حوار بين الساردة ونفسها بواسطة أسئلة محفزة للذاكرة على الاسترجاع والتذكر؛ استرجاع قصة الحب وتشعباتها الكثيرة؛ كيف خرج الحب إلى الوجود أثناء فترة التعليم الثانوي، وكيف نما وتطور، وكيف تكسر بعد الحصول على شهادة الباكالوريا، وكيف عاد للظهور بعد عمر طويل.

هناك ساردان في سارد واحد؛ صوت يتميز بالذاتية وهو الذي يعبر عن الساردة البطلة هدى، وصوت يعبر عن عقلها ينهج الموضوعية والتحليل والتأمل. لذلك نجد السرد يتميز بسمتين متلازمتين وهما الاسترجاع والتذكر المصحوبين بتحليل لعلاقة الحب القديمة الجديدة. فالسارد الثاني محفز للساردة البطلة على متابعة الحكي. ليصير السرد بذلك تأملا في تجربة ماضية لم تنته بعد، ما زالت آثرها قائمة وتبعاتها بادية في حاضر الساردة، بعد المسافة الزمنية، وجعل الساردة البطلة تستعيد التجربة بقلبها وعقلها، استرجاع مشوب بالحنين والشكوى والندم والتحسر، وكذلك بالتأمل والتحليل. هناك استرجاع وبوح مصحوب بتحليل مفعم بالمرارة والأسى عن الساردة البطلة هدى.

ينبني السرد على الحوار القائم على سلطة السؤال عبر التنقيب في الدواخل:"هذا الحوار الذي تشاركك فيه كل هواجسك الداخلية رغبة في توضيح ما لا تريدن توضيحه بطريقة أو بأخرى."(ص.57.) هناك تحفيز على السرد:"أفي ما يثير شهيتي للكلام؟ أم أن الجدول نضب نبعه؟ والضوء خاب وهجه؟
 بل فيك ما يثير دمك الحار إلى المزيد من الكلام."(ص.87.)

مكن الطابع الحواري للسرد من التصرف في جزيائات الحكاية بتقديم بعضها وتأخير الآخر حسب المناسبة، مع الإشارة إلى ذلك، مما جعل السرد يتميز بسمة وهي الاستشراف التشويقي الذي يشد القارئ ويغريه بمتابعة خيوط الحكاية. تقول مثلا:"هذا الحديث لك فيه شهية كبيرة. لكن ليس أوانها الآن."(87)
هناك تعاون بين الساردة وصوتها الداخلي مما منح الرواية حوارا سرديا أضفى عليها جاذبية وانسيابا في الحكي الذي أنتج متعة في القراءة، سرد يتراوح بين الذاتية والموضوعية عبر حوار بين العقل القلب، بين الماضي والحاضر، بين الذات والواقع، بين الحداثة والتقاليد.
بالإضافة إلى القضايا الهامة التي عالجتها مثل مشكلة المعاناة مع التقاليد ووضع المرأة المهاجرة وما تتعرض له من عنف واستغلال، تتميز رواية اعترافات امرأة بطريقتها الجديدة في السرد القائمة على الحوار بين الساردة وصوتها الداخلي؛ حوار يتناوب فيه صوت العقل بتحليلاته وتأملاته في تجربة حياة مليئة بالمعاناة، وصوت القلب الذي يسعى إلى البوح والفضح والاعتراف.

الهوامش

 علي أفيلال، اعترافات امرأة، منشورات نادي القلم المغربي، الدار البيضاء، 2007.

بين البوح بمعاناة الذات وكشف المسكوت عنه في أوضاع المهاجرين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى