الأحد ١٣ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم دينا سليم

زيزفونة الوعد

لم أعرف من زرعها، متى؟ وكيف نمت حتى أصبحت بهذه الضخامة, رغم وجودها وحيدة داخل أرض واسعة مهجورة.

كيف لم تسقط هذه الزيزفونة في هذه الظروف السيئة؟ ولمَ لمْ تنل منها السنوات القاحلة كما استطاعت من أهل القرية؟

لا ماء ولا رعاية، أحتضنتها الغربة، صمدت وأنتظرت رجوع أحدهم.

لم يدرِ ِ كم من الوقت انتظرت. كل ما يدركهُ هو الابتسامة الواضحة التي تظهر على أوراقها الخضراء، نضارتها، واندثار عبقها في المكان.

اقترب، أخذ غُصنا بين أنامله، تأملهُ كثيرا، قرّبه، احتضنهُ. قال بسرّهِ:

 إنها فعلا رمز الصّمود... يا لها من زيزفونة شامخة.

بدت شابة يافعة. كانت ملتقى العشاق فيما مضى، وملاذ المتسللين ليلا. لاذ إليها كل شاكٍ وواشٍ. احتضنت حبيبة راقبت المسلك الترابي للقرية، انتظرت وصول الحبيب، تحمّلت أنامل الأطفال. قصف البارود والرّصاص، باقية ولا تزال!

كما تحمّلت ثرثرة عابري السبيل، صراخ الخائفين، هرولة المسرعين عند المغيب. راقبتهم من قريب كيف يؤمون بيوتهم قبل ولوج اللّيل، وكيف كان الظّلام ملاذ الهاربين, المتسللين والمحاربين.

كُتب لها الآن أن تكون وحيدة، شاهدة على الترحال، فوجا بعد فوج. تمنّت لو استطاعت الكلام وتمنع النزوح، لكنها هي الآن تنتظر الغائبين والمهاجرين، لم يأتِها أي شخص، سوى الطّيور الحائمة المتسائلة، وواويات اللّيل الموحش.

انكمشت أزهارها وتوقف عبيرها. توعّدت غاضبة، أخذت الوعد على نفسها،

إنْ حصل وعاد أحد المغادرين ستبدو يافعة جميلة ثم ستنتحر إكبارا وإجلالا...وكان لها ذلك...

عاد أحد المترحلين من رحلة ما بعدها رحلة. رجع من الغربة، تفقّد أحوال قريتهُ التي تركها وهو صغير، لم يجد فيها سواها وعين الماء الجافة.

لاحظها ضاحكة، تومئ له، لاذ إليها، تاق إلى ظلّها، فإذا بها تنثر عبيرها من جديد في الأجواء. يصدح البلبل في كنفها وتتلألأ حبات الندى وتُغسلُ أوراقها، تمدّ إليه أغصانها، تحيطُهُ بحب وإكبار متفاخرة، تضمّهُ وتسقط بعض أزهارها في حضنهِ ليسعد بها.

ضحكَ لها، واستسلم تحتها في نوم عميق حتى الفجر, إطمأن واسترخى. قبّلتهُ في الصّباح مودّعةً.

تهطلت أغصانها وتساقطت أوراقها. امتنعت عن الماء تفي بوعدها، ستنتحر كما أقسمت وستموت أمام ناظريهِ، وقبل أن تُغادر الحياة كلمتهُ.

استفاق منزعجاً, حاول منعها عن مبتغاها، أسقاها بعض مائهِ. حرث التراب واقتلع الأعشاب الضّارة من حولها، وزرع بعض الأزهار بقربها.

ماتت الزيزفونة الشابة دون أن تهرم أو تشيخ. ذهبت بمعية الوعود تفي بوعدها غير منكسة رايتها. تعتبر الإنتحار انتصارا.

زرع مكانها زيزفونة جديدة، حاول الإبقاء على الوعد والحفاظ على الأرض، عاهد نفسهُ قبل الرحيل أن يعود مع عائلتهِ، إليها، إلى قريتهِ، وعزم على الرحيل... لكنه توقف عن عزمهِ. فجأة داهمته الشّكوك والظّنون فتساءل:

 ماذا لو لم أستطع العودة؟ هل سأدعها تموت جفافاً؟ وماذا لو صمدت مثل سابقتها، هل سأكون سبب انتحارها؟ ماذا أفعل, هل, هل, هل؟

كثرت التساؤلات، وبقيت الإجابات قيد الانتظار...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى