الأحد ١١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
"أمٌ لي" ..
بقلم أمل الجمل

سنوات فقدان الأم والوطن والمشاعر الجميلة

الفيلم الفينلندي " أمٌ لي" أو Mother of mine هو صرخة احتجاج ضد صوت الحرب. يفضح بشاعة الحروب وأثارها النفسية المدمرة. في لقطات سريعة تُدوي صرخات الأطفال الرُضع فتهتز أوتار القلوب على الرحيل القهري بعيداً عن الديار وفراق الأوطان.

"إيرو" بطل الفيلم رجل فينلندي تخطى سن الستين, قرر أخيراً بعد سنوات من الصمت أن يتأمل ماضيه, أن يحكي المسكوت عنه في حياته, يحكي عن أسراره الدفينه في أعماقه, عن مشاعره وألمه الخاص, عن سنوات الحرب وفقدان الأم والوطن والمشاعر الجميلة.. عن أمه التي ألقت به في عالم لا يعرفه ولا ينتمي إليه, فوجد نفسه وحيداً مُحاصراً بالمشاعر المؤلمة والمُربكة.. فتمر أمامه تفاصيل فترة زمنية قصيرة عاشها صبياً في التاسعة من عمره. فقد أثناءها والده في الحرب العالمية الثانية. فأرسلته أمه إلى المجتمع السويدي المحايد الآمن من مخاطر الحرب لحمايته ضمن أكثر من 70 ألف طفل فينلندي أُطلق عليهم " أطفال الحرب".

يعيش الصبي مع أسرة سويدية فقدت طفلتها غرقاً.. تُعامله الأم البديلة "سجيني" بقسوة, فهى لا ترغب في وجوده. كانت تُريد فتاة تُعوضها عن طفلتها الغارقة. ترفض أن يُقيم في غرفة الأطفال, تُصر أن يبيت في المطبخ, أن يُساعد زوجها في أعمال المزرعة, أن يتعلم اللغة السويدية. هكذا تُقيم حاجزاً نفسياً بينها وبينه, فيُحاول الهروب مراراً, والعودة إلى وطنه لكنه يفشل.

تُرسل أمه خطاباً إلى "سيجنى" تطلب منها أن يبقى "إيرو" معهم للأبد لأنها ارتبطت برجل ألماني. يُصدم "الصبي" بقرار أمه, أن تتخلى عنه, وينهار حلم عودته إلى الوطن.. تتأرجح "سجيني " في الحزن على وضع الصبي, تشعر بحزنه, وإحساسه باليتم, فتبدأ في الإشفاق عليه بالتدريج تغمره بشلال من العواطف الدافئة, مُغدقة عليه حنان الأمومة.. فالقسوة والحدة التي كانت تُعامله بهما لم تكن سوى قناع صنعته مرارة الإحساس بفقدان طفلتها.

تُصبح "سجيني" أمه للأبد.. تنتهي الحرب ويتحتم علي "إيرو" أن يعود إلى فينلندا. يجد نفسه مُرغماً على ترك أمه وأسرته ووطنه الجديد. تُرى هل يستطيع الصبي أن يعود إلى السعادة التي عاشها مع أمه الأولى؟ أن يُصلح ما أفسده الدهر بينه وبينها بعد أن خانته من قبل ؟.

السيناريو

يتميز السيناريو بنسيج قوي شديد الرقة ينبض بالحياة, يتدفق في السرد والأفكار.. يعتمد على "الفلاش باك", العودة للماضي, يمزج بين كثير من المتناقضات, بين الطفولة والشيخوخة.. بين الحياة والموت, بين الخضرة والجدب.. بين الماضي والحاضر.. بين الحلم والحقيقة.. بين الحب والكره.. بين السعادة والحزن.. بين لحظات المتعة وساعات الألم.. بين الحرب والسلم.

كان الحوار يختفى أحياناً لكنه يطغى بوجود من نوع آخر, فلحظات الصمت المتوترة ترسم الكلمات, تكتب الحوار بلغة العيون, بتعبيرات الوجوه تنبض بالعواطف القوية المشحونة بالشجن الجميل.. التناقض على مستوى الصورة السينمائية يخلق كثير من المعاني والأفكار التي أسقطها الحوار, ومنها مشهد تم تصويره بين شواهد القبور يُصور مولد عاطفة الأمومة والحب بين "إيرو" و"سجيني". هى تحكي, وهو يُنصت إليها, ربما يرمز المشهد إلى الموت المرتبط بالحياة والذي لا ينفصل عنها, أوربما يرمز إلى العلاقة الوليدة المحكوم عليها بالموت.. كذلك التناقض في مشاهد "إيرو" بعد أن تخطى الستين حيث تم تصويرها بالأبيض والأسود, تبدو الطبيعة شاحبة, جرداء خالية من بهجة الحياة وحيويتها. في المقابل كانت مشاهد طفولته مليئة بالبهجة وبالألوان رغم ألم المعاناة.. التناقض يُثير بداخلنا تساؤل. هل الأماكن تُصيبها الشيخوخة حزناً على فقدان أصحابها؟.
استطاعت الصورة السينمائية أن تُضفي بعداً رمزياً على الأبطال وعلى تصرفاتهم فمثلاً في أحد المشاهد يتحدث "إيرو" مع أمه, لكن ستارة شفافة تفصل بينهما تعبيراً عن الحاجز النفسي الذي نشأ بينهما في أعقاب الحرب.. كانت الأم رمز الوطن المفقود, وربما كانت العلاقة بينها وبين صديقها الألماني رمز إلى الوحدة التي قامت بين فينلندا وألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية ضد الاتحاد السوفيتي, والتي انتهت بهزيمة فينلندا على المستوى المادي والمعنوي.. فشلت علاقة الأم بصديقها الألماني وكذلك فشلت الوحدة.. استعادت الأم صبيها واستعاد الوطن أبنائه, لكن بعد أن حفرت الحرب بداخلهم أثاراً نفسية لن يمحوها الزمن. الفيلم يُدين هذه الوحدة في الحرب مؤكداً أن مصيرها الحتمي هو الفشل لأنها وقّعت عقد الزواج على ورق طلاق.

اعتمد نجاح فيلم "أم تخصني" في المقام الأول على سيناريو متماسك البنيان. لكن تكنيك الإخراج جعله عمل فني له طابع التميز. فالمخرج يُعلن عن وجوده بقوة في كل لقطة, بإختياره لتكوينات فنية هى لوحات تشكيلية مرسومة بدقة.. بوعيه في استخدام الإضاءة في حالاتها المختلفة وتأثيراتها المتباينة فمثلاً مشاهد الصبي في وطنه وبين والديه كانت الإضاءة أقرب إلى الحلم الرومانسي, بينما في منزل "سجيني"إختلفت الإضاءة وأضفت الإحساس بالبرودة, بالوحدة, بالغربة.. وفي لحظات حزن الصبي ظهرت الإضاءة بلونها الأزرق تعبيراً عن الليل النفسي له.. كذلك من المشاهد المُضاءة بشكل فني ملفت للنظر مشهد "سجيني" تبكي في أحضان زوجها ليلاً, ثم يسقط الضوء على جدران الغرفة تدريجياً لكن بوضوح, فتكشف عن طول العذاب وقسوته.
تميزت الموسيقى بالملحمية في مشاهد الحرب, ونغمات البيانو الدافئة في المشاهد الرومانسية. كذلك المكساج خصوصاً في مشهدين الأول أثناء الحفلة الراقصة يحضرها "إيرو" مع والده وأمه. نشعر أنهم الثلاثة إنفصلوا عن جو الحفلة, عن مئات الراقصين وأصبحوا في عالم خاص بهم, فاختفى صوت الغناء وضجيج الرقص وصاحبتهم موسيقى خاصة.. المشهد الثاني أثناء غرق الصبي "إيرو" وتجسيد إحساسه السمعي تحت مياه البحر وإقترابه من الموت, ثم يطفو فوق المياه فيعود إلى العالم, وإلى الحياة .
تمكنت بطلة الفيلم التي لعبت دور "سجيني", من تجسيد مشاعر القسوة, والتوتر في بساطة وطبيعية وصدق, تكشف عنها عدة لقطات منها حركة الأصابع المتوترة تمزق ظرف الخطاب لتقرأه.. تنتف ريش الأوز بحقد.. تغسل أيدي الطفل بعنف.. وأخيراً تصفعه على وجهه.. بنفس قدرتها على إجادة القسوة أجادت تجسيد مشاعر الأمومة الدافئة والحنان المتدفق. تفوقت في أدائها لدرجة شعرنا معها بالإحساس بالذنب وألم الضمير لأننا في البداية حكمنا عليها بالقسوة.
كذلك الصبي الذي جسد دور " إيرو" جعلنا ننفصل عن الواقع دون أن ندري.. إصطحبنا إلى عالمه, فشاهدنا معظم الأحداث بعيونه. جعلنا نشعر بأنفاسه تتوقف, بقلبه يقفز بين ضلوعه كي يختطف خطاب أمه فيتنسمه ويقرأه.. بملامح وجهه وعيونه تكشف عن التعب وفقدان الصبر, واليأس من هذه العلاقة المتوترة.

يُثير الفيلم كثير من التساؤلات والأفكار حول الوطن وماهيته ؟ هل هو أرض وحدود؟ مكان نعيش فيه.. أسطورة أُقيمت لتستعبدنا أم موطن للحب ؟.. ألاّ يُولد الوطن داخلنا فلا نُولد داخله.. نصنعه في خيالنا ونحلق معه إلى آخر مدى ؟ تُرى هل يُمكن تحطيم أسطورة الوطن؟.. يتساءل بطل الفيلم: لماذا يموت الناس, لماذا تتبدل قلوبهم فتتحول مشاعرهم بين الحب والقسوة ؟!.. لماذا تُؤثر لحظات قصيرة من الزمن على مسار حياتنا.. لحظات خاطفة تترك ندبات لايمحوها الدهر.. لحظات لا نتحدث عنها نحاول قتلها ودفنها, مع ذلك تحيا بداخلنا مثل جنين ينمو في الأعماق.

" أمٌ لي" أو Mother of mine عُرض ضمن أفلام المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته التاسعة والعشرين, فحصد جوائز الهرم الذهبي, أحسن ممثلة وأحسن مخرج. كذلك رُشح لجوائز الهرم الفضي, أحسن ممثل, أحسن سيناريو.. هو مقطوعة موسيقية عزف ألحانها الأساسية السيناريو والإخراج والتمثيل, وتضافرت جميع العناصر لتدعم بأنغامها البناء الداخلي للفيلم. هو كونشيرتو ثلاثي بمصاحبة الأوركسترا.

مخرج الفيلم "كلاوس هارو" صاحب هذه الأنشودة الممتعة, هو أحد المخرجين المبشرين بمستقبل سينمائي واعد محلياً وعالمياً, من مواليد فنلندا 31 مارس 1971, أخرج عدد من الأفلام القصيرة والتسجيلية.. من أفلامه الوثائقية " ثلاث أمانى" 2001.. حصل فيلمه الروائى الأول الطويل "إلينا" 2002 على ثلاثين جائزة من فنلندا وخارجها. ورُشح لجائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي في عام 2003 .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى