الأربعاء ٤ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم أوس داوود يعقوب

ظل الغياب

 كان شاهداً على قرن بأكمله من عمر العراق المعاصر، و وصفه جبرا إبراهيم جبرا كأنه كان يستعيد موقع راوي الملاحم في ثقافة الإغريق.
 
في ذكرى رحيل شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري الثالثة عشرة، نتذكر متنبي عصرنا وآخر عمالقة الشعر العربي الكلاسيكي المعاصر، الذي تجاوز محطّات الشعر وتصنيفاته وأشكاله إلى الخلود في مجمل أعماله الشعرية، والجواهري (1899-1997) هو تاريخ العراق في القرن العشرين بلا منازع، فقد عاش قرناً من الزمان تقريباً، فترجم بالكلمة كل هموم العراق والمشاكل السياسية التي مرت عليه بصورة شعرية فنية راقية، وكان يهزّ المنابر ويوّلد الحدث على الساحة الأدبية والسياسية بأشعاره المتمردة والغاضبة. وهو أحد السدنة العظام للشعر العربي من أمثال أبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وشوقي، أولئك الشعراء الأفذاذ الذين لا يتكررون في كل زمان، فالشعر العظيم أبيُّ وشامخٌ كالفرس الأصيل والجواهري أخلص للشعر، حاملاً رسالة اجتماعية وسياسية كبرى.

 وإن أهم ميزة في شعر الجواهري انه استمرار لتراث الشعر العربي العظيم، ولعلنا لانجافي الحقيقة إذا قلنا انه لم يظهر بعد المتنبي شاعر مثل الجواهري، وهذه قناعة العرب جميعا. قارئين ونقاداً وباحثين. في الوقت ذاته واكب الحركة الوطنية العربية، وعبر في شعره عنها، وقدم لها قصائد ستظل خالدة. بالرغم من قصائده المطولة التي وصلت إلى أكثر من 100 بيت،لا تجد فيها غير الجيد من الشعر، فكله على وجه التقريب من أسمى الشعر العربي وأقومه مادة ولغة واسلوباً، وهي كذلك في أعلى مدارج الإبداع، وأرقى مراقي الفن، وقد جاء التجديد في شعره مكللاً بكل قيود الفن الرفيع من وزن و قافية ولغة وأسلوب وموسيقى وجمال وأداء.

 وفي سـنة 1932م توفي أحمد شـوقي وتزاحم الشعراء في كل قطر عربي لوراثة لقب" أمير الشعراء" ولم تكن إمارة الشعر منصباً يتحتم ملؤه إذا ما أصبح شاغراً بوفاة شاغله وإنما هو لقب شـخصي منح لأحمد شـوقي وانتهى بوفاته. ومع ذلك فقد تزاحم الشعراء على هذا اللقب وكثر المرشـحون له. أما الجواهري فقد أرسـل باقة من شـعره إلى الدكتور طه حسين ليقرأهويزكيه عله يرشـحه للإمارة الشاغرة. وكان ذلك من مظاهر طموح الشاعر الشاب وثقته بنفسـه. وعلّق" الزيات" على ذلك قائـلاً إن طه حسـين أعجب بشعر الجواهري وبقي هذا الإعجاب يتزايد حتى آخر أيام طه حسـين.

 وإن لم يحظى الجواهري بلقب" أمير الشعراء"، إلا أنه استحق بجدارة لقب (شاعر العرب الأكبر) في وقت مبكر في حياته الشعرية، وارتضاه له العرب أينما كان وأينما كان شعره، رغم أن الساحة العربية كانت مليئة بالشعراء الكبار في عصره.
ملامح من سيرة شاعر العرب الأكبر

ولد شاعرنا الكبير في النجف، وكان أبوه عبد الحسين عالماً من علماء النجف، أراد لابنه أن يكون عالماً دينياً، لذلك ألبسه عباءة العلماء وعمامتهم وهو في سن العاشرة. يرجع أصول الجواهري إلى عائلة تُعرف بآل الجواهر، نسبة إلى أحد أجداد الأسرة والذي يدعى الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، والذي ألّف كتاباً في الفقه واسم الكتاب"جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام" ومنه جاء لقب الجواهري. قرأ القرآن الكريم وهو في سن مبكرة ثم أرسله والده إلى مُدرّسين كبار ليعلموه الكتابة والقراءة و النحو والصرف والبلاغة والفقه. وخطط له والده وآخرون أن يحفظ في كل يوم خطبة من نهج البلاغة وقصيدة من ديوان أبو الطيب المتنبي، وقد نظم الشعر في سن مبكرة‏ وأظهر ميلاً منذ الطفولة إلى الأدب، وصدر له ديوان"بين الشعور والعاطفة" عام 1928م. وكانت مجموعته الشعرية الأولى قد أعدت منذ عام 1924م لتُنشر تحت عنوان"خواطر الشعر في الحب والوطن والمديح".

 وقد اشترك الجواهري في ما يعرف بالعراق بـ (ثورة العشرين) عام 1920م ضد السلطات البريطانية، وكان أن اشتغل مدة قصيرة في بلاط الملك فيصل الأول عندما تُوج ملكاً على العراق وكان لا يزال يرتدي العمامة، ثم ترك العمامة كما ترك الاشتغال في البلاط الفيصلي وراح يعمل بالصحافة بعد أن غادر النجف إلى بغداد، فأصدر في ثلاثينات القرن الماضي مجموعة من الصحف منها جريدة (الفرات ) وجريدة (الانقلاب) ثم جريدة (الرأي العام) وانتخب عدة مرات رئيساً لاتحاد الأدباء العراقيين ونقيباً للصحفيين.

 ولما قامت حركة آذار (مارس) 1941م أيّدها وبعد فشلها غادر العراق مع من غادر إلى إيران، ثم عاد إلى بلاده في العام نفسه ليستأنف إصدار جريدته (الرأي العام)، وفي عام 1944م شارك في مهرجان أبي العلاء المعري في دمشق.

 وفي سنة 1946م أصدر الجواهري في العراق جريدة باسم" صدى الدستور" وانتخب نائباً عن كربلاء ولكن المجلس لم يدم طويلاً وحلّ في سـنة 1948م وفي تلك السنة سافر إلى لندن ضمن وفد صحافي عراقي وانفصل عن الوفد وبقي في لندن مدة ثم سافر إلى باريس وفيها نظم ملحمته الغزلية"أنيتا" ثم أقام في مصر مدة وعاد إلى بغداد فحرر في بعض صحفها واعتقل في سجن" أبو غريب" في سنة 1952م. وفي أيار (مايو) 1953م أصدر جريدة اسمها"الجديد" ثم غادر العراق إلى دمشق في سنة1956 فاتخذها سـكناً وعهد إليه فيها بتحرير جريدة" الجندي" التي تصدرها رئاسة أركان الجيش السـوري. 

وفي تموز (يوليو) سنة 1957م عاد الجواهري إلى بغداد وفي السنة التالية وقع الانقلاب العسكري بقيادة عبد الكريم قاسم فتحمس له الجواهري وأيده بشعره وأعاد إصدار"الرأي العام" وانحاز إلى اليساريين وساير الشـيوعيين وانتخب رئيساً لاتحاد الأدباء ونقيباً للصحافيين. وفي عام 1961م واجه مضايقات مختلفة فغادر العراق متوجهاً إلى لبنان ومن هناك انتقل إلى (براغ) في تشيكوسلوفاكيا ليستقر فيها سبع سنوات، وصدر له فيها في عام 1965م ديوان جديد سمّاه"بريد الغربة".

 في تشـرين الأول (أكتوبر) سنة 1968 عاد إلى بغداد فأُعيد انتخابه رئيساً لاتحاد الأدباء العراقيين.

 وفي عام 1968م عاد إلى العراق وخصصت له حكومة الثورة راتباً تقاعدياً قدره 150 ديناراً في الشهر.

وفي عام 1969م صدر له في بغداد ديوان"بريد العودة"، وبعد عامين أصدرت له وزارة الإعلام ديوان" أيها الأرق". وفي العام نفسه رأس الوفد العراقي الذي مثّل العراق في مؤتمر الأدباء العرب الثامن المنعقد في دمشق وفي العام نفسه أصدرت له وزارة الإعلام العراقية ديوان"خلجات".
 
الجواهري في فلسطين

في عام 1944م زار شاعر العرب الأكبر فلسطين المحتلة، وقد تحدث عن زيارته هذه قبل رحيله عن دنيانا، فقال:

« كانت السفرة إلى فلسطين في آذار/مارس عام 1944م ولها مقدمة جميلة.. فكما هو معروف فإن العراق كان حينئذ تحت سيطرة القوات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، أما سورية ولبنان، فكانتا تحت السيطرة الفرنسية.

وذات يوم وأنا في جريدتي (الرأي العام)، وإذا بالسيد جواد هاشم –أصبح وزيراً لخارجية العراق فيما بعد ولا أعرف ماذا كانت وظيفته آنذاك- يزورني لأول مرة باسم البريطانيين المشرفين على محطة إذاعة الشرق الأدنى –إذاعة لندن حاليا-، وقال أنه مكلف من قبل فرع هيئة الإذاعة في بغداد بدعوتي لإقامة أمسية شعرية في (يافا)، ولا مانع من إقامة أكثر من أمسية..»

فكان أن وافق الجواهري، وبعد إنهاء كل الترتيبات وصل إلى فلسطين، يتابع قوله: « كان أول لقاء حفلة جميلة أقيمت في"يافا" وكان فيها العديد من الوجوه الفلسطينية البارزة، وأقطاب"يافا" وشخصيات كبيرة، وقد أقيمت الأمسية في المجمع الثقافي هناك، والذي يمثل عدة نواد ثقافية وأدبية.

ألقيت القصيدة، وقوبلت –وأذكر حتى الآن- باعتزاز كبير، وكانت المناديل البيضاء قد أخرجت لتمسح الدمع عن عيون معظم الحاضرين..

وإلى الآن أقول يا ليتني لم أر فلسطين!! لو بقيت أسمع بها فقط لكان ذلك أفضل!! فكانت الفاجعة الدامية تأتي وأنا لم أر فلسطين العربية..
ولكن رأيتها، ورأيت الجنان.. ولمست رهبة"المسجد الأقصى".. الله ما أعظمه، إنه يفرض الخشوع والسجود.

ورأيت (يافا) الجملية، الغافية على البحر، وكذلك (حيفا)، ورأيت الجنة التي اغتصبها الصهاينة، وخرجنا منها أذلاء.. ما جرى فظاعة لا تصدق.

لقد أقيمت لي في الواقع حفلات عديدة في فلسطين"حفلة تكريمية في"يافا" وأخرى في"حيفا"، وثالثة في"الجليل".. وكان فيها الأدباء والشعراء والخطباء، من بينهم الأديب (وديع البستاني) – صاحب أبدع ترجمة لرباعيات الخيام- رحمه الله.
وأذكر بأننا عندما عدنا بسيارة خاصة إلى (دمشق) من أجل أن نذهب من هناك إلى (بغداد).. قال السائق: ما رأيكم أن ننزل إلى لبنان قليلا؟!-كان من عادة الجواهري قضاء الصيف في لبنان بين الحين والحين-

قلت: لا، ليست هناك حاجة، فنحن قادمون من فلسطين يا بني.. إنها قلبي الحبيب..»

في عشق الشام وأهلها

تنقل الجواهري بين مصر والمغرب والأردن وسوريا، ولكنه استقر في دمشق منذ عام 1982م، وامضى فيها بقية حياته حتى توفى عن عمر قارب المئة سنة، وقد نزل في ضيافة الرئيس الراحل حافظ الأسد. الذي كرمه بمنحه أعلى وسام في البلاد.
ولقد عكست القصائد التي كتبها الجواهري عن سورية عمق محبته ووفائه لسورية وشعبها، فهو القائل: « إنّي شاميُّ الهوى، فإذا نُسبت لموطن فعراقيّ »، وتعود أول قصيدة كتبها الجواهري في عشق الشام لعام 1921م حين كتب قصيدة «ابن الشام» واستمر هذا العشق حتى وفاته فيها.

ومما جاء في شهادة للدكتور صابر فلحوط عن العلاقة التي تربط الجواهري بدمشق وأهلها قوله:

" لعل تعلق الجواهري بدمشق مكاناً، ومكانة، وناساً وأنساً كان يفصح عنه أمام زواره وأصدقائه ومحبيه على الدوام، وكثيراً ماكان يقول لي: «إن العراقي عندما يتوجه غرباً صوب دمشق، ويصل منطقة أبو الشامات يشتم روائح الجنة»..

وقد عبر الجواهري عن إعجابه بدمشق وإكباره لها، تراثاً وتاريخاً، وغابراً، وحاضراً، بقوله:‏

أما ودمشق صامدةً‏
بذمة ذادةٍ صمدوا‏
كدوحِ النبعِ شوكتُها‏
تُخضُّ وليس تُختضدُ‏"

وتعد قصيدة الجواهري (دمشق جبهة المجد) ذروة من ذرا شعره ومن أفضل قصائده، وفيها يقول:

شــممت تـربك لا زلــفى ولا ملـــقا
وسرت قــصـدك لا خبــا ولا مـذقــا 
وما وجـــدت إلى لقيـــاك منعطفـــا
إلا إليـــك، ولا ألفيـــت مفترقــــاً

وفي أحد صباحات تموز الدمشقي حين ينضج اللوز وتفوح أزاهير الغوطة ويهدأ بردى، يرحل محمد مهدي الجواهري يوم السابع والعشرين من تموز(يوليو) عام 1997م، شيخاً مسناً لم يستطع الزمن أن ينتصر عليه، وما انتابته نوبة الخرف والهذيان وبقيت عيناه متوقدتين باتجاه العراق.

ومن المصادفات أن الجواهري ولد وتوفي في نفس الشهر، وكان الفارق يوماً واحداً مابين عيد ميلاده ووفاته. فقد ولد في السادس والعشرين من تموز(يوليو) عام 1899م وتوفي في السابع والعشرين من تموز(يوليو) عام 1997م.

وفي دمشق التي أحبها ومسح بترابها خديه وعظام وجنتيه الذابلتين، دمشق الشام التي دفأته في زمن الزمهرير وأمنته من روع، لم تزل كعهده بها، دفن الجواهري تنفيذاً لوصيته «في أن يضمه تراب دمشق حيثما حلت منيته»، ويوصي أن تكون خارطة العراق فوق شاهدة القبر لأنه ملك لكل العراق، وقد نفذت الوصية، وأصبح مثواه في السيدة زينب جنوب دمشق منارة عراقية متوهجة.

وكان الجواهري"رحمه الله" قد حدد لنفسه موقعاً في قلب التاريخ العراقي بما عاش من عمر مديد، وما أرخ من أحداث جسام، وما أثار من زوابع خلال سيرته السياسية والأدبية، شاهداً على قرن بأكمله من عمر العراق المعاصر، وكأنه كان يستعيد موقع راوي الملاحم في ثقافة الإغريق كما وصفه جبرا إبراهيم جبرا.

‏ ومع نهايات شهر تموز من كل عام تذكرنا نسائم الشام أن عاشقها.. سيد القوافي قد رحل، غير أنَّ ما تركه لنا من أشعاره الكثيرة الرائعة خالدةً بيننا، ليغرق القارئ في ذهب المعنى وجواهره، ومنها جميل قوله: «يتبجحونَ بأن موجاً طاغياً/ سدوا عليه منافذاً ومسارباً/ كذِبوا فملءُ فمِ الزمانِ قصائدي/ أبدا تجوبُ مشارقاً ومغارباً».


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى