الأربعاء ٢٤ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم نضير الخزرجي

غمامة الضاد تسقي التخوم وتعمي الخصوم!

لطالما تغنت الأمم بلغاتها لما تحمل من آداب على مستوى عال من الرفعة والرقي، كاللغة العربية والفارسية والانكليزية والفرنسية، ولكن اللغة العربية امتازت عن بقية لغات الأرض أنها لغة ثقافة وسلوك فضلا عن ما تقدمه من أدب عربي متميز، فالذي يدرس اللغة الانكليزية من غير الناطقين بها إنما يطلع على أدبها وقواعدها فيتمكن من التحدث بها أو تؤهله النصوص من وإلى اللغة الأم، لكن الذي يدرس اللغة العربية يطلع على مديات أوسع تفوق دائرة اللغة المجردة، فكل قاعدة لغوية لها استشهاداتها وهي مستلة إما من القرآن أو من السنة أو أقوال الصحابة والتابعين أو من الشعر العربي الجاهلي والإسلامي، وحتى الجاهلي منه ينطوي على حكم وآداب، أي أن الدارس للغة العربية إنما في واقع الحال يتنزه في بساتين الثقافة والأخلاق والسلوكيات والسجايا الطيبة.

ولاشك أن التأثير سيكون أكبر لو أن الدارس للغة العربية مارس ما تعلمه في الوسط العربي، حينئذ سيكون على احتكاك مباشر بالعربية أدبا وآدابا، تعلما وممارسة، ولذلك تحرص الدوائر الدبلوماسية الغربية على سبيل المثال إيفاد موظفيها إلى بعض الدول العربية والسكن فيها، ليس لتعلم اللغة العربية تجردا، بل الإطلاع على سلوكيات المجتمع وثقافته ومثله، وليس بخاف على أحد أن بعض الدول الغربية مثل أمريكا وبريطانيا استوظفت مهاجرين عرب في دورات لتعلم اللغة العربية لموظفيها ودبلوماسيها، ولاسيما بعد حوادث تفجيرات 11 سبتمبر 2001 م وحرب الخليج عام 2003 م، واشترطت على المهاجرين أو المتجنسين التحدث باللغة المحلية وليست العربية الفصحى والتصرف مع أمثالهم من المدينة الواحدة أو البلد الواحد بسلوكيات تلك المدينة لا بسلوكيات بلد المهجر، لأن الغاية من الدورات التعليمية هي الإطلاع على ثقافة وسلوكيات المجتمعات التي ورد منها المهاجر العربي، وبتعبير آخر أن هذه البلدان هيئت عندها مجتمعات عربية مصغرة (كانتونات) أدخلت فيها كادرها ليتعلم العربية لغة وأدبا وثقافة وسلوكا بدلا من أن ترسلهم للتعلم في دولة عربية، لإدراكهم أن اللغة العربية ليست لغة تحدث فحسب. ولهذا فلا يستغرب المرء عندما يُشاهد سفير هذه الدولة الغربية أو تلك يتحدث بلغة ولهجة أهل البلد، أو أن المتحدث باسم هذه الدولة الغربية أو تلك يجيد الحديث بسلاسة دون تلكؤ.

لغة وثقافة

ومن الطبيعي أن تعلم اللغة من خلال الاحتكاك المباشر هو الأسرع والأنجع، ولما كانت العربية هي لغة الأدب والآداب والسلوكيات، فإن الإحتكاك بالعرب هو احتكاك مباشر بالثقافة والأخلاقيات، وقد سبق المسلمون الأوائل المجتمعات الأخرى في إدراك أهمية التواصل مع المجتمعات الأخرى في نشر أخلاقيات الإسلام عبر اللغة العربية، ولهذا فإن المجتمعات غير العربية وبمرور الزمن كانت تتقبل اللغة العربية أدبا وآدابا بسرعة فائقة دون أن يلغي الإسلام لغة القوم الأصلية، وكان معظم الأدباء غير العرب كانوا يخطون نثرا أو ينشدون نظما باللغة العربية إلى جانب لغة الأم، بل أن المجتمعات التي دخلها الإسلام كانت تحرص على استيعاب تعاليم الإسلام من خلال تعلم اللغة العربية، وحسب تعبير الشيخ لطيف بن عاكف لطيف أف الآذربايجاني المقيم في دمشق وهو في إعداده وتعليقه على كتاب "الإسلام في آذربايجان" الصادر حديثا عن بيت العلم للنابهين في بيروت لمؤلفه المحقق الدكتور محمد صادق الكرباسي في 64 صفحة من القطع المتوسط، أن الديانتين الزردشتية والمسيحية كانتا سائدتين في آذربايجان الكبرى.

من هنا حينما دخل الإسلام آذربايجان عام 21 للهجرة على رأي المصنف و18 للهجرة على رأي المعد، أظهر المجتمع رغبته في الإطلاع على الدين الجديد، وكما يعتقد الأخير: "رأى رؤساء الدول الإسلامية من المناسب أن تنتقل بعض العائلات من العرب إلى آذربيجان ليكونوا مع المسلمين الجدد مما جعل الشعب الآذري ومن خلال المسلمين المهاجرين يعايش العقيدة الإسلامية عملياً، وحقا كان لهذه السياسة تأثير ايجابي لترسيخ الإسلام في قلوب الشعب الآذري"، فضلا عن حرص قادة الإسلام على نشر العدالة في البلدان الإسلامية دون النظر إلى قومية المجتمع المسلم، ويحتفظ لنا التاريخ بنص للخليفة الإمام علي بن أبي طالب (ع) يوصي فيه واليه على آذربايجان الأشعث (معدي كرب) بن قيس الكندي المتوفى سنة 42 هـ التقيد بالعدالة واحترام حقوق الآذريين بقوله: "وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعىً لمن فوقك، ليس لك أن تفتات (تستبد) في رعية ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يديك مالٌ من مال الله عزَّ وجل، وأنت من خُزّانه حتى تسلِّمه إليَّ، ولعلِّي أن لا أكون شرَّ وُلاتِك لك والسلام" (نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3/525).

ولعل من مظاهر هذا التوحد بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الآذرية وبخاصة قبيل ضم آذربايجان إلى الاتحاد السوفيتي السابق هي أسماء المواليد الجدد، وكما يذهب المعد: "إن الإسلام كان جوهرا ومقوما لثقافة الشعب الآذري، وهذا الاندماج كان يتجلى في جل أبعاد ثقافة هذا الشعب المسلم، فمثلاً: على رغم كونهم من الأتراك قلما تجد شخصا يكون اسمه اسما تركياً، بل كانت معظم أسماء الأشخاص أسماءاً عربية على صلة بالإسلام ولاسيما بأهل البيت عليهم السلام"، هذا فضلا عن النتاج الأدبي للشعب الآذري المندمج بالثقافة العربية والإسلامية، وكما يؤكد الشيخ عاكف أف وهو يعلق على ما أورده المحقق الكرباسي من معلومات غنية عن تاريخ الإسلام في آذربايجان تعتبر مرشداً للسائح في تاريخ الشعوب الإسلامية قديما وحديثاً: "كان الأدب الآذري مشحونا بالشعر والنثر المعبر عن مفاهيم الإسلام وسيرة قادته المعصومين عليهم السلام بأسلوب بلاغي راق، بل كان من الشعراء من عرف بشاعر أهل البيت عليهم السلام باختصاصه بهم حيث صرف عمره في مدح آل الرسول عليهم السلام ورثائهم، وترك مجلدات من الآثار النفيسة، أمثال راجي، قمري، ودلريش".

بين عهدين

وإذا كان للعربية اللغة المتوحِّدة مع الإسلام عقيدةً دور متميز في آذربايجان وفي طبقات المجتمع الآذري، فإن للآذريين وجودهم المتميز في العالم الإسلامي بمدرستيه الفقهية الشيعية والسنية، بيد أن وقوعهم على تخوم العالم الإسلامي إلى جانب الإمبراطورية الروسية جعلهم عرضة لهجمات الآخرين العسكرية والدينية، ومحاولات الروس في العهدين القيصري والشيوعي تذويب ثقافة المجتمع الآذري ليسهل عليهم تطويعه.

ولعلَّ أول المحاولات وأخطرها كما يؤكد المحقق الكرباسي تغيير الحروف العربية من أبجدية اللغة الآذرية، بخاصة وإن الآذرية تكتب باللغة الفارسية ذات الأبجدية العربية مع زيادة ثلاثة حروف هي الباء المثلثة والجيم المثلثة والكاف الفارسية، حيث قام الحكم الشيوعي بتبديل الحروف الفارسية والعربية إلى اللاتينية سنة 1238 هـ (1920 م) ثم تم تحويلها إلى الخط الروسي (سيريليك، أو كريلي) سنة 1358 هـ (1939 م).

وهذا ينبئ عن إدراك الآخر لأهمية لغة الضاد في شد لحمة المسلمين، وعليه فإن أية دعوة لإلغاء اللغة العربية من قاموس الشعوب هي في واقعها دعوة للفصل بين المجتمع والدين ودعوة لإبعاد المسلمين على القيم والمثل التي سطرها القرآن الكريم الذي نزل: "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" (سورة الشعراء: 195)، فاللغة في واقعها ليست محلا للتفاخر بقدر ما تحمله من قيم ومثل عليا، فالتفاخر هو في المثل والسلوكيات لا في أصل اللغة، فكل لغة محترمة والناطقون بها محترمون، حية كانت أو ميتةً، عالميةً كانت أو محليَّةً، مسموعة كانت أو مقروءة، وقد خلق الله الناس متنوعين في كل شيء، بل إن قيمة الحياة في التنوع والتعدد بكل أشكاله من جنس وعرق ولغة، والعبرة في المؤدى، فمراد القرآن هو الائتلاف لا الاختلاف، والتحالف لا التخالف، والتعارف لا التقارف، كما يعبر القرآن الكريم بقوله تعالى في الآية 13 من سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".

ومن المحاولات الأخرى تغيير العادات والتقاليد الإسلامية في الأفراح والأتراح، وحتى التقاليد الشعبية لم تكن لتبتعد كثيرا عن التعاليم الإسلامية، فهم قد تدخلوا فيها لصهر الآذريين في المجتمع الروسي.

كما عمد الروس وعمد إلى إبعاد الناس وبخاصة الشبيبة عن تاريخ الأجداد المتداخل مع الإسلام، وفصلهم عن تراثهم الديني والشعبي، وكان من شدة البطش كما يؤكد المعد: "ينقل الكبار والشيوخ أنهم خشية أن يعلم بهم المسؤولون كانوا يصلون على الأموات ليلا بعد أن يدفنونهم نهاراً، وكانوا إذا أرادوا تدريس شيء من علوم الدين كانوا يختارون مكانا خفياً بعيداً عن أنظار وأسماع رجال السلطة، ومن قلة الكتب الدينية كان الطلاب ينسخون الكتب الدراسية من أولها إلى آخرها بأيديهم"

وتحت ذريعة مخالفة الدستور الروسي سيق الكثير من العلماء إلى النفي والإبعاد القسري والموت، وبخاصة في عهد الاتحاد السوفيتي، وكما يشير المعد: "وبما أن آذربيجان كانت مليئة بالعلماء الأجلاء الدارسين في العراق وإيران، قامت استخبارات الاتحاد السوفياتي عام 1937 م بالتجسس على أولئك الأبرار واعتقالهم ونفيهم إلى سيبيريا حتى لم يبق منهم إلا من يعد بالأصابع حيث اتخذوا طريق التقية للنجاة بأنفسهم والعمل على نشر الإسلام بصورة سرية هادئة ما أمكنتهم الحيلة إلى ذلك"، وكان من نتائج الإضطهاد الديني كما يؤكد الدكتور الكرباسي: "تدمير معظم المدارس والمساجد وسائر المراكز الإسلامية، فقد بلغ عدد المساجد في آذربايجان في عام 1336 هـ (1917 م) ألفي مسجد وثمانمائة مدرسة دينية، وبعد ستين عاما من الحكم الشيوعي لم يبق إلا 16 مسجداً، وأما المدارس فقد هدّمت جميعها وتضاءل عدد العلماء بالقتل".

وهذه الأرقام تشير بالمقارنة بين العهدين القيصري والشيوعي أن الثاني كان شديد الوطئ على المجتمع الآذري، لاسيما بعد أن بسط البلاشفة سيطرتهم، على أن زعماء العهدين يدركان دور العلماء في تحريك الجماهير نحو التمسك بحقوقهم ورفض سيطرة الأجنبي، وتحتفظ الذاكرة الروسية بنضال العالم الرباني السيد محمد بن علي الطباطبائي الحائري (1180- 1242 هـ)، الشهير بالسيد محمد المجاهد الكربلائي مولداً ومدفناً، الذي تحرك من العراق عام 1240 هـ (1824 م) متجاوزاً لكل الحدود المصطنعة لقيادة حركة تحرير آذربايجان من الاحتلال الروسي.

وإذا كان الآذريون قد استقبلوا الأسر العربية لتعلم العربية وتعاليم الإسلام، فإن الروس خاضوا التجربة نفسها ولكن على طريق محو الهوية الآذرية، وهو ما يشير إليه المصنف، فهم عمدوا خلال سنوات متمادية إلى تغيير الخارطة السكانية عبر إسكان القومية الروسية وتفضيلها، مع محاولات السيطرة على الثروة الإقتصادية باعتبار آذربايجان بلداً غنياً بالنفط والغاز والذهب والفضة والنحاس والحديد والكوبالت والرصاص ومناجم ملح الموليبدينوم وأحجار الملح، وفي المقابل نحروا تحت مقصلة الإشتراكية القدرة المالية للأسر الآذرية الغنية.

في الواقع لم تستطع كل هذه الإجراءات في العصر القيصري والعصر الشيوعي الروسي من مسخ هوية المجتمع الآذري بغالبيته المسلمة، ويرى الشيخ عاكف أف أن المجتمع الآذري استطاع المحافظة على وجوده بفضل ولائه للنبي محمد (ص) وأهل بيته (ع): "لأن المؤمنين بعد أن فقدوا علماءهم لم يكن لديهم طريق لإيصال الدين إلى الجيل الجديد سوى إقامة المراسم والمآتم بمناسبة ذكرى استشهاد سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، ففي الوقت الذي لم يكن يعقد أي مجلس ديني، كانت المجالس العاشورائية وسيلة لإعطاء المعلومات الدينية وإن كانت بسيطة"، وهو نوع من استشعار المظلومية والتحسس بها عبر التواصل مع النهضة الحسينية للحفاظ على الهوية الإسلامية في محيط غير إسلامي يحاول إبتلاع خيرات البلاد وتدجين إرادة العباد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى