الاثنين ٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
الثورة الجزائرية مشروع لم يكتمل:
بقلم بوشعيب الساوري

قراءة في رواية البطاقة السحرية لمحمد ساري

محمد ساري واحد من النقاد الجزائريين الذين انتقلوا من ممارسة النقد الي تجريب الكتابة الروائية، علي الرغم من مساهماته المتميزة في مجال الدراسات النقدية.

لكنه لم يخرج بدوره عن الطابع العام لهواجس الكتابة الروائية الجزائرية المكتوبة بالعربية التي صارت الثورة، سواء حرب التحرير خاصة وأطروحة الشهداء، الموضوع الأثير لدي أغلبها.1 فظلت صورة الحرب والثورة هاجساً أساسياً يحرك عملية الكتابة أو هي تتحرك فيه.2 وظلت الثورة تلاحق كل الكتّاب، سواء من باب الحنين فالاستحضار فالوصف، أو من باب الحنين فالنقمة فالنقد . 3 دون أن ننسي انفتاح بعضها علي الأزمة الجزائرية في العقد الأخير من القرن العشرين، ونخص بالذكر تجربة واسيني الأعرج.

واذا كان الحال ـ كما يقول عبد الرحمن منيف ـ هي أنَّ الأجيال القادمة لا بد أن تقرأ التاريخ الذي نعيشه الآن وغداً، ليس من كتب التاريخ المصقولة، وانما من روايات هذا الجيل والأجيال القادمة . 4 فان محمد ساري يحاول في روايته البطاقة السحرية5 كتابة تاريخ الجزائر المعاصر، اذ تؤرخ الرواية لحدث سياسي واجتماعي ممتد من زمن ما قبل الاستقلال الي ما بعده. وتتضمن مجموعة من الاحالات التاريخيّة والاجتماعيّة التي تحتضن مناخ الرواية مكاناً وزماناً.

1ـ وراثة الصراع

يتم تبئيرالصراع بين شخصيتين أساسيتين مفارقتين في رواية البطاقة السحرية :

 مصطفي عمروش يتمتع بصفات مثالية: الشرف، النبل، الشجاعة، الروح الوطنية، التفاني في الاخلاص، الصدق، الذكاء. كان مجاهدا وساهم في حرب التحرير، يعيش حياة بسيطة قريبة من الفقر. مخلص للوطن ولزمن الثورة. لكنه ظل علي الهامش ولم يحظ بما كانت تعد به الثورة.
 السارجان الخائن/ الحَرْكي يتميز بصفات قبيحة: الخداع، الخسة، الجبن، التعدي، الاغتصاب، الظلم، استغلال الآخرين. كان يعمل ضد المقاومة لصالح القوات الفرنسية. وحتي بعد أن ابتعد عن القوات الفرنسية كان يرفض بيع المواد الغذائية للمقاومين. لكنه بعد الثورة سيغتني وستصبح له أراض زراعية ومقهي وقصر الي جانب العديد من الامتيازات. رغم المال والثروة يريد أن يحسّن صورته في الماضي ابان الثورة وتغيير التاريخ وصنع تاريخ جديد، عبر الحصول علي بطاقة المقاومة تلك البطاقة السحرية التي بامكانها أن تحوله من خائن الي مقاوم. يقول: عرف أهل القرية أن السرجان طلب شهادة نضال في صفوف الثورة . (ص.16.)

لقد كانت مواجهة عمروش للسارجان في البداية سلمية وانتهت بالتخلص منه بقتله، وهنا تتقاطع البطاقة السحرية مع رواية الحوات والقصر6 للطاهر وطار التي واجه فيها "علي الحوّات" القصر في البداية بشكل سلمي عاطفي ساذج ولكن التجربة ستشحذ وعيه ووعي الآخرين تدريجياً الي أن تتحد القري وتتوصل الي هدم القصر والانتقام من المجرمين الذين ليسوا في نهاية الأمر سوي اخوته.

ينتقم عمروش لنفسه من أحد الطفيليين الذي حاول تشويه التاريخ وتزويره، عبر الحصول علي بطاقة المقاومة في الوقت الذي كان يشتغل خائنا. يؤكد فعل عمروش أن المقاومة لم تنته بعد ضد الطفيليين والخونة الذين يحاولون تغيير التاريخ وتحريفه. لتستمر الثورة قائمة الي زمن ما بعد الاستقلال ضد الخونة والمستعمرين الجدد المستفيدين من عدة امتيازات رغم خيانتهم قبل الاستقلال، مما يؤكد أن الثورة و حرب التحرير لم تكن سوي مشروع لم يكتمل انجازه، وان الطرف المغيّب (بفتح الياء) ما يزال يمارس حضوره وهو المؤهل للقيام باتمام هذا الانجاز المستقبلي.7

تبين الرواية آثار الثورة علي زمن ما بعد الاستقلال في العلاقات بين الناس. يقول السارد: كان الرأي الغالب أن الثورة التحريرية انتهت من زمان، فالافضل الاهتمام بالمستقبل الاقتصادي للبلاد، ومحاولة الالتحاق بالركب الحضاري للغرب . (ص.81.) مؤكدا أن الثورة لم تنته بعد، أي أن الناس لم يتجاوزوا زمن الثورة، وكأنها صرخة تقول بضرورة تجاوزه.

كانت مواجهة عمروش للسارجان فرصة للسارد ليقوم باسترجاعات تعود الي زمن الثورة، وتضيء كل شخصية وتقدم صورة عن أفعالها ابان الثورة المسلحة. لتجعل الصراع محكوما بالماضي، انطلاقا من الصراع حول حورية الذي أدي الي التحاقها بعمروش رفقة المجاهدين واستشهادها هناك بعد أن أنجب منها طفلا (جمال). ذلك الاستشهاد الذي كرس كراهية عمروش للسارجان الخائن. كما أن حورية هي التي كانت سببا في قتل عمروش للسارجان بعد أن حاول الأخير تشويه ماضيها أمام سكان القرية.

تجمع البطاقة السحرية بين الذاتي، قصة حب عمروش لحورية واخلاصه لها بعد وفاتها، وبين الوطني، حب الوطن والدفاع عنه في الماضي والحاضر والموت في سبيله ومقاومة أعدائه لأن الثورة لم تنته بعد. انها دعوة للصمود أمام الخونة ومواجهتهم، الي جانب التضحية في سبيل الحب والاخلاص له.

2 ـ توريث الصراع

استمر الصراع بين عمروش والسارجان الي الأبناء (جمال بن عمروش وشفيقة بنت السارجان) انطلاقا من تحفيز كل واحد ابنه علي منافسة ابن الآخر علي مستوي الدراسة. يقول السارد: أصبح السرجان بعد ذلك يعير اهتماماً مبالغاً بدورس ابنته ويستقصي أخبار جمال باستمرار، يحرض شفيقة علي المذاكرة والحفظ كي تتفوق علي الجميع بمن فيهم جمال عمروش . (ص.56.) ذلك الصراع الذي أفضي الي قصة حب بين جمال وشفيقة. لكن ذلك الحب سيصطدم بفاجعة وهي قتل عمروش الوطني للسارجان الخائن.

تبرز الرواية المفارقة بين جيلين: الجيل الأول (السرجان وعمروش) يصعب عليه التعايش والنسيان اذ لم يتم الحسم مع الماضي، لم يدفن الماضي بلغة عبد الكريم غلاب. أما الجيل الثاني (شفيقة وجمال) فبإمكانه التعايش. يقول مصطفي عمروش مخاطبا ابنه جمال: بعد كل هذا كيف تريدني أن أنسي أن أطوي الصفحة، أنتم جيل الاستقلال يمكنكم النسيان والعيش بدون ثقل الماضي . (ص.80.) لكن الماضي تدخل وحدّ من كل امكان للتعايش بعد مقتل السارجان من قبل عمروش. ليعيش الجيل الثاني علي مشاكل الجيل الأول. يقول السارد: انهارت أحلام جمال وتبخرت كل المشاريع التي شيدها برفقة شفيقة، أيُعقل أن ترغب شفيقة في رؤيته بعد الذي حدث؟ (ص.81.) ليجد نفسه ملزما بمعرفة تاريخ الثورة، بعد أن كان يجهل عنها كل شيء. يقول السارد: لم يهتم جمال بتاريخ الثورة، ولم يقرأ كتاباً واحداً عنها مهما كان صغيراً، كل ما يعرفه من أسماء وحوادث، التقطها سمعاً من هنا وهناك، دون أن يركز انتباهه في الالمام بتفاصيلها . (ص.81.) فيجد نفسه مضطرا الي معرفة الثورة. كما يعده والده وهو بالسجن بأن يحكي له حكاية الثورة وحكاية صراع الجيل الأول في زيارة قادمة. اذ كان السجن فضاء ليبوح عمروش لابنه جمال بكل المشاعر التي كان يخفيها عنه من قبل، حول الثورة وحول والدته حورية، وحول شخصية السارجان الحركي الخائن.

3ـ توتر السرد

ليس هناك تدفق في السرد، وانما يقوم السارد بعدة تقطيعات سردية، قوامها الاستباق والتأجيل والتذكر والاستيهامات، كلها تعكس توتر نفسية الشخصية الرئيسية (عمروش) التي تتداخل لتتكامل في الانتهاء من قراءة الرواية. كل ذلك يمنح الرواية جاذبيتها. كما سمح بتعدد في المحكيات، واقعية/ متخيلة، ما قبل الثورة / ما بعدها، وطنية/ ذاتية، وكذا تراوح طريقة السرد بين ضمير الغائب وضمير المتكلم.

الملمح البارز للسرد في الرواية هو الاستيهام، اذ يتجاوز السارد الصراع المباشر بين عمروش والسارجان الي صراع نفسي عبر تسليط الضوء علي نفسية الشخصية الروائية باستخدام المونولوج والتداعي والاستيهامات. يقول: ساد الصمت بين الأب والابن، وانقاد كل واحد منهما خلف تأملاته، شارد الذهن يبحث عن التعبير اللائق المناسب في مثل هذا المقام . (ص.81ـ82.) وقد كانت تلك الاستيهامات أداة للمقاومة النفسية، التي سببتها أفعال السارجان وطموحاته الجارفة.

تمَّ سرد جل أحداث الرواية بضمير الغائب، والذي يتميز بالحكي عن تجربة الماضي الوطنية والذاتية، الا الفصل السادس فتم سرده بضمير المتكلم (عمروش)، والذي يرصد فيه المفارقة بين حكايات العمة المتخيلة التي كانت منبعا لا ينضب من الحكايات الشعبية (ص 73) وبين حكايات الواقع، وبين حكايات الثورة ووعودها وخيبات الاستقلال، اذ حاول الكاتب أن ينقل بشكل مباشر التوتر النفسي الذي عاشه عمروش في اطار أدرمة صراعه النفسي.

كما حفل السرد بعـــــدة محكيات تقوم بإضاءة بعض الأحداث والشخصيات:

 محكي وطني (الثورة) المواجهة بمحاولة الالتحاق بالمجاهدين ومحكي ذاتي (حب حورية) وكيف امتزجا وانتصرا معا علي الرغم من اكراهات المستعمر بالنسبة للأول واكراهات المجتمع بالنسبة للثاني، ومحاولة السارجان منع عمروش من حبيبته، بعد أن خطبها وكان سببا في فرارها والتحاقها بالمجهادين وموتها، ليسلط الضوء علي تجربة حب عمروش لحورية وكيف التحقت به في الجهاد وكيف تم الزواج. يقول: كان العرس رائعاً، ذبحنا خروفاً وحضرنا الكسكسي والشربة وكدنا نطلق الرصاص احتفاء به . (ص.75.)
 محكي ما بعد الثورة وهو حاضر الشخصيات، تطرح فيه مجموعة من الأسئلة حول نتائج الاستقلال، كما تطرح الرواية مشكلة الأسماء.
 محكي الجفاف الذي اجتاح الجزائر في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي تؤطر أحداث الرواية: وعمّ جفاف لم يشهده البلد منذ أعوام، انتصف شهر جانفي ولم تستقبل الأرض الظمأي قطرة ماء واحدة، فلم يتمكن الفلاحون وعمال المزارع الحكومية من زرع أو غرس نبتة واحدة، تجمع الناس في المساجد وقرروا اقامة صلاة الاستسقاء كل يوم جمعة وفي كل قمم الجبال العالية، لعل الله يستجيب لدعواتهم (ص24).
هكذا كانت الثورة الجزائرية عنصرا مهيمنا في رواية البطاقة السحرية التي أكدت استمرارها، وأنها ارث يصعب التخلص منه، وكيف أن صراع الماضي يستمر في الحاضر والمستقبل عبر توريث الصراع للأجيال القادمة. كل ذلك عبر لغة سردية متوترة تقوم علي الاستيهام والاستبطان، والاحتفاء بالحكي الذي يضيء الأحداث والشخصيات.

الاحالات

1ـ عبد الحميد عقار، الرواية المغاربية تحولات اللغة والخطاب، منشورات المدارس، الدار البيضاء، 2000، ص.23.

2 ـ عمر مخلوف، الرواية والتحولات في الجزائر، دراسات نقدية في مضمون الرواية المكتوبة بالعربية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000، ص.19.

3 ـ نفسه، ص.14.

4 ـ عبد الرحمن منيف، الكاتب والمنفي، هموم وآفاق الرواية العربية، لعبد الرحمن منيف، بيروت، دار الفكر الجديد، 1992، ص.43.

5 ـ محمد ساري، البطاقة السحرية ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1997.

6 ـ الطاهر وطار، الحوات والقصر، دار البعث للطباعة والنشر الطبعة الأولي قسنطينة الجزائر.

7 ـ عمر مخلوف، م. م، ص.24.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى