السبت ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
قراءة في ديـوان " أصدقاء يغادرون حـنجـرتي" للشاعر بوجمعة العوفي
بقلم مــحــمــد زريـويــل

لذة قراءة الشعر في عذاب تلقيه

تــقــديــم : تـدفـقـت عطاءات الشاعـر بوجمعة العوفي وتنوعت إبداعاته في الكتابة والـشعـر، صـدر له ديـوانان شعريان جمـيلان . " بـيـاضات شـيـقـة"الـحاصـل على جائزة الشارقة للإبداع العربي عــام 2001.

و الـثاني " أصـدقــاء يــغــادرون حــنــجرتي" عـن منشورات وزارة الـثـقـافـة و الاتصـال ضمن سلسلة الكتاب الأول سنة 2002 . شـارك في أنطولوجية عالمية للـشــعــر صــدرت بــإيــســلـنــدا لـدعـم الـيـونـيـسـيـف و أطـفـال أ فغــا نـسـتـان . أ صــبح شـعـره كوكبيا كونيا يقرأ بعدة لغات ، وصار له المـفتاح ( (wwwوسيلة ملمسية تمنحه الـسـفـر بلا جــواز ولا تأشيرة للإبحار في عالم الـشعـرعبر الانترنيت بـواسطة الـنـقـر و الفـارة ( la souris) و الأوامــر الإلكترونية ...

إ حـاطــة : يقع ديوان " أصدقاء يغادرون حنجرتي " في سبعة أقسام بمجموع سبع و ثلاثين (37) قصيدة في ثلاث وسبعين (73) صفحة من حجم (20x14) و وزن صـافي يساوي 100 غرام من الورق بما فيه الغلاف ...
قصائد الديوان قصيرة ،تدخـل يم الموضة الـشعرية و التـعدد الـجـمـيـل،جاءت تحت عناوين إما مـفردة أو مركبة ...
عـتــبـة الـعـنوان :

" عتبة الـدخول

هي عتبة الخروج ( ...)

فـكـيـف لم تـنـتـبـه قـدمــاك

إلـى هـذا الـشـبه " ص (47) .

تـعددت عناوين القصائد وكـثرت ،فأبـرزتـها الـطباعـة بالمداد الأسود وفق قياس معـيـن ، ومنها " أصدقاء يـغـادرون حنجرتي " القـصيدة ، وكـذلك بالأبيض جاء الـعنوان على الـغلاف .
إ ن الـعنوان جـملـة إسمـية مفيدة تامة ، تخبرنا فيها الجملة الفعـلية عـن الاسم المبتدإ بما لم نكن نتوقع من وقوع فعل الفاعل على المفعول به المـضاف لياء المـتكلم الـشـاعـر ...
بـكـل هذه العـبارة العنوان تغيا الشـاعـر جـلـب الاهتمام إلـى المـتـن الـشـعري ، لأنه في الواقع عــنــوان لافت وجذاب ، لم يختـزل محتوى الديوان بـكامله ،و إنما امتد فيه ، وأخذ له قصيدة في الـصـفحة (18) أ تت كـبوابة للقسم الـثـاني من الـديوان وقال الـشاعـر فيها :

" غـدا

أحـتـاج إلـى كـثـيـر مـن الـوقت

كــي أطـرد بـعـض الأصـدقـاء مـن

حـنـجـرتي

و أكـنس أسمـاءهم باتجاه الـبـحـر

واحــدا

واحــدا

كـي لا يـعـودوا بـأشـلا ئـهـم المـيـتـة إلـى

الـقــصـائـد "

عودة إلى الأصدقاء (المتدإ) هؤلاء هم بضعة في حساب الشاعر الكريم ، وليسوا بالكثر ، هم الـلـؤماء نفتهم ولفظهم على نفـس الزفـيـر كالـنـفـاثـة الـتي تغادر الصدر عبر الـحنجرة دون عـودة ، وما الكـنس إلا طـرد من ضروب الـتطـهـير و المـسح بـحـثـا عن صـفـاء الـصـدور و الأجـواء و القـلوب و الكـلمات والخواطر و ... و... ، هـكـذا تأمـلـت العــنـوان كـصورة بـمـدالـيـلها، وردت فـي سـيـاق الـمـجـاز و الـتـشـبـيـه لـمـقـاربـة خـطـاب الـملامة ...

صلـب الـورقـة : جـدر هـذا الـديوان باهـتمامي ولم يـبـق مـعـلـقـا عـلـى الانتظـار ، ليس لغرابة عنوانه وإنما لعشق الشعر. ا رتـقـيت بقراء ته من الـعشق إلى اللـذة فـتحـول معها التلقي إلى مراق تـنـوعـت وفـق مستويات السطحية والانفعال والـتأثـر ...
حاولت ا بتدا ل ( الأنا) الـشاعرة – الكـاتبة ب (الأنا) الـقارئة ، فنصـبت نفسي مكان الـشاعر، دخلت عالمه بكل فضول ، فوجدتني أشهد وأقارب و أضيء ، لكن من الصعب علي أن أحس بما يحس به ، فهيهات ! هيهات ! كما جاء على حد تعبير الشاعـرإدريس الملياني : " لا أحد يستطيع الإحساس بالشعر الخارج من بين الصلب والترائب كإحساس الشاعر " .
وفي الديوان قال الشاعر :

" نـشـوتـي

أن

أ قــيــم

هـنـا

عـلـى الـطرف الـقـصـي من

الـسـلالــة

و ألـتـقـط إشـارات

أ شـبه مـا تـكـون

بـنـداء الاسـتـغـاثـة . " ص (29) .

أكـيـد ا ن الـشـاعـر هـو الـذي يـمـلـك الـرقـم الـسـري ( الـقـن) لـفـتح دهـالـيـز الـقـصـائـد ، وكـذلك الـمصبـاح الـسحـري لإضاءة الـنفـق واغـتـيـال الـدجـنـات ... و الـمـتـلـقـي لا يـسـتـطـيـع أ ن يـتـمـثـل أ شيـاء تـدور في فـلك الـشـاعـر وتـحـوم في تـخــيـله ، كما لا يخـطر على باله بـتـاتـا الـنص الـغـائـب والـمـعـنى الـبـعـيـد رغـم اقـتـرابـهـما مـنه .

" دائـما

شـغـف الـبـيـاض

يـورتــه الاقـتراب

مـن يــد صـوبـهــا الـشرق

بـعــيـدا

أقـام لـهـا في المنزه

مـعـبدا

تـعـجـز عـيناك أن تـراه " ص (33) .

إذن يـبـقى الـشاعـر وحـده هـو الـمـرسـل الـذي يـمـلـك حـق الــبــث و الإرســال ، وكـذلـك الـقـدرة على الـتـألـيـف بـيـن الأشـياء والـفـك بـيـنها ، كما يـبـقى ا ســتـقـبـال الـخـلـق و الإبـداع تأملا فـنـيا لا يشـط عـن المرامي الجمالية و الرمزية بعيدا ، و هو بذاته قراءة أخرى ليست بالعاشقة ، وإنما لها من الخصوصيات و المواصفات ما يجعـلها تصورية تـتـسـم بالـمـتعـة و اللـذة ، لها من الـتـذوق ما لا يوصف بجمال ، ومـن الـتكـلـف مـا لـم يكن بحـسـبـان .
أطـلـقـت رغـبتي عـلى عـواهـنها ، و حـاورت القـصائـد لأسـتـكـنه المـقـومات الإبداعـية والفـكـرية ، وضعـت قـصـديـة/ مـقـصـديـة(l’intentionnalité ( الــشـاعـرمـحـط تـأمـل فـوجـدتـه ذا نـفـس مـبـدعة ، أغـدق عـلى شعـره مـن مـوهـبـتـه الـجـمالـية ، وكـثـافـة لـغـتـه الأنـيـقـة ، كـمـا سربـل القصائد بـعـبـق الجمال ، مما جعـلـني أغترفها من جب الديوان ، و جدتها حبلى بالدلالات و الرموز و تهـيج معـها الـتصورات دون كـبح جمال الخيــال .

" مـهـما تـنافـيـت

سـيظـل يـؤالـفـني هـذا الـغـسـق

الـذي تـنهـض مـنـه الـكـتـابـة

تـمـامـا

مـثـل ديـانـة كامـلـة

أو

مـثـل مـجـرات دائـخـة يـوازن

بـيـنـهـا الـكـلا م " ص (28) .

طبعا للمتلقي قوة يوظفها هو الآخر في قبول المادة أو رفضها ، كما تمكنه هذه القوة من صب التأويلا ت الخاطئة و السيئة والتي تتحول أحيانا إلى اتهام النص وتجريم صاحبه ...
لقد حاول الشاعر خلق تواصل مباشر و حميمية لها من الحرارة ما يحرق المسافة الفاصلة بينه وبين المتلقي الذي يدرك المعنى بجمالية ، ويفهم المضمون بموضوعية .
اختار لنا الشاعـر باقة قنوات كلها في مقر القسم السادس من الديوان ، من RING TV مـرورا ب RTM حتى BBC ، شـاهد و سمع ثم أكد أن الحوار الذي توزعه الهوائيات وتبــثــه الفضائيات على كوكب الجريمة وخيمة الجميع حوار مغشوش .
قال :

" عبثا

يدفع الـرجـل البني بصوته

إلى آخر نقطة في المواجهة

و حين يتساقط الريش عن آخره

و تدمي البداهة شكـل الجـلـيـسـيـن

يـقـطع الـرجل ا لـحوار

بوصلة من تاريخ الأشـيـاء الـمـزيـفـة " ص (43) .

إن الشاعـر بوجمعة العوفي يكتب الشعر بكل حواسه ، و بالذاكرة والتمثل و الخيـا ل , يبني القـصيـدة بـمـعـمار أنيق وعلاقات استبدالية في بحر الاستعارة و المجاز مع سمك السواد ومديحه ، و توزيع البياض الناصح وصمته ، فتأتي القصيدة و كأنها أيقونة ترتدي حايك السحر و تسترسل في الإغراء ، وكل هذا من ربيب نعمة الشاعر لأنه كان رائد أيقونات ( الـعلم الـثقافي) .

خــتــم : ا رتـأيـت الـتـأمـل حتى تـقـاطع الـواقـع بالخـيال و الغـريب بالـمـألـوف ، فـرسـمـت صورة تـتغـذى من الـمـعـيـش وتعـب مـن الـتـخـيـيـل ، و بلا تـكـتـم لـمـحـت إلى الـمـدرك فـي جـزئه ...

أقـمـت في ذاتي و اسـتـبـطـنـتـها ، ثـم لاحـقـت الأشـيـاء بالـكلام و الـكـتـابـة كـنـتـيـجـة لـتـلـقي الـمقروء . وما حـصـل هـو الإقـنـاع والارضاء .
تـبـقـى هـذه الـورقـة مـحـدودة فـي سـيـاقـها ، و تجـربـة صاحـبهـا قـاصـرة فـي تـصـورها مـهـمـا أوتـيـت مـن تـحـمـل ، لأن جـمـيـع الـقـراءات بـمـخـتـلـف مـنـاهـجـها و كـفـاءة مـرجـعـيـتـها و سـلـطـة مـعـرفـتـا ، لا يمـكـنـها بـطـريـقـة أو بـأخـرى أ ن تـنـال مـن الـعـمـل الإبـداعـي الـرزيـن الـذي يـتـنـفـس مـن جـوهـره ، ومـثـلـه ديـوان " أصدقـاء يغـادرون حـنجـرتي" الـذي قـرأتـه بـطـابـع الـعـشـق والـصـفـاء الـمـخـتـوم بـلـون الـبـياض ، مـداده الـعواطـف والإحـسـاسـات الـقـصـيـة في ذات الاحـتـراق ... و لـصـديـقي الـشاعـر بوجمعة الـعـوفي أقـول : كـن كـيـفـما شـئـت ، لــن أغــادر حـنـجـرتـك أبـدا ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى