الأربعاء ١٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم عادل الأسطة

محمود درويش و ( باولو كويلو )

عادل الأسطة

في مقالة لي عنوانها " سؤال السلالة " (14/2/2006) كنت تساءلت إن كان درويش، قبل أن يكتب " كزهر اللوز " أو أبعد "(2005)، قرأ رواية ( باولو كويلو ) ذائعة الصيت " الخيميائي"، وقد نقلت إلى العربية وطبعت غير طبعة، وأنا اعتمد على ط4 الصادرة في العام 2004.
وربما كان الربط بين ديوان درويش ورواية ( كويلو ) المذكورة عائداً إلى أنني قرأت العملين معاً، في الفترة نفسها. ولو كنت قرأت الرواية قبل فترة طويلة من قراءة ديوان درويش، لربما ما خطر لي أن أربط بين شعر الشاعر ونثر الروائي.
وليس ما سآتي عليه يشكل انتقاصاً لدرويش، فهو يدرك تماماً أنْ ما من قراءة تبدأ من فراغ، وأن كل كتابة هي كتابة على الكتابة. وهو الذي صرّح في الكلمة التي ألقاها يوم حاز على جائزة الأمير كلاوس الهولندية، بتواضع جم، أن نصوصه إنْ هي إلاّ فسيفساء من نصوص الآخرين، وأن الفضل الذي يعود إليه إنما يعود إلى وضع اسمه على تلك النصوص. وأنا أؤكد هنا ثانية أنه متواضع إلى أبعد حدود التواضع.
قد يتأثر درويش بما يقرأ، لا غبار على ذلك. وتكمن ميزته، فيما أرى، في أنه يعيد صياغة الأشياء صياغة تجعلها تبدو كما لو أنها تكتب لأول مرة. والمعاني، كما قال الجاحظ، مطروحة في الطريق، يعرفها العربي والعجمي، والفضل يعود إلى الصياغة، إلى طريقة إبرازها. وهذا ما عززه ( غوتة ) الأديب الألماني: إن الكتاب العظماء ليسوا كتاباً عظماء لأنهم أتوا بأشياء جديدة، وإنما هم كتاب عظماء لأنهم أبرزوا الأشياء كما لو أنها تبرز لأول مرة.
أحد طلاب الصحافة في جامعة النجاح الوطنية، ممن درستهم لغة الإعلام أحضر لي ديوان " كزهر اللوز " أو أبعد "، وأخذ يقرأ لي قصيدة " برتقالية " وسألني عن المقصود بها، وأي بحر هو الذي تسقط فيه الشمس هذا. وأنا فهمت قصده، حين قرأت ما بين سطور كلماته، فأنا وضعت مشـهد سـقوط الشــمـس في البحر، مجازاً، في روايتي " الوطن عندما يخون "(1996). ولا أدري إنْ كان درويش قرأها. وقلت للطالب كلام الجاحظ وكلام (غوتة)، ولم أوافق على ما سمعته من أن باسم النبريص الشاعر الغزي يتهم درويش بالسطو على معاني الشعراء الشباب. فأنا أعرف أن درويش شاعر موهوب ذو خيال واسع ولا ينقصه المعنى، حتى لو قال هو نفسه: إن نصي هو فسيفساء من نصوص الآخرين، وهو ما قاله شعراً في " لا تعتذر عما فعلت ":
لكنْ قيل ما سأقول.
يسبقني غد ماض. أنا ملك الصدى
لا عرش لي إلاّ الهوامش والطريق
هو الطريقة. ربما نسي الأوائل وصف
شيء ما، أحرك فيه ذاكرة وحساً.

في ديوانه الأخير " كزهر اللوز أو أبعد " يكتب درويش قصيدة عنوانها " يد تنشر الصحو "، يبدو فيها تمجيد اليد التي تفعل، اليد التي ترقص خيلاً على النهوند، وتسكب البرق في قدح الشاي، وتحلب ثدي السحابة، وتتذكر ما سوف يحدث عما قليل، اليد التي تتحرش بالموجة في جسده. هذه اليد هي يدها التي تلمس الأوج همسة: خذني .. هنا الآن .. خذني !
والبعد الجمالي في القصيدة التي تمجد اليد واضح جداً، ومن لا يجد البلاغة العربية لا يمكن أن يفهم القصيدة: ثمة استعارة ومجاز، وثمة تراسل حواس، قال درويش مرة إنه أفاد فيه من ( لوركا ) الشاعر الإسباني.
اليد التي تسكب البرق في قدح الشاي، وتحلب ثدي السحابة. تسكب الشعر في قدح لاشاي وتحلب ثدي المرأة. هذا مجاز تعلمناه. واليد تتذكر، وهذا هو تراسل الحواس، ومثله: اليد تسهر وتثرثر حين يجف الكلام. الفم هو الذي يثرثر لا اليد، ولكن تراسل الحواس واضح.
هل قرأ درويش قبل أن يكتب هذه القصيدة " الخيميائي "؟ سؤال أثيره وأنا أقرأ العملين معاً. لماذا؟ لأنني لاحظت أن اليد ذات أهمية وقيمة كبيرة، تبرز هكذا في العملين معاً. في الخيميائي، في الطبعة العربية تبرز بعض المفردات، من خلال حرف طباعة مغاير، حرف سميك يغاير الكلمات المجاورة، ومن هذه الكلمات المميزة كلمة اليد التي يرد الحديث عنها مراراً. ( على سبيل المثال في الصفحات (112/128/129/168/169/170 ).

في ص 170 نقرأ:
" وفي غمرة الصمت الذي تلا ذلك، أدرك أن الصحراء والريح والشمس تبحث، هي أيضاً، عن الإشارات التي كتبتها تلك اليد، وأنها تريد أن تتبع طريقها، وتدرك ما الذي حفر على تلك الزمردة البسيطة. كان يعرف أن تلك الإشارات مبعثرة على الأرض وفي الفضاء، دون أن يكون في الظاهر، أي غاية لوجودها، وأي دلالة، وأن لا الصحارى، ولا الرياح، ولا الشموس، ولا البشر يعرفون لما خلقوا. إن هذه اليد تدرك الصلة التي من أجلها خلقت الكائنات، هي وحدها، قادرة على صنع المعجزات، وتحويل المحيطات صحارى، والرجال رياحاً، لأنها تدرك، هي وحدها، أن ثمة تدميراً سامياً يدفع بالكون إلى نقطة تتحول عندها أيام الخلق الستة، إنجازاً عظيماً " (170).

هل كانت الخيميائي من قراءات محمود درويش؟ ومن حق درويش أن يجيب وألا يجيب. أنا أسأل!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى