الجمعة ١٣ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم أوس داوود يعقوب

مرَّ عامان على رحيله

الوجه الأخر لمحمود درويش .. كان عاشقاً كبيراً .. ويحب الاستماع لعبد الوهاب وأم كلثوم وحليم ويتابع المسلسلات التاريخية السورية..

في 9 آب (أغسطس) 2008 رحل محمود درويش، مثل قمر نحاسي يسقط في مرايا البياض ولجة الغياب ... رحل قمّاش اللغة ومروّض خيوطها الجامحة.. تاركاً للشعرية الفلسطينية والعربية والإنسانية تراثاً مكتظاً بالإيقاع العالي والرؤيا الناجزة .. محمود درويش الشاعر عرفنا عنه الكثير ودار جدلاً واسعاً حول شعره

وأنجزت دراسات عديدة حول تجربته الشعرية، غير أن ما وصلنا عن محمود درويش الإنسان يكاد يكون قليلاً إن لم نقل نادراً، فماذا عن محمود درويش الإنسان، ومن هم أصدقاؤه الخلص؟ وما هي طقوسه اليومية في الكتابة والحياة؟ وماهي هواياته الأثيرة ؟ وكيف عاش سنواته الأخيرة في العاصمة الأردنية عمان؟ وما هي الأماكن المفضلة التي كان يقضي فيها أوقاته؟.. الأديب والصحفي الأردني المبدع الصديق يحيى القيسي كان له السبق في العام الماضي أن نشر مقالاً مطولاً حول الجوانب الإنسانية والحياتية عن الراحل الكبير، من أبرز ما جاء فيه ..

قضى الشاعر الراحل محمود درويش الثلاثة عشرة سنة الأخيرة من حياته في عمان التي جاءها منذ نهاية العام 1995م، وقد كانت له حياته الخاصة التي آثر أن تكون بعيدة عن الإعلام والأضواء، وكان انتقائيا في علاقاته، وأختار أصدقاؤه الخلّص بعناية .. في هذه السطور سنحاول الدخول إلى عالم درويش اليومي والاجتماعي، في محاولة لرسم صورة قلمية نتعرف من خلالها عن محمود درويش الإنسان، الذي وصفه الأديب الأردني غانم زريقات بعد رحيله بأنه "كاتدرائية صفات حميدة" وأنه كشاعر "خدم القضية الفلسطينية على المستوى العالمي أكثر من كافة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية مجتمعة ..".

أصدقاؤه الخلص ..

يعد المهندس والمقاول الفلسطيني علي حليله الصديق الأثير لمحمود درويش وهو الذي رافقه في رحلته الأخيرة إلى هيوستن لإجراء عمليته الجراحية وشهد لحظاته الأخيرة، وهو الذي ألحد رفيق عمره في التابوت وأودعه الطائرة الذاهبة إلى عمان، وكان على علاقة يومية بمحمود، وحاملا لمفتاح شقته وللكثير من أسراره، والصديق الثاني هو الإعلامي الأردني المناضل في صفوف الثورة الفلسطينية منذ البدايات غانم زريقات وهو أمين سر اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين لربع قرن، وكان على علاقة صداقة عائلية ويومية مع محمود في عمان، وكان رفيقه في لعبة النرد حتى قبل سفره بلحظات، ومن الكتاب والشعراء كان الشاعر طاهر رياض من أقرب الناس إليه، وتربطه به علاقة عائلية، وكذلك القاصة الأردنية بسمة النسور.

يذكر الأديب والصحفي المتميز يحيى القيسي أن حياة محمود في عمان لم تختلف عنها في بيروت وباريس والقاهرة وإن كان أبرز ما يميزها أن معظم وقت درويش في عمان كان للعمل الجاد، فالأصدقاء قليلون وخير دليل على ذلك أعماله الشعرية جميعها التي صدرت عن دار رياض الريس في بيروت مثل: الجدارية 2000م، حالة حصار 2002م، لا تعتذر عما فعلت 2004م، كزهر اللوز أو أبعد 2005م، في حضرة الغياب 2006م، أثر الفراشة 2008م، ولأن محمود لا يكتب في السفر فمعظم هذه الدواوين كتبت بين عمان ورام الله، وهذا ما يؤكده صديقه الأستاذ غانم زريقات قائلاً: "أستطيع أن أجزم بذلك لأنه كان يقرأ لي ولبعض الأصدقاء كثيراً من قصائده…"

وتتحدث القاصة بسمة النسور عن درويش قائلة: "تسنى لي أن ألتقي بمحمود منذ استقراره في عمان، أواسط التسعينيات، وتكررت اللقاءات في مناسبات ثقافية واجتماعية عديدة. ومنذ اللحظة الأولى أدركت أنني بصدد رجل استثنائي منحته الطبيعة تلك الهالة النفاذة، والهيبة المدروسة، والطاقة الروحية الخاصة، والقدرة على التأثير في المحيطين به دون كبير عناء. له حضور قوي المفعول يجعل الحواس متجهة إليه بشكل فطري، ولعل أكثر ما يثير الإعجاب بشخصيته سرعة البديهة، وخفة الظل، وذلك التهذيب العالي في الحديث، واللباقة في التعاطي مع الآخرين".

وتحكي بسمة عن جوانب أخرى من عالم درويش الإنسان الاقتراب من درويش على مستوى إنساني يشبه اكتشاف كنز من الدهشة، وثمة مستويات كثيرة في شخصيته شديدة الوعورة والتركيب، ولكن في معزل عن منجزه الإبداعي العظيم، كان رجلاً عادياً يحب كرة القدم والدراما السورية، ويعد ألذ فنجان قهوة يمكن للمرء أن يتذوقه، ولديه مزاج عال فيما يتعلق بالطعام. وفي هذا كان ذواقاً من الطراز الأول، فأحب المنسف الأردني كثيراً حتى أنه كان يطبخه باحتراف، وهو معروف لدى دائرة أصدقائه بمهاراته الفائقة في الطهي.

وكانت لديه طريقته المميزة في سرد النكات تجعلك تضحك حتى لو أنك سمعتها من قبل.

ويقول صديقه القديم علي حليلة: "محمود كان محباً وصادقاً وودوداً لأصدقائه وللناس بشكل عام، وهو متواضع جداً، وخجول لا يحب اللقاءات الاجتماعية التي يزيد فيها الحضور عن ستة أشخاص، ولم يكن يحب حفلات الاستقبال الكبيرة أو الدعوات والعزائم العامة.

كان معتدلاً في حياته، وفي طعامه وشرابه ونقاشاته، ولم يكن متطرفاً برأيه، هو متسامح جداً، ولم تكن لديه عداوات مع أحد، ونادراً ما سمعته يذم أحداً سواء كان من الشعراء أو غيرهم، كان كريماً وغالباً ما كان يعزم أصدقاءه، وكان مكانه المفضل مطعم برج الحمام في فندق [الأنتركونتننتال]، وأيام الجمع كنا نلتقي في بيتي..".

طقوسه اليومية في الكتابة والحياة

كانت لدرويش طقوس وعادات يومية لا يرغب بأن يخترقها أحد، ولا سيما ساعات قراءته وكتابته، وكان يعيش وحيداً في شقته العمانية إذ سبق أن تزوج مرتين، وطلق، وآخرهما بعد عمليته الأولى في فينا عام 1984م، وكانت فتاة مصرية، ولكن هذا الزواج لم يدم طويلاً، أما خادمته الفلبينية فكانت تأتيه كل يوم بين الثانية عشرة والنصف إلى الخامسة بعد الظهر لترتيب أمور البيت وتنظيفه، يقول طاهر رياض عن ذلك: "لم يكن ينام عند أحد، ولا يرغب أن ينام عنده أحد غالباً إلا بعض الأصدقاء الذين يأتون إليه أحياناً من فلسطين وبشكل استثنائي، وكان ينام عادة مبكراً ولا يتجاوز الثانية عشرة ليلاً ويستيقظ مبكراً حوالي الثامنة والنصف إلى التاسعة صباحاً، ويبدأ بحلاقة ذقنه والحمام وتناول القهوة، ثم يلبس أجمل ثيابه وحذاءه، كما لو أنه سيذهب إلى موعد رسمي، ويجلس خلف الطاولة ينتظر الإلهام بالكتابة، أو ليقتنص الوحي كما كان يعبر عن ذلك، وأحياناً يكتب صفحة أو صفحات وأحياناً لا يكتب شيئاً، المهم أن هذا الطقس كان مقدساً، ولهذا لم نكن نتصل به عادة في مثل هذا الوقت بل بعد الظهر أو مساءً حتى لا نزعجه..

وكان هناك لقاء يومي ما بين الخامسة والثامنة مساء لبعض الأصدقاء والكتاب، ولقاء آخر بعد الثامنة وحتى الحادية عشرة ليلا لأصدقاء آخرين، أما يوم الجمعة فكان الغداء غالبا في بيت علي حليلة، والسبت في بيت غانم .."

لاعب نرد بامتياز

كان درويش منشغلاً بالقراءة والكتابة جلّ وقته، وكان يتقن العبرية والانجليزية والفرنسية، ولم يكن يمارس أي نوع من الرياضة أو السباحة، ولا يسوق السيارات أيضاً، وكان يحب سماع الموسيقى الكلاسيكية الغربية لكبار الموسيقيين مثل بيتهوفن وتشايكوفسكي، وغالباً ما يشغل الموسيقى أثناء الكتابة، ولديه مجموعة كبيرة من الأشرطة والأقراص الموسيقية، وبشأن الغناء العربي فقد كان يحب سماع عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وكانت تسليته في لعب النرد (طاولة الزهر) وغالباً ما يلعبها مع صديقه غانم زريقات، وكان ينهمك في أجوائها، يصرخ أحياناً، ويغتاظ أحياناً أخرى مثل أي طفل، أما مشاهدته للتلفزيون فقد كان مغرماً بالدراما السورية خاصة الأعمال التاريخية في رمضان، وكان يتابع أحياناً أربعة مسلسلات معاً، وكانت تعجبه بشكل خاص المسلسلات التي يخرجها حاتم علي، والتي يكتبها وليد سيف…

تقول بسمة النسور عن هذا الأمر قضى أمسياته الهادئة في بيته الأنيق والبسيط، صحبة غانم زريقات جاره وصديق عمره. وكنا على الدوام نتابع مستجدات لعبة طاولة الزهر التي تولع بها، رغم أنه تعلمها متأخراً على يدي غانم، وكان سعيداً في الفترة الأخيرة لأنه حقق مقولة تفوق التلميذ على الأستاذ، فيما ظل غانم يدعي أنه كان يتعمد الخسارة رأفة به..!

صانع قهوة محترف وطباخ ماهر

يعترف أصدقاء درويش المقربين بأنه كان يصنع لهم القهوة بنفسه، ويتفنن في ذلك، ولا يحب أن يصنعها أو يقدمها لهم أحد غيره.

ويقول طاهر رياض عن هواية الطبخ كان محمود طباخاً ماهراً، ويحب أن يعزمني أحياناً على الغداء في بيته، وكان يتقن ثلاث أكلات ويتفنن في تقديمها وهي الملوخية ، والفاصوليا البيضاء، والباميا، وكان يسهب في وصف طريقته للطبخ، وكيف يقوم بانتقاء اللحمة ونوعها، وما هي درجة الحرارة التي يغلي بها الماء، ونوعية البهارات التي يستخدمها، وتفاصيل الملح والثوم وغيرها، أما الوجبة التي كان يعشقها، ويختارها إذا ما عزمه أحد وخيره بنوعية الطعام فهي المنسف وكان يعتبرها وجبة لذيذة.

درويش .. أسراري ليست للنشر
يذكر الأستاذ طاهر رياض أن درويش كان يقول له أحياناً: "هذه أسرار لك وحدك، أو ليست للنشر، وأحياناً لا يذكر ذلك فأعرف أنها يمكن أن تصل إلى الآخرين، وقد طلبت منه أكثر من مرة أن أجري معه حواراً طبيعياً دون أن ينتبه لجهاز التسجيل، فرفض قائلا بأن هناك جزء خاص به ولا يجوز أن يطلع عليه أحد، وقلت له حينها بأن الكثير من الكتاب العالميين قدموا اعترافات في اتجاهات شتى، مثلا علاقتهم بالمرأة أو العمل السياسي وغيرها" ولم يستطع رياض إقناع صديقه الذي ظل متمسكاً بالرفض.

ذلك أن درويش كان يصر حتى اللحظات الأخيرة أن حياته الخاصة وأسراره ليست للنشر، واحتراماً لرغبته هذه أغفل كل أصدقائه عن قصد جانب الحب في حياته وعلاقاته النسائية، وكأن بينهم جميعاً "اتفاق جنتلمان" على أن لا يتحدثوا للصحافة ووسائل الإعلام عن هذا الجانب، رغم أنهم كانوا يعرفون بأنّ المرأة كانت حاضرة في حياته حتى أيامه الأخيرة، وأنه كان عاشقاً كبيراً، وهذا يرشح من بعض قصائده، لكن هذا الاتفاق يحظر عليهم أن يتحدثوا في هذا الأمر، هناك من بعث التعازي لزائرة السبت احتراماً وتقديراً لها ولكنه لم يسمّها، وثمة من أحجم تماماً عن الدخول في هذا الجانب لأنه يرى فيه أمراً خاصاً بالراحل وليس مفتوحاً على الناس ..!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى