الاثنين ٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم حسن توفيق

من مقامات مجنون العرب

عنترة يمشي مرفوع الرأس.. بعد أن بدد غيوم اليأس

لم يكن الليل قد أقبل.. لكن كثيرين أحسوا ان كل شيء يوشك ان يتزلزل.. وهكذا تجمعت غيوم اليأس.. لكي تحجب نور الشمس.. ولكي ينسى اللاهون ما يجري انطلقوا الى الكأس.. وصرخ المذعورون: ما هذا اليوم النحس؟! ورأى الجميع أسراب
الجراد.. تهبط من السماء التي صبغتها بالسواد.. لكي تنقض على الاشجار في كل البلاد.. وتستثمر لصالحها موسم الحصاد.. واخذ الجراد يلتهم الزرع بشراهة.. بينما كان قليلون يراقبونه بكل بلاهة.. اما الذين أضناهم التعب.. وتشوقوا لجمع القطن وقطف العنب.. فقد استبد بهم الغضب.. فتأكد لعنترة ان هؤلاء هم العرب.. وان الوقوف معهم لا يحتاج لتبرير أو سبب.

ضحكت جرادة غريبة وهي تقول لصديقها الخفاش.. هؤلاء الناس أوباش.. ولابد من قتلهم او رميهم داخل الكهوف والأحراش.. واستمعت الجرادة للخفاش، وهو يقول:

لا تهتمي بهم فليس فيهم من يصول ويجول.. المهم أن يكون الفساد بينهم في ازدياد.. حتى ننقذ انفسنا من الركود والكساد.. والآن يا جرادتي الجميلة.. أريد منك قبلة طويلة.. ما دمنا قد قضينا على بعض الأشجار المثمرة والظليلة..
وجعلنا أعناق الذين يضايقوننا ذليلة.. وفي الحال اندمجت الجرادة والخفاش في عناق محموم.. لكنهما تنبها بسرعة عندما استنشقا رائحة سموم.. واندفع نحوهما حجر.. وبعده تطاير من عيني عنترة الشرر.قال عنترة للمجنون.. فلتتحرك معي لمواجهة الجراد الملعون.. من أجل نصرة كل والد ومولود.. أنا أقاتل.. إذن أنا موجود.. فاستوقفه المجنون وقال: لكن
غيوم اليأس تغمر أجواء القرى والمدن والجبال.. فانظر يا عنترة الى السماء.. فما كان من عنترة إلا أن أشهر سيفه في الهواء.. واخذ يلوح به دون إبطاء.. مؤكدا أَنْ ليس في السماء غيوم يأس.. وانما هي في كل نفس، تستسلم لما يواجهها وما تعاني منه من بؤس.. إن الغيوم ليست في الآفاق.. لكنها تتحرك في الأعماق.. وعلى كل من يشتاق.. للفرحة بالخضرة والنور.. أن يوقظ قلبه الجسور.. حتى يعانق الحياة.. وهو يواجه الشر الآتي من أي اتجاه.. وفجأة سمع عنترة والمجنون.. صوتا قادما من وراء القرون.. وتخيل المجنون أن الصوت صوت المتنبي وقد عاد.. كما تصور أن أرواح الأجداد.. تريد أن تعيد للاحفاد.. بعض ما فقدوه في ازمنة الفساد والكساد والرماد.. وهكذا انطلق الصوت.. ليدك اسوار الصمت:

أين العروبة.. لا عزٌّ ولا هممُ

ولا إخاءٌ به صدقٌ ولا ذممُ

الغول مندفع بالشر يحمله

وما لديكم سوى صمتٍ هو العدمُ

أغايةُ الصمت أن تُرضوا جبابرةً

يا أمةً طمستْ أعماقَهَا الظلَمُ

إطراقة الذل لن تحمي جماجمكم

فكلكم ورقٌ تلهو به حممٌ

وكلكم في يد الطاغوت لعبتُه

مهما خنعتم فان الكلَّ متهمُ

مواكب العارِ في الإعصارِ مُطْرقةٌ

وفي انتظار نداء الغول تزدحمُ

شوهد عنترة والمجنون يتقدمان.. عنترة والسيف في يده عنفوان.. والمجنون في يده وردة من شقائق النعمان.. وحولهما كان حشد من الفرسان الشجعان.. يتهيأ لمواجهة الجراد الجبان.. وفجأة ضحك المجنون من أعماق القلب.. كأن الحب قد عاد له رغم الشيب.. فالتفت عنترة نحوه بكل وقار وسأله: ما يضحكك أيها الفتى المهذار..؟.. فضحك المجنون مرة ثانية.. وأشار إلى بقعة نائية.. فأدرك عنترة أن الجرادة والخفاش.. واقعان على الارض دون حركة ولا ارتعاش.. وأنهما في حالة إعياء.. بل في شبه غيبوبة وإغماء.. وان حالتهما تدعو للرثاء.. وهذه مهمة الشعراء المرتزقة الأُجراء.

ضحك عنترة كما يضحك البسطاء.. وقال للمجنون انه ليس من هذا النوع من الشعراء.. اما المجنون فقد اكد حبه لعنترة.. خاصة أنه ممن يعفون عند المقدرة.. لأنه عربي اصيل.. وفارس شهم نبيل.. وهنا رفع عنترة الرأس.. بعد أن بدد غيوم اليأس.. من أعماق كل نفس.. وقال وهو ينطلق تحت الشمس:

سقط الذين سقوطَهم أتوقعُ

وثمار أرضي في الربيع ستطلعُ

إني من الارض الأبية فارسٌ

يحمي الحمَى ويبيدُ مَنْ قد يطمعُ

سأظل أهتفُ يا عروبة أَقدمي

والسيف في كفي ضميرٌ يسطعُ

عنترة يمشي مرفوع الرأس.. بعد أن بدد غيوم اليأس

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى