الأحد ٨ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم حسن توفيق

من مقامات مجنون العرب

المتنبي يطل على بغداد.. ويرفض الانقياد.. وراء أباطيل الأوغاد

أزاح المجنون عن نفسه.. ما كان من احزان أمسه.. ونفض غبار يأسه.. مؤكدا انه لا ينبغي للمجنون ان يتوه.. حتى لو تاه كل العقلاء الذين عرفهم وعرفوه.. او غير بعضهم ملامح الوجوه.. وأخذوا يرفعون شعارات كاذبة.. لكي يتملقوا بها القوة الغالبة.. متنكرين لنور الشمس ما دامت قد اصبحت غاربة.. وعلى الفور تذكر المجنون.. ما قاله له جده العبقري ابن خلدون .. وكيف انه قد رأى بفكره الثاقب.. أن المغلوب مولع بتقليد الغالب .. وانطلقت من قلب المجنون الآه.. وهو يقول: لا غالب إلا الله .. الحق أحق بأن يتَّبع.. .. مهما طغى ضلال واندفع.

سمع المجنون صوتا ينضح بالأحزان.. رغم أن نبرات الصوت تشع بالعنفوان.. وأحس المجنون أن الصوت ليس ببعيد.. وانه صوت عملاق فريد:

«مغاني الشِّعبِ طيباً في المغاني

بمنزلة الربيع من الزمانِ

ولكنَّ الفتى العربيَّ فيها

غريبُ الوجه واليد واللسانِ»

.. كانت الطرقات غارقة في الظلمات. لكن المجنون أسرع في الخطوات.. لكي يبحث عن مصدر الصوت القوي النبرات.. وبنور القلب الصادق. تجلى للمجنون جبل شاهق.. على قمته يجلس رجل وحيد.. ومن هيئته يبدو أنه آتٍ من زمان بعيد..
| من أنت أيها الرجل الوحيد؟

 لست بالوحيد.. ما دمتُ عن الحق لا أحيد.

| لكني أراك تجلس وحدك. وليس من أحد معك أو ضدك.

 أتسألني من أنا وأنت تعرفني؟!.. أنا أعرف جيدا أنك دائما تذكرني. ولن تستطيع أن تنكرني. إلا إذا صادروا قلبك.. وجعلوك - أستغفر الله - تنسى ربك.

| الحق أني كنت أعرف أنه أنت.. منذ أن استمعت إلى ما استمعت من صوت.. إنه أنت.. ولكن ماذا تفعل يا سيدي هنا؟

 أتسألني هذا السؤال؟.. هل اختلطت الحقيقة إلى هذا الحد بالضلال؟.. أنا هنا فوق تراب وطني.. أشهد ما أصابه من محن وأتذكر أيضا محني.. لقد قتلني ذات ليلٍ قطاع طريق.. ونهبوا ما كان معي من نفائس ذات بريق.. لكنهم لم يستطيعوا نهب ما كنت كتبت.. ولهذا ماتوا أما أنا فقد خلدت.. ألست أنت واحدا ممن يقرأون أشعاري.. ويعرفون تفاصيل حياتي وأسفاري.. ويتذكرون دائما في كل ليلة.. قصائدي في سيف الدولة وهجائي الغاضب لكافور.. ذلك الكلب الغادر العقور.

| يا سيدي.. هذا ما كان.. ولكني أسألك عما تفعله الآن؟

 لقد عدت من سحيق الزمن.. لأقبل وجه الوطن.. وهو يواجه ما يواجه من محن.. والمحزن حقا إني وجدتُ كثيرين من «العلوج».. يمنعون الناس من الدخول أو الخروج.. إلا بعد أن يثبتوا لهم أنهم عرب.. ولهذا أدخلَ «العلوج» أبا لهب..
وجاءوا معهم بمن قتل أو نهب.. آه يا أرض العراق.. مالي من الحزن انعتاق.. وأنا اعرف أن حمورابي حزين. لكني أعرف أيضا أن عشتار لن تلين.. أما الذين يرفعون الشعارات الكاذبة.. لكي يتملقوا بها قوة العلوج الغالبة.. فإني أعرف إنهم مسوخ.. وحتما سيتلاشون حين يعود زمان الشموخ:

ببغدادَ الجريحة كم أعاني

من الزمن الملطخ بالهوانِ

أطلُّ على خرابٍ فاق حزني

وأشهد ما يضيق به كياني

ظلالُ الأجنبيِّ على ثراها

ورائحةُ الخيانة في المكانِ

وحسرةُ فارسٍ أضحى وحيداً

بلا درعٍ يقيه ولا حصانِ

وينتظر الشهادةَ دون فتوى

ودجلة في انتظارِ العنفوانِ

جراحاتُ الحسين بلا نصير

وان كثر التُّجملُ في المعاني

وسيفُ الدولة النائي مُعَنَّى

وكافورٌ يفرُّ من الطعانِ

ويحلم بالنجاةِ ولا نجاةٌ

لأن الجبنَ مقبرةُ الجبانِ

أرى في الليل قافلةَ المخازي

وقد رقص العلوج مع الغواني

وهذا عصرُنَا العربيُّ يبدو

«غريبَ الوجه واليد واللسانِ»

المتنبي يطل على بغداد.. ويرفض الانقياد.. وراء أباطيل الأوغاد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى