الأحد ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم عبد المجيد العابد

التجربة الشعرية عند الشاعر محمد علي الرباوي

"فهذه الإسلامية تتحقق بِربط التجربة الشعرية المعَبَّر عنها برؤيا إسلامية وهذا في تقديري ما يعطي المبدعَ المسلمَ حرية في الكتابة" الرباوي

يعتبر الشعر عند الرباوي كتابا مفتوحا يمكن من خلاله أن نصل إلى طبيعة تنشئته الاجتماعية التي رفدت منها حياته النفسية، وتكونت شخصيته وطبيعته ابتداء من مرحلة الطفولة الصغرى باعتبارها مرحلة بناء الشخصية، وإليها يرجع النفسيون في الغالب لمعرفة سلوكيات الراشد التي لا تجد لها تفسيرا في هذه المرحلة، وما دامت التجربة الشعرية عند الرباوي صادقة في القول الشعري صفاء الطبيعة الصحراوية التي ميزت طفولته الصغرى بأسرير بتنجداد، فإن هذه التنشئة نراها منطبعة في شعره من خلال البوح واللغة المباشرة التقريرية التي تجسد رؤيته للأشياء والعالم، غير أن شاعرنا ما دام لم يبق عند حدود تنشئته الطفولية بتنجداد، بل سافر إلى أماكن متعددة واطلع على أوعاء مختلفة، فإن لغته المباشرة اعتورها الرمز، مما يدل على أن الطبيعة تجعله يبوح تقريرا، والوعي وتطور الوعي بالذات والغير يجعلانه يعود إلى الرمز في القول الشعري، وهذا الجمع بين التقرير والإيحاء جعل شعره غير ذلول على من لم يكن في الأصل متأصلا في البيئة الصحراوية التي نشأ عليها الشاعر، ولم يكن ذا اطلاع واسع على الذخيرة المعرفية التي استند إليها الشاعر في تجربته الشعرية من قرآن كريم وسنة نبوية وسيرة نبوية وتصوف وشعر غربي وعربي...

تحبل قصائد الرباوي بالمعاناة والمكابدة، وهي بذلك تتزييى بسحنة رومانسية بالغة التفرد، إذ تعد لصيقة تجربة حياتية ومرآة عاكسة تنطبع فيها كل هموم الرباوي، وهذه التجربة الحياتية للشاعر تغدو وعيا جمعيا عندما تتعلق بالإنسان المقهور في هذا المغرب الأقصى الأقسى على أهله من المغرب غير النافع وغيره، وهذه التجربة المريرة عينها تجمع في طياتها، من خلال قصائد السي محمد، بين الأمل والألم، الألم ينطبع في الواقع الحقيق والأمل في الحلم، وكِلا الألم والأمل يصبان في قالب شعري يغديه الرمز الذي يعد مهمازا للبوح والتأسي والمكابدة بكل الحمولات الدلالية التي يتسم بها، وقد يترك الأمر لا يثني فيه عنان اللغة المباشرة والبوح بآهاته التي لا تنتهي، مكسرا بذلك جميع القيود والطابوهات التي كانت تعتري مغرب الأمس.

يستعمل الرباوي الرمز استعمالات تتماشى مع تجربته الواقعية التي جعلها مهمازا لقول القصيد مما يخرق في غالب الأحيان أفق انتظار القارئ، فما تفتقت قريحته إلا لتكشف عن لواعجه التي كانت هجيراه وديدنه، فهو يعتمده ليس ترفا شعريا أو تشدقا كما يفعل كثير من الشعراء الذي يستلهمون تجارب غيرهم في القول الشعري، إذ نعيش معه اللحظة التي كان يحياها. إن الشعر عنده صورة بصرية توقف الزمن لتسترجع ذاكرة بل ذواكر قصية، أصبحت مكنون الذات الشاعرة وشيئا مهما من تكون الحياة النفسية للشاعر، هذه الحياة التي ملؤها اللواعج ما كانت لترصد بهذه الطريقة لولا استنادها إلى الرمز بما يستجيب وخصوصية التجربة المعيشية للرباوي.

إن السندباد الذي عرفناه في ألف ليلة وليلة رحالا سواء في البر أم في البحر، كان ديدنه الرئيس الوصول والعودة سالما غانما، بالرغم من العثرات والعراقيل التي يصادفها طيلة رحلاته العجيبة المليئة بالدهشة، حيث يعتورها الغريب والعجيب، وتجمع بين الخيالي والواقعي، الممكن والمستحيل.

نلفي سندباد الرباوي "السندباد المغربي" له خصوصيات تختلف عن المألوف في السندباد، مما يتناسب وخصوصيات التداول المغربي والوعي الجمعي الذي نشأ عن فترة تاريخية عرفتها الطفولة الكبرى للشاعر، تلك الخصوصيات التي تتراءى لي تجربة حياتية شاملة، فما يصوره الرباوي هو نسخة من نموذج عام، يمكن أن ندخل من خلاله عوالم طبيعة التنشئة الاجتماعية المختلفة التي طبعت الحياة الصحراوية القاسية بكل تمفصلاتها، أي كل ما يتعلق بالتربية الأسرية والعلاقة بين الأجيال وطبيعة النظر إلى العالم والأشياء وكلها تشكل عوالم بالغة الأهمية في تشكل الذات والوعي بها في الآن نفسه (تذكرنا بحفريات محمد عابد الجابري فالعوالم نفسها والنظرة الوجودية نفسها والحلم نفسه والآلام والآمال عينها).

إن هذه الخصوصيات التي عرفناها سالفا هي ما جعل سندباد الرباوي لا يصل، حيث أثرت التجربة الشعرية في الرمز بدلا من أن يؤثر هو فيها، فطبيعة الموضوع (المعاناة والمكابدة والشجن) تستوجب استعمال الرمز وفقا للتجربة الذاتية، أي عدم الوصول أو الرحيل أو الموت الذي لا راد لقضاء الله فيه:

يَقُولُ الْمُعَزُّونَ أَنْتَ خَلِيفَتُهُ
عَجَباً…أَلِأَنَّ مَلامِحَهُ ﭐنْطَبَعَتْ فِي مُحَيَّايَ
كَيْفَ أَكُونُ خَليفَةَ مَنْ
تِبْرُهُ يَنْتَهِي قَبْلَ أَنْ
يَنْتَهِي تِبْنُهُ وَأَنَا مَا أَزَالُ أَسِيرَ الْحَيَاةِ
صَرِيعَ الرَّصَاصِ
كَيْفَ أَكُونُ خَليفَةَ مَنْ
سَمِعَ الصَّوْتَ مَنْ
أَبْصَرَ الضَّوْءَ
وَهْوَ يُزَيِّنُ بُسْتَانَهُ بِسَوَاقِي الْحَيَاةِ الْجَمِيلَةِ
كَيْفَ أَكُونُ خَلِيفَتَهُ؟
كَيْفَ يَرْقَى إِلَى قَامَةِ النَّخْلَةِ الْبَقْلُ؟
كَيْفَ أَكُونُ خَلِيفَتَهُ ؟
كَيْفَ؟…آهْ
وَلَدِي..كُنْ أبِي
كُنْ أَبِي
أُمِّي..قُدَّامِي تَبْكِي (من قصيدة "من مكابدات السندباد المغربي"بتصرف)

لكن رغم هذا المصاب الجلل الذي ألم بالشاعر، إلا أن السندباد نفسه يحذوه الأمل المتمثل في الخلف، الذي سيجلو الحياة فيما بعد، لذلك كان من المعهود أن يسمى المرء بالخلافة أو الخليفة، بعد موت البطرييرك في الأسرة البطريركية الصحراوية بالتعبير الاجتماعي، ومن تم فالشاعر في هذه المكابدة يرزح بين الألم والأمل، وهذه التجربة الذاتية نفسها نسخة من تجربة عامة إذ تجمع بين الذاتي والموضوعي لتصبح أزمة وطن لا يعرف رحمة لأبنائه المقهورين، وهذا ما يجعل رمز سندباد يجمع بين القهر والمكابدة في علاقته بالبلد والوطن الذي لا يحمي المقهورين من براثن الدهر:

هَلْ يَقْدِرُ مِسْكِينٌ فِي بَلَدِي
أَنْ يَدْفَعَ أُجْرَةَ حَفَّارِ القَبْرْ
هَلْ يَلْقَى مِسْكِينٌ مَقْهُورٌ فِي بَلَدِي
مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَالَ
لِيَرْمِيَ جُثَّتَهُ فِي جَوْفِ القَبْرْ
………………………….
أَخْشَى أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ مُرّْ
يُدْفَنُ فِيهِ الْمِسْكِينُ بِهَذَا البَلَدِ الْمُرّْ
-إِنْ دَاهَمَهُ طَيْرُ الْمَوْتِ- بِلاَ أَكْفَانْ
مَنْ مِنْ أَهْلِي إِنْ فَاجَأَنِي الْمَوْتُ الْمُرّْ
قَدْ يَدْفَعُ عَنْ جَسَدِي الْمُرّْ
ثَمَنَ الْكَفَنِ الْمُرّْ
أَوْ ثَمَنَ القَبْرِ الْمُرّْ
يَا هَذَا الْمِسْكِينُ الْمَقْهُورُ
لَكَ الله.ُ.
لَكَ اللهُ..
لَكَ اللهُ (من قصيدة "من مكابدات السندباد المغربي"بتصرف)

يتعدى السندباد الفرد إلى الجماعة إلى الوطن، ثم ينتقل إلى الأمة العربية جمعاء، قاسمهم المشترك القهر والمكابدة والمعاناة، حيث تغدو هذه الدول العربية رغم اختلافها مشتركة في شيء واحد (المعاناة)، فالسندباد الذي كان يرحل دائما ويتجول عبر العالم لمدة سبعة وعشرين عاما، كان يتراءى له الأمر مختلفا بين البلاد، وإلا لما رغب في الترحال وتجشم عناء السفر مادام الأمر عنده غير مكرور، لكن سندباد الرباوي القومي يكرر نفسه استجابة لطبيعة الحياة العربية المكرورة اليوم لما يلفها من تطبيع قائم مع إسرائيل (السلطة السياسية) وتهميش (المجتمع المدني والأفراد):

تَلُّ أَبيبْ
تَتَسَكَّعُ فِي طُرُقَاتِ دِمَشْقْ
وَتَدُوسُ حَوَافِرُهَا كُلَّ شَوَارِعِ بَيْرُوتْ
وَالْقُدْسُ الأَشْرَفُ
مَسْجِدُهُ الْمَيْمُونُ بِنَايَاتٌ مِنْ وَرَقٍ
أَذِنَ اللَّيْلُُ لَهَا أن تُرْفَعَ
فِي سَاحَةِ وَجْدَةَ
أَوْ سَاحَةِ طَنْجَةَ
أَوْ سَاحَاتِ الدَارِ البَيْضَاءْ
****
تَلُّ أَبِيبْ
دَخَلَتْ فِي هَذِي السَّنَةِ الشَّهْبَاءِ
…………………………………
مِنْ بَغْدَادَ مِنَ القَاهِرَةِ الْمَقْهُورَةِ مِنْ جُدَّهْ
تَتَفَجَّرُ قَانُوناً مَجْنُوناً
يَفْرِضُ تَوْأَمَةً فَاجِرَةً
بَيْنَ دِمَشْقَ وَ تَلِّ أَبِيبَ
هُمَا الآنَ يَدٌ وَاحِدَةٌ كَافِرَةٌ
تَقْلَعُ أَغْصَانَ الزَّيْتُونِ الْمَيْمُونِ الطَّلْعَةِ
مِنْ كُلِّ بَسَاتِينِ حَمَاهْ (من قصيدة "تل أبيب"بتصرف)

يرتبط الوطن في عرف الرباوي بالقهر، وفي ذلك تعبير عن طبيعة التجربة الشعرية التي يمر منها الشاعر فهي مزيج بين انتماء للمغرب غير النافع من جهة، وهي كذلك وعي بالذات وتطور لتشكل الأنا الواعية من خلال الموسوعات الإدراكية المتعددة التي يستند إليها الرباوي في القول الشعري، لذلك فالوطن ينقشع للرباوي قاهرا لأبنائه ولمناضليه، يجازيهم بمثل ما جوزي سنمار، مثل امرأة تلهث أمام من يكذبها لا من يحكمها، إن المناضل نفسه يعد في المغرب رمزا للحلم والانفصام، فهو يؤمن بالوطن الحلم كما بناه وهو يطرد الاستعمار، وطن ينسيه ويلات الاستعمار ويعترف بوطنيته وبحسن انتمائه، وبين الوطن كما يعيشه حقيقة، وطن ولى ظهره لماضيه وتخلى عن مناضليه، مما أصاب المناضل الحقيق بأزمة وعي بعدما دفنا الماضي:

قَالُوا عَنْهُ مُنَاضَِلْ
يَحْمِلُ أَتْعَابَ الشَّعْبِ الْمُتَوَتِّرِ فِي صَدْرِهْ
يَحْلُُمُ بِالْفَجْرِ يَرُشُّ غَلاَئِلَهُ
بَيْنَ ضُلُوعِ حَبِيبَتِهِ السَّمْرَاءْ
****
هَذَا الرَّجُلُ الثَّائِرُ
لَمْ أَكُ أَعْرِفُهُ عُضْواً عُضْواً
لَكِنِّي بِالأَمْسِ قَرَأْتُ كَثِيراً عَنْهُ
سَمِعْتُ كَثِيراً عَنْهُ
ﭐلْيَوْمَ أُفَتِّشُ عَنْهُ
لِأَقْرَأَ فِي اللَّيْلِ كِتَابَهْ
****
قَالُوا عَنْهُ مُنَاضِلْ
هَا إِنِّي سَفْرٌ أَبْحَثُ
فِي كُلِّ مَحَطَّاتِ الوَطَنِ الْهَارِبِ عَنْ ذَاتِهْ (من قصيدة "المناضل"بتصرف)

إلى جانب القهر في الوطن، حيث يعد الوطن في تجربة الشاعر نهاية رمزا للقهر والحرمان والاستبداد بالمظلومين، استعمل الشاعر مجموعة من الرموز للدلالة على الرتابة والملل في الحياة ومن الحياة، وهي كلها رموز، على عادته يستعملها وفقا لتجربته المخصوصة التي أثرت في البوح الشعري لديه، وهي تجربة تعد أيضا نسخة من نموذج عام يجمع كل المقهورين واليائسين، الفواجع نفسها تتكرر والأشخاص أنفسهم يأتون ويروحون وسماع القتلى يذوي في أركان القاعات وفي شاشات التلفاز، خيبر لا تعيد نفسها في هذا الزمن البغيض، والقتلى يموتون يوما عن يوم، ولا من يندب وامعتصماه، إن الهم الدفين الذي يرفل جسد الرباوي ينتفض دما قراحا يجمع بين الحلم والواقع، كل شيء مكرور إلا الأمل:

هَادِئَةٌ كَالْعَادَةِ هَذِي الْمَقْهَى..
لَمْ يُقْلِقْهَا بَعْدُ شُعَاعُ الشَّمْسِ الشَّارِدِ
اَلزُّبَنَاءُ هُمُ الزُّبَنَاءُ..
مَوَاجِعُهُمْ اِرْتَطَمَتْ بِمَقَاعِدِهَا الْمَبْثُوثَةِ
بَيْنَ حَنَايَا أَضْلُعِهَا الْمُنْطَفِئَهْ
لاَ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ..
لاَ أَحَدٌ يَتَحَدَّثُ..
أَوْ يَصْرُخُ..
إِلاَّ هَذِي الشَّاشَهْ:
صُوَرُ الْقَتْلَى
وَأَنينُ الْجَرْحَى (من قصيدة"المقهى" بتصرف)

إن المقهى عند الرباوي رمز للكآبة والرتابة، في كل شي إلا الأمل، رتابة في قتلى المسلمين في فلسطين وبغداد وباقي البلاد الإسلامية، حتى إننا تطبعنا على سماع "مسلسل الشرق الأوسط" بكل ما تحمله العبارة من لذة وألم، ولكن كل يوم نسمع ونرى حلقة من حلقات هذا المسلسل من دون أن يبقى لنا من المسلسل شيء إلا رسمه، هذا هو المشهد الذي تبقى عليه قضايانا العربية مجرد صور ومشاهد رتيبة معادة مكرورة حتى أمست أمرا مألوفا.
ومنه، كانت أغلب قصائد الرباوي تجمع بين الألم والأمل، فيعود في كثير من الأحيان إلى ذاته يحاورها، مختارا لبيته العاجي بدلا من هذا الواقع المرير، وغالبا ما يلوذ الإنسان إلى الوحدة إما نسكا وتصوفا أو هروبا من واقع مأزوم، إلا أن شاعرنا يخلد إليها للسببين معا، فهو لم يهرب من واقع الجماعة فقط لأنه لم يستطع التفاعل معه، بل لأنه يرى أن صوت الشاعر لم يعد يتردد صداه بعيدا في زمن ولى ظهره للمبادئ الإنسانية النبيلة ( المروءة أو قيمة القيم)، فشاعرنا يخلد إلى ذاته ليراجع نفسه فيما صدر وورد، وما تأثر به وشكل وعيه بالذات وبالغير والآخر أولا من خلال طفولته الصغرى بأسرير تنجداد رمز الطهر والصفاء والنقاء كما الطبيعة الصحراوية، إذ كل شيء كان يبوح بأسراره والإنسان يعيش فيها على الجبلة والفطرة السليمة التي فطره الله عليها (المروءة)، بينما اليوم كل شيء تبدل، لذلك عاش الرباوي الغربة في الذات وفي الوطن وفي الأمة، فلا شيء غير الوحدة يعيد له توازنه النفسي:

حِينَمَا تَبْلَعُنِي الوَحْدَةُ يَوْماً يَا رَفِيقَهْ
أَشْرَبُ الأَحْلاَمَ أَمْتَصُّ شَذَا الذِّكْرَى الرَّقِيقَهْ
فَأُحِسُّ الوَحْيَ يَخْطُو فَوْقَ أَنْفَاسِي العَتِيقَهْ
نَاسِجاً فِي وَتَرِي فُسْتَانَ أَنْغَامٍ طَليقَهْ
جَدْوَلُ الوَحْدَةِ أَمْسَى فِي خَيَالِي يَتَبَخْتَرْ
وَأَنَا تَحْتَ ظِلاَلِ الشَّمْسِ وَالأَحْلاَمِ أَسْكَرْ
أَنْقُشُ الأَيَّامَ فِي ذَاتِي وَأَمْضِي أَتَعَثَّرْ
وَيَرَانِي الظِّلُّ فِي الشَّارِعِ شَيْئاً لَيْسَ يُذْكَرْ
أَعْشَقُ الصَّحْوَ لِأنِّي عِنْدَ صَحْوِي أَتَمَزَّقْ
فَأَرَى عَيْنَيْكِ فِي ذَاتِيَ نَهْراً يَتَدَفَّقْ
وَأُحِسُّ الْكَوْنَ قَلْباً وَأَنَا فِي العُمْقِ أَعْشَقْ
أَنَا فِي صَحْوِيَ عُصْفُورٌ وَفِــي حُلْمِيَ بَيْدَقْ (من قصيدة "كتابة فوق خريطة الصحو)

إن هذه اللحظة الانفصامية هي الكفيلة بإحساس الشاعر بالأمل، وتجاوز الكدر والكآبة التي تطبع جل قصائده التي تبوح بمكنون الذات الشاعرة، لكن هذا الأمل اليسير المرتبط بالانفصام سرعان ما يزول بمجرد عودة الذات إلى حقيقة الواقع، آنذاك تسفر التجربة الشعرية عن ذاتها وتعود إلى البوح بالمعاناة والمكابدة، إما عبر اللغة المباشرة أو عبر لغة الرمز:

آهِ لَوْ عُدْنَا وَغَنَّيْنَا الْهَوَى لَـحْنَ الْخُلُودْ
لَوْ نَفَضْنَا السُّحْبَ وَاللَّيْلَ وَوَحَّدْنَا الْحُدُودْ
لَوْ دَفَنَّا الْحِقْدَ وَالأَشْوَاكَ فِي كَهْفِ اللُّحُودْ
وَزَرَعْنَا رَوْضَنَا الوَاسِعَ مَعْسُولَ الوُرُودْ
نَحْنُ يَا حُلْوُ بَرِيئَانِ غَزَا الْجِنُّ هَوَانَا
كَانَ وَسْوَاساً وَخَنَّاساً وَشَيْطَاناً وَكَانَا
حَسْبُهُ أنَّا ﭐفْتَـرَقْنَا..آهِ لَوْ عَادَ لِقَانَا
آهِ لَوْ عُدْنَا وَغنَّيْنَا الْهَوَى لَحْنَ الْخُلُودْ
وَزَرَعْنَا رَوْضَنَا الْوَاسِعَ مَعْسُولَ الوُرُودْ (من قصيدة "آه لوعدنا" بتصرف)
وتحضر الطبيعة نظرا لتجربة الشاعر وخصوصيتها باعتبارها رمزا للجفاء واليبس، إذ إن لطبيعة في الأصل رمز للأمل والصفاء والنقاء كما كان يراها أغلب الشعراء الرومانسيين، غير أن الطبيعة في شعر الرباوي تندغم في التجربة الشعرية فتحيل إلى الجفاء والتبدل إلى الأسوء، بما يتماشى ووجدان الشاعر، فلا يمكن من الناحية المنطقية لإنسان يكابد ويعاني أن ينظر إلى الوردة التي تزين العوالم، بل ينظر إلى الشوك الذي يحوم حولها، ولولاه لما بقيت متفتحة صادحة، إن الحكم الجمالي ذاتي إذن:

تَتَسَلَّلُ أَوْرَاقُ الشَّمْسِ إِلَى الغُرْفَهْ
تُحْرِقُ ذَاتِي.
أَبْحَثُ عَنْ بَابِ الشُّرْفَهْ
أَلْقَى عُصْفُوراً يَصْنَعُ عُشًّا مِنْ أَوْرَاقِ الشَّمْسْ
يَرْسُمُ فِي صَمْتٍ قَفَصاً تَحْمِلُهُ سُنْبُلَةٌ خَضْرَاءْ
أَجْمَعُ ذَاتِي.
أَسْقُطُ عِنْدَ قَوَادمِ عُصْفُورِي
تَتَغَيَّرُ دَمْعَاتِي (من قصيدة "حكاية" بتصرف).

وتحضر الطبيعة كذلك من خلال رموز مهمة في القول الشعري لمحمد علي الرباوي: البحر والنخل والقمر، فالأول ارتبط بالحلم والأمل والجلال والجمال والسفر والكرم في الثقافة العربية، لكن ارتباط بتجربة شاعرنا فالبحر رمز للبعد والنأي والغربة، والمفارقة بين بلاد عربية وما فيها من ويلات وبلاد أوربية وما تعلق بها من التهام لخيرات الدول المستعمرة، ومن رجالاتها ومناضليها، لذلك كان البحر عبئا على الشاعر لارتباطه بمكابدة أبيه وقطعه المسافات بعيدا عن أهله من دون أن يغنم شيئا غير الكآبة والموت وتشريد الأبناء.

أما النخلة فقد حافظت على رمزيتها في الثقافة الصحراوية بالرشيدية ووارزازات على الأخص، إذ هي رمز للشموخ والأنفة والعزة، لا تهب نفسها ذلولا كباقي الأشجار، ولا يمكن أن يصل إليها إلا من خبرها وكابد من أجل وصلها(الرزق المعلق)، لذلك كانت النخلة مرآة عاكسة لشموخ أهلها واعتزازهم بأنفسهم، وهي كذلك رمز للصبر والجلد إذ تتكيف مع الطبيعة الجافة وتصبر وقتا طويلا من دون ماء ولارواء، مثل أصحابها الذين عرفوا بصبرهم وجلدهم، كما أنها رمز للتوطن والانتماء فهي تضرب بجذورها في أعماق الأرض بحثا عن الندى والماء، ومن تم كان الاهتمام بها من صميم الاهتمام بالبلد وأصحابه، وما تكريمها في القرآن الكريم إلا دليل على قيمتها وشموخها بين كل الأشجار.

بينما القمر فيرمز إلى الصفاء والنقاء والصرخة الأولى بعيدا عن مكابدة الحياة ومشكلاتها، إنه النور الذي يبعث الحياة في أسرير رغم ما شاب القرية من تبدل وترهل، يبقى القمر شامخا وضاء إليه يلوذ الشاعر ويمني النفس أن تعود البلدة كما القمر نورا بعد نور، إن حضور الطبيعة في الغالب عند الرباوي يقترن بالمقارنة بين عالم الإنسان المتغير إلى الأسوء، وعالم الطبيعة الذي يتغير ويتبدل بهذا التغير الإنساني.

ونجد حضور المرأة بمثل ما تحضر به في البيئة التي جَبَلَت الشاعر وكذا في التداول الإسلامي، فهي ليست وعاء للاشتهاء كما درج أغلب الشعراء على ذلك، بل يتسامى بها شاعرنا من المادة إلى الروح، إذ ليست مهفهفة غير مفاضة ولا مأكمة يضيق الباب عنها، بل روحا تسامى وصفا على نحو صوفي يدعو إلى الوجد.

وإلى جانب هذه الرموز التي تحبل بها قصائد الرباوي وتساهم في توضيح طرق وطبيعة تشكل الذات الشاعرة الواعية، نجد حضورا لافتا لأمكنة متعددة في نصوصه الشعرية، يراها بمنظار تجربته الشعرية من قبيل سيدي قاسم ومكناس والدار البيضاء وعين السبع وبغداد وخيبر والقاهرة وجدة ووجدة وتنجداد وأسرير وتل أبيب... وكل هذه الأماكن ليست مقصودة لذاتها بل في علاقتها بتجربة الشاعر وتشكل الوعي بالذات، فالإنسان العارف بالله الذي تأخذه السياحة في طلب المعرفة لا يقف عند المألوف من الأشياء والأماكن، بل يبحث في مكنوناتها وتناقضاتها، وهذا ما حصل لنا مع الشاعر الرباوي، إذ يصور هذه الأماكن المشكلة للوعي وكأنه يكتب سيناريو يمكن أن نحول من خلاله شعره إلى فيلم طويل، ما دام يصدق فيما يرى مثل كاميرا موضوعية بعيدة عن تدخل الذات.

ويكثر التناص في شعر الرباوي حتى إن قارئه يجد نفسه صغيرا أمام هذه الترسانة من هذا السفر عبر القرآن الكريم والسنة النبوية والسيرة النبوية، فشاعرنا يستلهم لغته من معجم ديني مواز لتجربته الشاعرة ومحيلا إلى أن الشعر يرقى عندما يرتبط بالعرفان، ويصور الإنسان في أبهى تجلياته الإيمانية التي يحضنها الدين عقيدة وشريعة، ويزكي هذا الحضور الديني النزعة الصوفية لدى شاعرنا من خلال التناص مع أعمدة الفكر الصوفي محي الدين بن عربي والجنيد وغيرهما، حتى غدت بعض قصائده أورادا صوفية وحكما يمكن أن ترشد الإنسان في حياته، كما يحضر التناص الشعري من خلال الرجوع إلى الشعر العمودي كشعر بشار بن برد وامرئ القيس وغيرهما أو الشعر الحر من خلال بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور... والشعر الغربي ما دام شاعرنا مارس تدريس اللغة الفرنسية ابتداء من خلال حضور إيليوت وموليير، وقد أصبح التناص في شعر الرباوي جزءا لا ينفصل من لغته الشعرية.

إن هذا التعدد في الموسوعة الإدراكية أو الذخيرة التي طبعت التجربة الشعرية للرباوي خلقت عنده وعيا شقيا بين ما يحلم به ويريده لوطنه وأمته وما يراه في الواقع المعيش، وهذه المفارقة الصارخة بين الحلم والوقع في التجربة الشعرية للرباوي هي ما يخلق لشعره فرادته ويصنع للشاعر أسلوبه المخصوص في القول الشعري وينمي لديه نزعة فلسفية تأملية في الوجود.وهذا التعدد نفسه طلب قارئا نموذجيا لشعره، إذ يعسر على كثير من القراء الوصول إلى ما يريده الرباوي خصوصا عندما يلوذ إلى الرمز وإلى استنطاق مكنونه المعرفي وطاقته العلمية الكبيرة في البوح الشعري.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى