الثلاثاء ٩ حزيران (يونيو) ٢٠١٥
بقلم محمود سعيد

الطريق إلى واشنطون

توجّه إلى مقعده في الحافلة. سيّدة شقراء ثلاثينيّة، مقعدها مقابل مقعده، لا يفصلهما سوى الممرّ، تجلس إلى جانبها كهلة بيضاء تسند رأسها إلى الشّباك، تنظر إلى السّيّارات المتجمّعة في السّاحة، لم يعد يظهر من وجهها سوى أنفها وجزء من صفحة وجهها مغطاة بشعر أشمط. في حضن الشّابة طفلة تداعبها، تهمس لها وهي منحية فوقها. لم يستطع التّفرّس في تقاطيعهما، بعد جلوسه اعتدلت الشّابة. بدا جانب وجهها الأيمن واضحاً. زرقاء العينين، حلوة التّقاطيع. اعتدلت الطّفلة في حضنها. لا تتجاوز سنتين. شعّ جمالها شمساً محرقة، هجينة، بياض حليبيّ، صافٍ. ثم ما هذا؟ تناقض معجز! جمال إفريقيّ مثاليّ لكنّه أبيض، عشتار أفريقيّة، جبهة عريضة تندفع إلى الخلف، مع وجنتين بارزتين، أنف قصير ينفرش قليلاً فوق شفتين عريضتين، فم بارز إلى الأمام تحته حنك ينحدر نحو العنق في انسجام وحشيّ متدفّق تحرسه عينان سوداوان واسعتان. شعر ملفلف مضفور ضفائر دقيقة في آخرها خرز ملوّن. تلمع عيناها الحوراوان الواسعتان. شيء ما يندفع منهما، شلال ضوء غامر يغرقه في اللامنتهي. تتحرّك في حضن أمّها لولباً لا يستقرّ. ذكّرته بابنة اخته، في نفس عمرها بالضّبط حين أرسلوا صورتها قبل خمس سنين. تمنّى لو يستطيع أن يحضن هذه الطّفلة، يمزح معها، يداعبها، يكلّمها. التفتتْ الشّابة إليه مصادفة. رأته ينظر إلى طفلتها ذاهلاً. ابتسمت ابتسامة واسعة. استدارت الطّفلة، اتكأت على صدر أمّها، لوّحت له بيدها الصّغيرة: "أهلاً". ابتسم مُنصف: "أهلاً، ما اسمك؟" أجابت في الحال: آشلي. وأنت جيمس؟". ضحك مُنصف بسعادة. ابتسمت أمّها: آشلي، هذا ليس جيمس جارنا، هذا غريب، لا نعرفه، نراه أوّل مرّة.

-ما اسمه؟

- منصف.

رددتْ: "منسِف، منسِف." ثم التفتتْ إلى أمّها: "أعنده أطفال؟". ضحك ضحكة قصيرة، ابتسمتْ أمّها:" لا أدري". نظرت إليه، هزّ رأسه نافياً. قالتْ أمّها لها: لا.

-لماذا ليس له أطفال؟

وضعت أمّها إصبعها على فمها، قالتْ برقّة: "آشلي، قلت لك أكثر من مرّة لا تسألي الغرباء". أصرّت: " لماذا ليس له أطفال؟ أبي عنده أطفال، جيمس عنده أطفال، ما اسم زوجته؟". هزّ رأسه مرّة أخرى، قالتْ أمّها لها: عُزُب.
- لماذا؟ أهو فقير؟ ليس عنده بيت كعمي جورج.

ضحكتْ أمّها ومُنصف، قال: إنّها ذكيّة.
-نعم، هي كذلك.
التفتتْ إليها: ألا تريدين أن تنامي؟
-ليس الآن.
سالته أمّها: أسيتوقّف الثّلج؟
-لم أشاهد الأخبار.

أجابت الفتاة السّوداء التي تجلس إلى يمينه: "نعم، سيتوقّف الثّلج بعد السّادسة مساءً، وستصحو السّماء". التّفتَ مُنصف إليها: "ظننتك نائمةً". ابتسمتْ فبدت تقاطيعها أجمل مما توقّعه: "أغمض عينيّ حينما أكون وحدي في حافلة أو قطار". مدّ يده إليها: مُنصف.

- كلير.
أحسّ بشيء يشدّ ملابسه من النّاحية الأخرى، رأى آشلي معلقة في فضاء الممرّ بين المقعدين، تشدّ أمّها ساقيها كي لا تسقط، ويدها الصّغيرة تجرّه من ساعده، ابتسم: ماذا تريدين؟
- صوف تريد أن تتكلّم معك.
- من صوف؟
ابتسمت أمّها: أنا، اسمي صوفيا.
ضحكت وهي على حافتي الفرح والحرج: "تمزح، تورّطني دائماً". حدّق في عيني صوفيا مع ابتسامة: لكنّك تريدين قول شيء. ماذا تريدين؟
- أأنت عربي؟
- كيف عرفتِ؟
- سحنتك، لغتك. من العراق؟

- نعم. أنت أذكى إنسان رأيته في حياتي، كلاكما ذكيّتان، ورثت آشلي ذكاءك.
- لا تحتاج القضيّة إلى ذكاء. زوجي قتل في الحرب مع العراق.
- مع ذلك، فمن المستحيل أن يحدس امرؤ انتمائي إلى وطني من النّظرة الأولى. هناك مئتا دولة. اثنان وعشرون قطراً عربياًّ في العالم.

قهقهت: "ثِق لا علاقة لها بالذّكاء. لا أحفظ من أسماء البلدان العربية غير بضعة أسماء: العراق، مصر، فلسطين، السّعودية، الكويت ربّما اسمين آخرين".

بدأت الحافلة تتحرّك. صفقت آشلي وأمالتّ رأسها نحو الكهلة الجالسّة قرب الشّباك مزاحمة إياها على النّظر منه. قالتْ صوفيا بألم: "كم أنا آسفة، الأحمق بوش يعيد سيرة أبيه الوحشيّة. سيدمّر بلدكم مرّة ثانية، يا لحمقه! ينذر صدام بمغادرة العراق خلال ساعات أو الحرب". توقفتْ، ثم قالت بحزن وهي تلفظ كلّ كلمة بتركيز لتأكيدها: لماذا؟ لماذا يقاتل العراقيون إلى جانب بوش؟ كيف يتّفق أبناء الوطن مع الأعداء لتدمير بلدهم؟ لماذا هذا العقوق؟ هذه الخيانة؟" شريط أخبار أمسِ يمزّقه: ستحارب الفصائل الكرديّة وحزبا المجلس الأعلى الإسلامي والدّعوة تحت قيادة أمريكيّة، زفر متألماً: "حتّى أنا لا افهم ذلك". هزّت رأسها رافضة: "أرأيتَ التّناقض؟ أيّ معادلة هزيلة! آلاف العراقيين يغادرون المدن خوفاً من قصف أمريكيّ كما في حرب الخليج الأولى ومئات آلاف العراقيين يحاربون وطنهم مع العدو". بلغ ألمه اقصاه: " أنا مثلك لا أفهم دواعي الخيانة والتّجسس، لا، لا أستطيع النّظر إلى صور المآسي".

عادت صور الحرب والدّمار والبكاء والعويل ورائحة قتار الجثث المحروقة في طريق الموت، والأجساد المتفحّمة، والرّؤوس المقطوعة، والعيون التي أحالها اللهب إلى زجاج أسود، وجثامين ضحايا العامريّة، عليه أن يستبعدها، سيفكّر في قراءة قائمة الطّبيب قبل أن ينام وإلا أرعب ركاب الحافلة كلّهم بصراخه وهو نائم.
- لكنْ هناك بريق أمل شحيح، جاك شيراك يعلن استعداده على العمل مع بريطانيا لاستطلاع سبل نزع أسلحة العراق، ويرفض توجيه إنذار إلى بغداد.

ابتسم: لا أمل. سيفعلها بوش.

حدّق مُنصف بسائق الحافلة الأنيق، رأى صديقه أوليفر جالسّاً خلفه، بقربه مقعد خالٍ. في اللحظة نفسها التّفت أوليفر، أشار إليه، نهض، مشى نحوه. أشار إلى المقعد: سأرقد هنا كي أكون جاهزاً للسّياقة إن تعب شارلي.
- أتستطيع السّيطرة على حافلة كبيرة مثل هذه؟

- أنا أعمل سائقاً في سيّارات المدارس يوماً واحداً في الأسبوع. معظم سواق السّيّارات الذّاهبة للمشاركة في المظاهرات من المتطوّعين، وإلا كلّفنا الذّهاب أكثر ممّا هو عليه الآن. أأنت مرتاح؟

- نعم.
 لماذا لا تتمدّد الآن هنا؟
- الوقت مبكّر، ربّما بعد أربع أو خمس ساعات.
- أتريد لفّة طعام.
-لا، لم أجع.
- حتّى أنا.

شاحنة كبيرة تسبق الحافلة تنثر الملح الأزرق على الشّارع العريض، ندف الثّلج تذوب حين تصل الشّارع. رنّ الهاتف، ضحكة الأيمن الّلاهية: أما زلت في مكانك؟ لماذا لا تتصل بمحسن صديقك العراقيّ، تقول إنّه مدير قسم في شركة تجارية عملاقة. هؤلاء يحتاجون موظفي حاسوب بكثرة.

- سأفعل عندما أرجع.
-أرأيت؟
- ماذا؟
- أنت أحمق.
- لماذا؟
- لأنك لم تتصل بصديقك، أنت تنبل، وتنبال، ومتنبل، كيف تبقى شهراً من دون عمل؟ جريمة كبرى.
- أعرف ذلك. لكنّك أكثر حمقاً إضافة إلى انّك مجرم، سيستيقظ ضميرك يوماً ما وتندم على العمل مع من يقتل شعبنا.
- أين أعمل إذاً؟
- في المدرسة نفسها التي قضيت فيها عشر سنوات.
- الرّاتب قليل.
- وهنا؟
- ثلاث مرّات أعلى.
- لماذا يعطونك أعلى؟
- نوعيّة العمل.
- لا، ليسكتوا ضميرك، يوماً ما ستدرك الحقيقة وتندم.

قهقه الأيمن: "لكنّي لست مترجماً!". سخر منصف: "ماذا تطلق على من يعدّ مترجمين!". ضحك مرّة أخرى: أنت واهم. إنهم أغبياء. ليتعلموا لغتنا يحتاجون إلى عشر سنين.

- وأنت تختزل العشر إلى خمس.
- بالضّبط. أنت عبقريّ.
- قبل قليل قلت أحمق.
- لا فرق بين العبقريّة والحمق إلا خيط كالشّعرة.
- وأين أنت؟
- فيما تحت الحمق.

أحسّ بنشاط بعد المكالمة. وإذ رجع إلى مكانه، صفّقت الطّفلة: هه رجعت. "أعندك سو؟". نظر إلى أمّها، قبّلتها، التّفت إليه: "ديناصورة اكتشفتها عالمة آثار اسمها سوزن فسميت باسمها". تذكر الدّيناصورة في المتحف، هزّ رأسه وهو ينظر إليها ويجلس: لا.

- أنا عندي واحدة.
- أتعطيني إياها؟
- لا، الكبار لا يلعبون بالدّيناصورات.نظر إلى أمّها: أتساهمين بنشاطات سياسيّة؟
- في القضايا الإنسانيّة.
- مثل ماذا؟
- البيئة، ما يخصّ الحروب الخ.
- أتنتخبين؟

فزّت: "لا. لست فاسدة لأنتخب فاسدين؟ لكنّي أساهم بأيّ نشاط ضد الحرب، لا لأن زوجي قتل في حرب الخليج قبل اثنتي عشرة سنة، بل لموقف إنسانيّ". حدّق مندهشاً في الطّفلة، قال وهو لا يستوعب كلامها: "لكنّ هذه الطّفلة في نحو السّنتين فقط". ضحكت ضحكة قصيرة: هذا صحيح. أتكلّم عن زوجي الأوّل.

هزّ رأسه: هه، الآن فهمت.
- والدّ هذه الطّفلة زوجي الثّاني، وهو أيضاً فقد زوجته في الحرب.
ابتسم، أحاط فمه بيده اليمنى من دون شعور: "توقّفي دعيني أفهم هذه الألغاز". ابتسمت: ليست ألغازاً.
- أهو متزوج ثنتين؟
قهقهت: "لا. واحدة. ممرّضة، قُتلت في حرب الخليج الأولى، ثم تزوّجني قبل سنتين فقط". غامت عيناه بالأسئلة: "أكان صديق زوجك الأول؟". نفت بهزّة رأس: "لا، لا يعرف أحدهما الآخر".
- كيف وجدك؟ وجدته؟
وضعت آشلي إصبعها على فم أمّها: "كفى، قلت لك أكثر من مرّة لا تكلّمي الغرباء". ضحكت أمّها ومُنصف، أمسكت الأمّ باصبعها قبلته: نعم. لن أكلّمه، سأنام.
- لكنّي لا أنام.
قال مُنصف: "لم تجيبي على سؤالي". التفتتْ أمّها إليها: أتسمحين لي ببضع كلمات فقط؟
- نعم، كلمتين فقط.
نظرت إلى مُنصف: قبل أربع سنوات دعا المحافظ ذوي الشّهداء إلى احتفال، جلسنا حول منضدة عليها رقم الوحدة، مكان الوفاة، صور المتوفّين، أسماؤهم، وقف قربي، قال لي: هذه زوجتي. كان زوجي طبيباً عسكريّاً وهي ممرّضة، هناك غير صورة لهما مع الوحدة الطّبيّة المكوّنة من سبعة أشخاص، ثم تحدّثنا، الخ.
- لماذا لم يأتِ معك؟
- ظروفه.
- ما هي؟
ابتسمتْ، فلمعت عيناها الزّرقاون: لا أعلم. لم أسأله.
ضحك: لا تسألين زوجك؟
- ليس زوجي.
- قلت زوجك. عدنا إلى الألغاز.
- طلقته بعد أربعة أشهر فقط.
هزّ رأسه: الآن فهمت.
- أظنه لا يستطيع، عنده طفل وطفلة من زوجته الأولى، الطّفل في الثّالثة عشرة والطّفلة في الخامسة عشرة. وهو على العموم مشغول خارج البيت، لا يهتمّ بالسّياسة.
- أتكرهين العراقيّين؟
- لا، مطلقاً، العراقيّون أبرياء، نحن الذّين قطعنا عشرات آلاف الأميال لنهاجمهم وندمّر بلدهم، كيف أكرههم؟
قالتْ ذلك ثم تنهّدت، أضافت وهي تربت على رأس ابنتها: هناك سبب آخر، لا علاقة لموتهما بالعراقيّين.
- من إذن؟
- هبّت زوبعة في الصّحراء اصطدمت فيها طائرتان سمتيّتان سقطتا على الوحدة قتلت أفرادها السّبعة كلّهم، نساء ورجالاً. ومنذ تلك اللحظة وحتى الآن أساهم في أيّ نشاط ضد الحرب.
أحسّ بأن كلمة الحرب طعنة موجهة إلى صدره، تقتله هو قبل غيره، قال لها: أتتذكّرين تاريخ الحادثة؟
- نعم، شباط 13. 1991، كيف أنساه.
- في اليوم نفسه قصف جيش التّحالف ملجأ العامريّة، حُرق واختنق فيه أكثر من أربعمئة وخمسين بريئاً.
- أنا آسفة.
- لا تأسفي. ليس ذنبكِ. بعد خمسة أيام قتل الجيش الأمريكيّ أكثر من ربع مليون عراقي في طريق الموت.
دمعت عيناها، أخذت تمسحهما بمحرمة ورقيّة: "أعرف هذا أيضاً رأيت الصّور، والشّريط السّينمائيّ، قدّر الخبراء بأن التّحالف أحرق أكثر من سبعين ألف سيّارة مدنيّة وعسكريّة عراقيّة، أجبرها الجيش الأمريكيّ على التّوقّف في الطّريق بين الكويت وسفوان". ابتسم بمرارة: كنت هناك أيضاً.
- أنتَ؟
- نعم، أنا.
- ألم تصبك القذائف؟ كيف نجوت؟
حدّق في عينيها: "أنقذني التّرانسِستر". ردّدت: ترانسِستر؟ تمزح.
- لا، أبداً، كنت أسمع الأخبار وأسير، أذاعت مونت كارلو تصريح الجنرالات المسعورين، يتوعّدون العراقيّين المدنيّين والجيش المنسحب، قلت مع نفسي إن قرّروا قصف الطّريق الذي كنت فيه، فلماذا أبقى؟ ابتعدت نحو عشر كيلومترات. الظّلام سائد، سقطّت في حفرة أحدثها السّيل أنجتني من القصف.
زفرتْ: "الحرب آلة عمياء لا تفرق بين الصّديق والعدوّ". ابتسم بألم. هزّ رأسه ثم نظر إليها: أتدرين أنّك قلت شيئاً قاله شاعر مات قبل أكثر من ألف وخمسمئة سنة في الصّحراء.
- ما اسمه.
- زهير.
ردّدت: زهير، زهير. يا له من اسم جميل، أله معنى؟
- نعم. الوضيء الجميل.
نبرت الطّفلة حالاً: "أنت زهير؟". ضحك ضحكة قصيرة: لا.
- أنت زهير. زهير جميل.
- مثلك.
- أنا أجمل.
- أنت أجمل الكلّ.
هزّت رأسها بحكمة تقلّد الكبار: "نعم". ثمّ مدّت يديها كلتيهما نحوه وقفزت من حجر أمّها عبر الممرّ، ارتجف خوف سقوطها، تناولها. حينما حلّت بين يديه أخذت تصفّق وتضحك بمرح: "هييي". ابتسمت أمّها وهي تنظر إليها بحبّ: قويّة.
- نعم، أنا قويّة.
أمالتّ جسدها كلّه نحو أمّها، أمسكت بيديها سحبتها نحوها: ماذا تريدين؟
- تعالي هنا قربنا.
ضحكت صوفيا: لا يوجد مجال للجلوس.
سحبتها: تعالي.
- أين أجلس؟
التفتتْ الطّفلة نحو كلير، هتفت: انهضي.
ثم قالتْ لأمها: اطلبي من هذه السّيّدة أن تجلسي في مكانها.
- كفى، تأدّبي، هذا خطأ، قولي: عفواً.
- عفواً.
- قلت لك لا نستطيع تبديل الأرقام، هنا مكاننا.

ابتسمت كلير، نهضت، فنهض مُنصف ليفسح لها المجال. قالتْ لصوفيا: "اذهبي إلى مكاني".
- لا، لن أذهب. سأبقى هنا. عليها أن تتعلّم أن لا تزعج النّاس.

سحبتها آشلي: "تعالي". تدخّلت كلير: "رجاءً". سألها: "أتفضّلين مقعدي أم المقعد الثّاني قرب الشّباك؟". أشارت إلى مقعده، انتقل إلى مقعد كلير. صفّقت آشلي بفرح، وضعت رأسها على فخذ مُنصف، مدّت جسدها على طول حجر أمّها: "سأنام".
سالتها أمّها: "أأنت جائعة؟". هزّت رأسها كبالغة: ليس الآن.

غابات الأشجار على مدّ النّظر، لكنّها مقرفة. لماذا تسقط أوراقها؟ تحيلها إلى سيقان مكمودة الّلون، كريهة. ملايين الأغصان الجرداء تتّجه إلى السّماء تشكو عريها المخجل. نخيل بلادي أفضل، دائم الخضرة. لا تسقط أوراقه، ها هم يسعون إلى تدميره مرّة أخرى. أربعون مليون نخلة على شطّ العرب لم يبقَ منها سوى ربعها، زرعها الأجداد طيلة عشرات آلاف السنين، ودمرت في عقد واحد. أيّ طعنة في القلب؟ أغمض عينيه: "كلّهم سيُسألون عن السّلاح، القانون نفسه موجود قبل الحرب وبعدها، مادام النّظام باقٍ سيحاسبون، سيُعاقبون، سيكون مصيرهم الإعدام أو السّجن، قانوناً هم متخاذلون، خونة" لماذا يفرض الضّابط نفسه عليه باستمرار؟ يتذكّره دائما. هنا وهو في الحافلة بعيد آلاف الأميال عن بغداد، يقتحم عالمه، يعود ليملأ شاشة الذّكرى. لماذا يسترجع مخّه الحوادث بعشوائيّة مؤلمة؟ إقلب صفحة. أنّه مسلسل الألم والهروب. لا تستسلم. فجأة حلّ الظلام. لم يبدُ من الشّارع سوى ما تنيره الحافلة في المقدّمة. بدأ تلفزيونها يعرض فيلماً كوميديّاً، لكنّ آشلي نهضت وهي في حجر أمّها، هتفت: "أريد كارتون". قالتْ أمّها: "ليس عندهم كارتون". نهض مُنصف. ذهب إلى أوليفر، رآه يفتّش في صندوق واجهة الحافلة الصّغير، بادره هذا قبل أن يسأله: إنّني أفتش عن فيلم كارتون، سمعت الطّفلة، هه. هذا مشهور جداً. بدأ التّلفزيون يعرض رسوماً متحرّكة عن مملكة النّمل. صفّقت آشلي وهي تعتدل، هتفت: "أحبّ هذا". التفتتْ نحو مُنصف، سألته: أتعرف كيف تقبّل النّملة أخاها؟ ضحك مُنصف. شاركته أمّها الضّحك: "لا". لـمّت بوزها إلى الأم، مدّت وجهها: "هكذا". بعد قليل نعست، ألقت رأسها على فخذه، مدّت رجليها نحو حجر أمّها، حاولت هذه أن تنهضها لتنيمها على صدرها، لكنّ مُنصف طلب منها أن تبقيها. ظلّ وأمها يتابعان الفلم. لم يدرِ كم استمرّ! انتبه على صوت السّائق وهو يقف في استراحة إلى اليمين: عندكم نصف ساعة فقط. تتحرّك الحافلة في تمام السّاعة الثّانية عشرة.

تدّفق المئات من حافلاتهم إلى المطعم الضّخم، أما هو فقد تأخّر ليسمح لصوفي بالنّزول، جاءت وآشلي ملفوفة ببطانيّة معدّة لجوّ بارد، ناولتها لمُنصف وهي تنزل، أبقتها عنده، لم تدخل إلى المبنى الواسع الدّافئ، ابتسمتْ: سأدخّن سيكارة، أتدخّن؟
- لا.

ابتعدت عنه، لكنّه اقترب منها. سالتّ مندهشة: لماذا تقترب؟
- يعجبني التّدخين، عندما أرى مدخّناً يسير في الشّارع أسير وراءه.
طفقتْ تضحك: أنت غريب. لماذا لا تدخّن؟ بضع سيكاير في اليوم لا تضرّ.
- ربّما، لكنّي لم أجد حافزاً قويّاً يدفعني للتّدخين.
ثم اكتست ملامحه حزينة.
- أهناك ذكرى مؤلمة؟
- نعم.
- أنا متأسفة.
- لا، ليس ذنبك، كان والدّي مدخّنا، وفي نهاية الثّمانينات بدأ يشعر بألم في صدره، قالوا له في المستشفى حسناً جئت الآن، بداية سرطان الرّئة، نستطيع القضاء عليه من دون جراحة، لكنّ يجب أن تترك التّدخين، بدؤوا يعالجونه بالأشعّة، لكنّ الغريب في الأمر أنّ والدّتي، أخذت تشتكي من الأعراض نفسها، بعد شهر واحد فقط، وعندما ذهبت إلى المستشفى قالوا لها الشّيء عينه. أمّا الأغرب من هذا فهو أن أمّي لا تدخّن.
- ألا تستطيع أن تجلبهما إلى شيكاغو؟
- لا.
- لماذا؟
- لأنهما قتلا في قصف ملجأ العامريّة.
- الملجأ نفسه؟
- لا يوجد غيره.
ارتسم الألم شديداً على وجهها: وحدك بقيتَ؟
- أختان أكبر مني، لاحقت لعنة الحرب إحداهما فأعاقت ابنتها الوحيدة.
- أيّ آلام تثقلك!
لم يدرِ متى أغفى إغفاءة عميقة طويلة. لو لم يشعر بضغط على يسراه ما فتح عينيه. ضوء الفجر يسيطر على الكون. مدّ يمناه، مسح الزّجاج المضبّب بأنفاس الرّكاب، بانت الأشجار عارية كالحة فويق محيط ثلجيّ عارم لا نهاية له. مسح وجهه، عاد له شيء من صفاء ذهنه. كان الضّغط مستمرّاً على يده اليسرى كلّها، يخدّرها، التّفت يساراً رأى صوفيا تتكئ على عنقه، تغطّ في نومها، شعرها الذّهب ينزل على صدره. أراد أن يذهب إلى المرافق لكنّه أرجأ النّهوض كي لا يزعجها. أنفاسها تتردّد بهدوء فوق صدره، تغلّفه، كأنّها شرنقة تضمّه وإياها مع صغيرتها. رائحة الأنثى بما فيها من أرومة عرقها وعبير جسدها النّاضح يملأ جوّ الشّرنقة، يخدّره بشذى سعادة ذكّره بدفئ سناء أمام البحيرة المتجمدّة، حين تسامت روحه عن الحسّ، حلّقت في الأعالي، ثم أدرك حرج تداخله معها، ساعده تحت آشلي، لكنّ نهايتة كفه في حجر أمّها، بين فخذيها تماماً، أدرك والخوف يسيطر عليه، أيّ حركة لأصابعه ربّما تفسّرها حين تفيق تعمّداً مقصود منه، لا سيّما وأنه أحسّ بالتّصاق يده بجلدها الرّطب من دون أيّ مانع.

أغمض عينيه متناوماً، مجمِّداً لا حركته حسب بل روحه. ثم اقتلعته فرحة طاغية حينما توقّفت الحافلة في استراحة أخرى بعد بضع دقائق، قال أوليفر بمكبر الصّوت: عندنا نصف ساعة فقط.

فتحت صوفيا عينيها شبه مرعوبة وهي تجد وجهها على صدره. ابتعدت حالاً. مسحت وجهها بكفّها، ابتسمت. قالتْ بصوت لم يتخلص من آثار النّوم: "ضايقناك". أشارت إلى آشلي. فهزّ رأسه: "لا. أنا مرتاح." أخذ الرّكاب ينزلون. حملت ابنتها فاستيقظتْ، فتحت عينيها، ابتسمت حالاً، كأنّها لم تنم قطّ: "صباح الخير". أرغمته على الابتسام: "صباح الخير". لم يجد في السّاحة سوى عشر حافلات، حدّق بأوليفر: أين الباقي؟
-تتوزّع على استراحات الطّريق المتعدّدة، كي لا نتأخّر.
- ومن يراقب المتخلّفين؟
- المنظّمون.

قال أوليفر، وهو ينظر نحو كافتيريا لبيع النّقائق في منتصف الاستراحة: "تلك الكافيتريا تقدّم النّقانق مجاناً للمتظاهرين الذاهبين إلى واشنطون للاحتجاج على الحرب. ما عليك إلّا تقديم قسيمة تذكرة ركوب الحافلة". توجّه قسم من الرّكاب إلى مطعم النّقانق بينما ذهب هو إلى مطعم آخر. قاعة هائلة تحوي عشرات المطاعم. بعد ثوانٍ سمع آشلي وراءه: "ذاك هو". أبتسم. أفلتتْ يد أمّها، هرعت إلى حجره: "سآكل بان كيك معك". قالتْ أمّها: "لا تلتفتْ إليها، تطلق على الفطور بان كيك. كُلْ ما يعجبك". اعدّت لها لفّة بالجبن. هتفت وهي تدفعها: أين الزّبد؟ أين البيض؟ أين اللبن؟ أين الـ.
- كفى هذا ليس البيت. أنت لا تأكلين كلّ هذا، فقط تتطلّبين.
حدّقت بمُنصف: هذه عادتها لا تأكل حتّى ترى المائدة ممتلئة، لكنّها تكتفي ببضع قضمات من الجبن بالحليب فقط.
حليمة أيضاً، تملأ المنضدة: فطائر السّبانخ. الجبن المصري. الحليب. الكليجة "معمول بالتّمر". الخبز بالزّعتر والزّيت. البيض مسلوقاً أو مقليّاً مع بصل وفلفل. تأكل بضع لقيمات وتدفعه ليتذوّق كلّ شيء. حليمة تشبعه معدةً، جنساً، قبلاً، ثرثرةً. لكنّه يفضّل فطور سناء: القهوة بالحليب مع خبز فرنسيّ محمّص مطليّ بقليل من الزّبدة فقط. في نظره أطيب أنواع الفطور. أعدّه بعد سفرها في شقّته. أكلّه بشهيّة ممتازة، تخيّل أمامه حليمة وسناء تتنافسان، ابتسم، برزت أمامه كلمتان فقط: نوعيّة. كميّة.

جاء أوليفر، بخطواته البطيئة، جلس قربه من النّاحية الأخرى، قال وهو يكاد يهمس: "لا تعجبني النّقانق خاصة في الإفطار". طلب لفّة جبن مع قهوة بالحليب. قام مُنصف بتعريفهما. قال لصوفيا: "أوليفر أوّل صديق لي في شيكاغو. مدرس في كليّة ترومن، عندما أخرج من الشّقة في الصّباح لتناول وجبة الأفطار، للذّهاب إلى أيّ مكان غالباً ما أراه، ربّما هو أوّل مدرّس يدخل الكليّة". يراقبه من شقّته، يميّزه من بعيد، بجسده المترهّل. وعلى ظهره حقيبة مليئة بالكتب والدّفاتر. يحملها كطلاب المدارس. قال أوليفر وهو ينظر إلى صوفيا: "كأنّها البارحة، أتذكر مُنصفاً، رأيته في الصّفّ عندي، قبل اثنتي عشرة سنة، يهتمّ بالسّياسة أكثر من أيّ شخص عرفته في حياتي. أوّل سؤال سالنّيه: أتنتخبْ؟". أخذ يضحك. ابتسمت صوفيا: "بماذا أجبته؟"
- طبعاً لا، سياسيّونا فاسدون جميعاً. لا فرق بين جمهوريّ أو ديمقراطيّ.
ضحكتْ: "سألني اليوم السّؤال نفسه، أجبته مثلك". قال مُنصف: "افعلوا شيئاً". قهقه أوليفر: لو وُلدتَ هنا لأدركت عدم الجدوى. أقوى سلاح تمتّعتْ به رأسماليّتُنا هي أقناعنا بعدم جدوى الكفاح، كلانا نعرف شارع كلارك جيداً، انظر من الشّباك إليه أيام الجمعة والسّبت والأحد، تراه يزدحم فيصبح السّير على الأرجل أسرع من السّير بالسّيّارة. تمتلئ المطاعم على الجانبين. البارات. الملاهي. متعة صاخبة. لا تفكير في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل. قولبوا حياتنا على الرّياضة، الشّرب، اللهو، ماتت الهمّة في الكفاح.
- أهذا يعني أنّ نهاية التّاريخ حلّت كما يتنبأ فوكوياما، وأنّ الصّعاليك كبوش، دك شيني، باول سيتحكّمون بمصير الإنسانيّة إلى الأبد؟
- ماذا نستطيع أن نفعل غير التّظاهر والكتابة؟ ها أنت ترى كيف سيدخلنا بوش في فيتنام أخرى.
تساءلتْ صوفيا: ألسّت قلقاً على أهلك في العراق؟
-كيف لا!
- آمل أن لا تطالهم الحرب.
ثم نظرت إلى أوليفر: "أتعرف أنّه فقد أبويه في حرب الخليج، قتلا في ملجأ قصفه الجيش الأمريكيّ؟". هتف أوليفر: "صحيح؟ لماذا لم تخبرني؟" ابتسم مُنصف بمرارة: "لم تسألني ولم تكن هناك مناسبة لأخبرك، ستكون هذه الحرب أسوأ من تلك". تأوهت صوفيا: "رجاءً، لا تحكم علينا كلنّا بالسّوء".
- لست أحمق، لم أرَ مثقّفاً أمريكيّاً مع الحرب.
**
اصطفّت الحافلة في الجانب الأيمن، في شارع فرعي في واشنطون، بدا معدّاً للحافلات، وقف مُنصف قرب الباب ليساعد صوفيا على النّزول وهي تحمل آشلي، عند ذاك تخلّصت آشلي من يد أمّها، رمت نفسها نحوه من سطح الحافلة في حركة غير متوقّعة، جعلت قلبه يدقّ بعنف، تلقّفها. وإذ أصبحت بين يديه، صفّقت بانتصار وهي تضحك، ثم حاولت التّخلّص من ذراعيه. تركها على الأرض لتتسلّمها أمّها. أشار إلى بقعة متجمّدة أمامها. قال: احذري الانزلاق.
- شكراً.

نزلت كلير، اخذت تساعد عجوزين سوداوين، تخاف المرأة من وضع قدمها على الدّرجة ويداها ترتجفان، تقدّم نحوها، تركت له يداً ولكلير أخرى، شكرته غير مرّة هي والرّجل العجوز الذّي بدا في ثمانيناته.
توقّف مُنصف قرب شجرة من نفس النّوع الذّي أمام منزله، دقّق في أعوادها المتشعّبة، ثم التّفتَ إلى أوليفر: لماذا لا تعرف اسم الشّجرة؟
ابتسم أوليفر: أنا مدرّس إنكليزيّة لا طبيعيّات.
- يأتي الرّبيع في واشنطن متأخّراً، لا وجود لبراعم خضر.

تنبّه، أصوات محتدمة بعيدة، تأتي أشبه بأزيز، أدرك أن المظاهرت نشبت قبل أن يصلوا. بدت الجموع على بعد نحو ربع ميل في أقصى عنفوانها، هتف أوليفر: "هيّا، لماذا وقفت؟" وإذ مشوا رأوا الحافلات الأخرى تتوقّف وتقذف ركابها. يزداد النّاس. يعلو اللغط. تشتدّ الأصوات تدريجيّاً. السّاحة العظيمة أمام البيت الأبيض تشتعل ببشر غاضب يرفع احتجاجه ليصبح الكون كلّه صوتاً غاضباً يرتفع نحو السّماء، يسيطر على الكون، يطغى على أصوات المروحيّات التي تمشّط الجوّ فوق المتظاهرين، بينما بدا البيت الأبيض كئيباً مهجوراً مع بحيرته الطّوليّة الجامدة، يكلّلها الثّلج، لا زهور ولا خضرة. عشرات آلاف المحتجّين يموجون حيويّة ونشاطاً. تقدّم من أوليفر، كهل في الخامسة والسّتين. أشيب طويل رقيق اللّحية، يرتدي سترة برتقاليّة ويعتمر قبعة "كاب" بنفس اللون، عانق أوليفر وصافحه. قال هذا معرّفاً: "لويس صديق مناضل. مُنصف عراقي." ابتسم لويس: "أوّل مرّة أرى عراقيّاً يساهم بالمظاهرات". قال أوليفر: "يشارك دائماً في النّشاطات ضّد الحرب في شيكاغو". لمعت عينا لويس: "الحرب ضدّ بلادكم. العراقيون عشرات الآلاف، أين هم؟" أحسّ منصف بالخجل. أيّ كلمة تخرج من فمه دفاعاً عن العراقيين خيانة. مدّ يديه بحركة من لا حيلة له.

- سيساهم معنا اليوم عشرات المنظّمات، سيبلغ الأوج غداً الأحد، بمشاركة ستة وثلاثين تنظيماً، ربّما سيتجاوز الحضور مليونين، مئتا مدينة، الولايات كلّها. لأوّل مرة تشارك الأسكا في المظاهرات، عرض موسيقيّ ضد الحرب في شوارع 350 مدينة بدأ اليوم في السّابعة صباحاً.
النّاس على الشّوارع يشاركون المتظاهرين بالهتافات. مسيرة في الوسط. مئات الرّجال والنّساء يرتدون القبعات والسّتر نفسها بالّلون البرتقالي منبثّون في المساحة الشّاسعة بين المتظاهرين. أشار إليهم أوليفر: منظّمو الاحتجاجات. قال أوليفر: السّاحات كلّها من البيت الأبيض حتّى ميل كامل مملوءة، فأين سيتظاهر الآخرون؟
- سيمتدّون في دائرة مساحتها خمسة أميال من جميع جهات البيت الأبيض.
قطع كلامه صوت طائرة مروحيّة مرّت فوقهم على ارتفاع منخفض، أشار إليها: إنّها تراقبنا.
- ألا تظنّ أنّها تلتقط الصّور؟
- لا يهمّ، ليفعلوا ما شاؤوا، علينا أن نجهر بمبادئنا.

قال مُنصف: "إن صوّرونا فهذا منتهى الحمق. يحتاجون مليون موظف لفرز الصّور؟." ضحك لويس ضحكة قصيرة: يصورون المنظّمين فقط لأنهم يميّزون ملابسنا بألواننا الصّارخة.

بدأت مروحتان أخريان تحومان فوق المنطقة حينما ابتعدت الأولى. تكلّم لويس عن الحرب، العدوان، الإبادة، كأنه عراقيّ رزئ بمصائب العراقيّين. قطع كلامه أصوات هادرة من محتجين سدّوا معظم الشّارع، بدا في الأمام لافتة يحملها اثنتا عشرة امرأة وشابان، يهتفون بشعاراتهم بأقصى ما يستطيعون. اللافتة طويلة، كتبوا تحتها العنوان الإليكترونيّ لمنظمتهم. ثلاثة شعارات بالأسود والأحمر: "لا مزيد للحرب"، "نحتاج أعمالاً"، "فيتنام، أفغانستان، العراق، حماقة إثر حماقة". سار بعدهم نحو مئة متظاهر ومتظاهرة يكمّمون أفواههم، يسيرون متلازمين بالأذرع. مجموعات على شكل مربّعات، كلّ مربّع بعلم موحّد الألوان. راية كبيرة بعرض مترين وطول ستة أمتار، رسم عليها العلم الأمريكيّ، في وسطه دائرة بيضاء في مركزها صليب معقوف، وفي أعلاها علامة القراصنة، "جمجمة بين سيفين"، ثم لافتة عليها: لا أريد أن يقتل ابني في العراق. بوش قاتل. آخرون يحملون ألف نعش ملفوف بعلم الولايات المتحدة، ومثلهم يلفّون على أعناقهم كوفيّات عربيّة حمر، آلاف صور لحمامات السّلام. مجموعات رجال ونساء يرتدون ملابس عسكريّة، أفواههم ملطخة بالدّماء. شعارات موحّدة مطبوعة على ورق أبيض: ساعدوا الشّعب العراقي. تلاهم العشرات يعتمرون كوفيّات سود مع عقل. صور لبوش وبلير مكتوب عليها: مطلوبان للعدالة. أخرى كبيرة لهما في ملابس الكاوبوي يرميان الصّواريخ. تحتها: "إخوة بالسّلاح" إلى يمين البيت الأبيض شاشة عملاقة تنقل الاحتجاجات والتّظاهرات في معظم دول العالم: إنكلترا، اليابان، فرنسا، ألمانيا، روسيا، الصّين، الخ، صور جنود، وجنديات يرفعها ذووهم، يالتّلك الصّور الفنيّة! أيّ عبقريّة تظهر بوش وبلير بملامح هتلر وموسيليني! مجموعة من المثقّفين والمشهورين يتقدّمهم مخرج مرموق وبيده رقعة سوداء مكتوب عليها: لنطلق أفلاماً بدل إطلاق الرّصاص على العراقيّين. رقعة هائلة عليها: الطّريق مسدود بسبب قتل الأبرياء الجماعي. "لا للحرب" "لا تقتلوا الأبرياء وتسرقوا نفطهم." "السّلام، السّلام، السّلام، السّلام" "بوش شرس" "لنتّحد ضد الحرب" "بوش مصاص دماء الشّعوب" "الحبّ بدل الحرب" "الحبّ ليس الحرب" "بوش وحش مسعور." "لنعزف للسّلام" لنتحالف ضد الحرب" "ليس باسمنا" "بوش لا يمثلنا" "ليس من الضّروري قتل الأبرياء" "لنتّحد من أجل السّلم والعدالة" "الدّم أغلى من النّفط" "لا نريد حرباً أخرى"
نحو مئة تمثال من القماش المنفوخ لوحوش مشوّهة مكتوب عليها بوش، السّيد بوش، الوحش بوش، الحيوان بوش. سألته آشلي وهي تشير إلى حمار بلاستيكيّ هائل ذي ذيل طويل يلتفّ على بطنه، الحمار أزرق، عيناه حمراوان، له قرن كبير، في عنقه أنبوب من البلاستيك يمسكه طفل في العاشرة، بينما يضربه طفل آخر في يده عصا خضراء من البلاستيك على ظهره، في كلّ مرة يُضرب يَنهق بصوت عالٍ: "من هذا؟" ابتسم: "بوش." أخذت تضحك: "كبير، بوش كبير؟" التفتتْ إلى أمّها: "بوش جميل. أحبّ بوش. دعني أجلس على ظهره." ضحكت أمّها: "لا يقبلون". التّفتَ مُنصف إلى أوليفر: أرأيت تجمّعاً هائلاً من قبلُ بمثل هذا الزّخم الجبار؟

- لا، يقال في حرب فيتنام فقط!
تساءلت صوفيا: "أتمنّى أن لا نرى مثله في المستقبل؟ هؤلاء كلّهم ضدَ الحرب، فمن معها؟ من يساندها؟.
ابتسم أوليفر: "سلي بوش." تقدّم ليرى الحمار عن كثب. أحسّ بعد ثوانٍ بلمسة على كتفه اليسرى، التّفتَ رأى صوفيا تحمل آشلي على كتفها، هَلِعة، مضطربة، سألها حالاً: "مابكِ؟ أشارت إلى آشلي: بطنها". أدار رأسه، شاهد على بعد عشرة أمتار مئات المرافق الجاهزة، المتنقّلة، لكنّها جميعاً مشغولة، مئات الأشخاص يقفون بانتظار دورهم أمامها. تناول آشلي ثمّ أسرع يشقّ طريقه بين الجماهير بكلّ ما يمتلك من قوّة، أمّها تتبعه، حتّى إذ وصل بداية شارع فرعيّ، أنزلها قرب الحافلات المصطفّة على جانبه. وقف على ممّر المشاة، أشار إلى الفسحة بين إطار السّيّارة وبين الرّصيف، قال: ضعيها هنا. سنسترها بوقوفنا أنا وأنت. قبل أن يغادروا المكان ابتسمت لتبتلع ابتسامتها ما تشعر به من خجل: "حتّى أنا".
- إن كنت لا تستطيعن السّيطرة فلنحاول في أيّ حافلة.
- أظنّها مغلقة.
- أعرف أن باب حافلتنا موارب فقط، هيّا.
حين رجعوا مدّت آشلي يديها إليه كي يحملها. وضعها على كتفيه، رجلاها يتدلّيان على صدره. أخذت تضحك وهي تمسك برأسه. أشارت إلى نقطة بعيدة، صرخت: "كارتون. لنذهب". قالتْ أمّها: لا يوجد كارتون.
- انظري.
حدّقا، شاشة بعيدة جداً، قدّر مُنصف أنّهما إن سارا وسط الإزدحام فلن يصلوا قبل ساعة. نظر إلى صوفيا: ما رأيك، أنذهب؟
- إن أردتَ.

- هيّا.
أشارت إلى أشلي: دعني أساعدك.
- عندما أتعب.
ثُبتت الشّاشة في نهاية الشّارع الطّوليّ المؤدّي إلى البيت الأبيض، تُشاهد من جهة الشّارع المقابلة بوضوح، هي والكلمات التي تشرح ما يعرض فيها من مواقف: ديناصور وقطّ وبطّة وأرنب وحمار وو، قال كلب: نحن لا نكذب، لأنّنا حيوانات.
خنزير: أعظم الكذابين في التّاريخ الرّئيس جورج دبليو بوش، كولن باول، دكّ تشيني، وزير الدّفاع دونالدّ رامسفيلد.
-لماذا؟
- فبركوا 935 كذبة حقيرة حول العراق بعد سبتمبر - أيلولِ 11, 2001، ليختلقوا قضيّة تهديد الأمن القوميّ الأمريكيّ مِن قِبل العراق.
يقف قطّ خطيباً: نحن مع شعب العراق.
فتيان يرقصون، يغنّون: لا أسلحة دمار شامل، لا اتفاق بين القاعدة والعراق، العراق علمانيّ. عشرات آلاف المتجمهرين أمام الشّاشة. عرضت الشّاشة مجزرة قتل سبعة عشر متظاهراً عراقيّاً مدنيّاً عزّلاً، يطاردهم المارينز، يطلقون عليهم رصاص الرّحمة. عرضت سرقة المُتحف الوطنيّ العراقيّ، سرقة وحريق المكتبة الوطنيّة العراقيّة، قصف الدّبابات الأمريكيّة لبنايات سكنيّة، اقتحام المارينز منازل مدنيين ليس فيها سوى نساء وأطفال مرعوبين، صور أكثر من مئة ضحيّة لمدنيّين مشوهين مقتولين في الشّوارع، آلاف البنايات المحترقة، قصف ملجأ العامرّية، الضّحايا المتفحّمين، شريطاً طويلاً عن طريق الموت.
عشر موسيقيّين يحملون أدواتهم الموسيقية المختلفة يتقدّمهم كهل في السّتين، بيده قيثارة أشبه بالعود، يدندن به ويغني، بينما يردّد نحو مئة شاب وشابة الأغنية وراءه:
يا شباب، تعالوا كلّكم، يا أبطال
يريدكم العم سام الآن، يريدكم جميعاً، يريد عونكم
أوقع نفسه في مشكلة ثانية
في ورطة في العراق
ضعوا كتبكم جانباً، اتركوا أعمالكم، اهجروا زوجاتكم. اهجروا أولادكم، تعالو احملوا البنادق
سنلهوا ونتمتّع بصيد الجواميس البرية، والخنازير، وحتى الكلاب.
هيا: واحد، إثنان، ثلاثة
يتوقّف المغنون وآلاتهم، يأتي السّؤال من الخلف، قوياً هادراً من دون أن يتوقّعه أحد، وبأصوات عشرات المتظاهرين: أين نذهب؟ قل لنا أيها العم سام أين نذهب؟
نحن مستعدون للّهو، لصيد البراغيث والقمل والقرود والحمير.
لنذهب هذه المرّة إلى العراق.

لنتوقّف في بغداد
يأتي الصّوت ثانية هادراً: ماذا هناك؟
هناك ثروة نفط هائلة تكفي الجميع، كنوز من دولارات النّفط في العراق.
بقي الثّلاثة يتّبعون المغنين، ويردّدون معهم، حتّى حفظت آشلي بضع جمل: هيّا إلى بغداد، ورطة في بغداد، واحد اثنان ثلاثة هيّا إلى بغداد، كلّ هذا والجماهير تهدر ولا صوت يعلو على صوت المتظاهرين. كانوا ينسحبون إلى حافلاتهم، ليتناولوا بعض الطّعام ويعودون، مرّ الوقت سريعاً، قضوا الليلة الأولى في الحافلة وآشلي على صدره، رفضت أن تذهب إلى حجر أمّها. في الليلة الثّانية قال له أوليفر، وهو يشير إلى المقعد الأمامي خلف السّائق: جرّب أن ترقد قربي هنا، أكثر راحة، تستطيع أن تمدّ رجليك.
- فكرة جيّدة، سترقد آشلي في مقعدي.
رجع إلى مقعده السّاعة الثّالثة عصراً من يوم الأحد، بدأت الحافلات تغادر إلى مدنها.
شهر كامل والرّغبة تدفعه للتّفكير في حجّة معقولة تمكّنه من الحديث مع صوفيا ليسمع من خلالها صوت آشلي ثم يرغم نفسه على اجتثاث رغبته وإهمالها لا بل نسيانها. تمنّى لو يحضنها، يحيطها بذراعيه، يقبّلها. تتدفّق سويعات المظاهرة في داخله رغماً عنه، كلّ لحظة، أينما يكون. اعتادت أن يضعها على كتفيه ورجلاها متدليتان على صدره طيلة يومي التّظاهر. قبّلته في يافوخه، تكلّمت، لم يسمعها، أنزلت شفتيها إلى أذنه اليمنى، صرخت: لماذا تستعمل "شامبو" كريه! "شامبو" أمي أطيب. تكلّمت مع أمّها. لكنّ هذه لم تسمعها لضوضاء المظاهرة، وحينما استطاعت ضحكت صوفيا: حينما نصل سأهديك"الشّامبو؟ قهقهت بسعادة. لفّت ذراعها حول ذراع طفلتها، خطر في باله أنّهما معه يكوّنون عائلة حقيقيّة، بالرّغم من إحساسه باطمئنان فريد، أبعد الفكرة. إن داهمته الكوابيس فسيكون الكابوس الأكبر على الطّفلة ثم عليها، سيحطّم حياتيهما. أغمض عينيه، انتصبت سناء، حليمة، اليزابيث.

لفّت صوفيا ساعدها على ساعده، التّصقت به، التّصق بها من دون تخطيط، لم يشعر بأي توتّر، لم تثُر دماؤه. لم يفكّر فيها شريكاً في متعة قطّ، ما السّبب؟ أهذا من تأثير الطّفلة التي احبّها كحبه ابنة اخته؟ أهو ردّ فعل تصرّفها البريء، كانت تخطر في باله على غير توقّع، ثم أصبحت ذكرى. قال في داخله: ستدفن هي أيضاً في أعماق القلب كسناء وحليمة واليزابيث وغيرهما. إثر اهتزازات الحافلة أغمض عينيه، رأسها على فخذه تمدّ ساقيها الصّغيرتين عبر حجر أمّها. امتلأت الحافلة بالغطيط. لم يدرِ كم ساعة رقَد. غشيته سكينة، أنفاس دافئة تداعب صدره، كما حدث من قبل. فتح عينيه. رأس صوفيا يستند إلى ذقنه. يتبدد نَفَسُهُ في ثنايا شعرها الأشقر. عجب من نفسه. كيف لم يثره ذلك القرب، التّلاصق. انقضى اليوم الأخير وهما يسيران من دون انقطاع. التّعب يفتت ساقيه. أغمض عينيه مرّة أخرى، غاص في أعماق نوم لذيذ. فتح عينيه في حدود السّادسة صباحاً رآها في مكانها بعيدة عنه، تبتسم ويده في منتصف حجرها. تحت ساقيْ آشلي، ملاصقة ما بين الفخذين كما في طريق المجيء. لم يعِ حقيقة موضعها حالاً، بل بعد نحو نصف دقيقة. ثم أحسّ بها كأنّها تحترق بنار شديدة. سحبها. فتح عينيه، اكتشف أنّهم على أبوب شيكاغو.

نهضت صوفيا والطّفلة على صدرها تلوّح له. نزلت بها إلى المرافق. ثم خرجت بعد دقائق، وإذ وصلت إلى مكانها، انفلتتْ من يدي أمّها، وقفت على متكّأ المقعد واستندت على الشّباك، وصرخت بأعلى صوتها: بوش وحش، بوش وحش. ضحك الجميع. صفّق مُنصف. أخذ معظمهم يصفّقون. قال أحدهم بصوت عالٍ من الخلف: لا حرب بل سلم. ردّدت صوته غير مرّة بصوت عالٍ. جذبتها أمّها، عانقتها: كفى. لا تصرخي. سيبحّ صوتك.
- سأجلس هنا.
أشارت إلى حضن مُنصف.
- تعالي.
مدّت يدها إلى ذقنه، تعجبه تلك الحركة، تفعلها عندما تريد أن تنبّهه إلى شيء تراه مهما: مُنصف. أنا أيضاً عندي "إيميل". ابتسم. ضحكت أمّها. التفتتْ إلى أمّها: أليس كذلك؟
- قلت لك. هذا ليس "إيميل" بل حاسوب خاص بالأطفال.

فتحت عينيها الجميلتين: ما الفرق؟ أعرف كيف أفتحه. تردّد كثيراً قبل أن يطلب منها أن تعطيه بريدها الإلكتروني، لكنّها قرأت أفكاره، نظرت إليه بودّ: سأكتبه لك، هو ورقم الهاتف. في اللحظة نفسها رنّ هاتفه، لم يتمكن من قول كلمة شكر. جاء صوت الأيمن: كيف الحال؟
- أتعرف كم السّاعة؟
- نعم. التّاسعة.
- أنت متخلّف يا أيمن، السّاعة السّادسة صباحاً، من يتّصل في هذه السّاعة؟ ألم تنم؟ عندكم الرّابعة بعد منتصف الليل.
- متى تصلون إلى شيكاغو؟
- بعد ثلاث ساعات، أخّر سّقوط الثّلج سير الحافلة. سأتصل بك، أنا مشغول الآن. معذرة.
- مع السّلامة.

الشّارع مزدحم، الثّلج يسقط ندفاً بعرض نصف سنتمتر وأكثر، ارتفع على الأرض نحو قدم، اختلط بالملح، تغيّر لونه، أصبح رمادياًّ. تترك أيّ سيّارة مساراً عميقاً يتقاطع مع مسارات السّيّارت الأخرى، يضطرها للسّير ببطء، لا تزيد السّرعة على خمسة أميال. بين حين وحين تأتي سيّارة معدة لكنس الثّلوج ورميها على الجانبين، ثم تتبعها أخرى لرمي الملح. استمرت صوفيا تداعب آشلي. وبعد نحو ساعتين، قالتْ له: "نسيت هاتفي في البيت، أريد الاتّصال بأمّي كي تقلّني من السّاحة". أعطاها هاتفه. أخذت آشلي تشدّ وجهه نحوها: سأقول لك شيئاً.

- ما هو؟

- أحبّ بوش وذيله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى