الاثنين ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم أحمد عامر

بور تريه لجسد محترق - قسم 2 من 4 أقسام

 4-

هل منحتهم شريعة الحلم لأنهم يملكون سيارات فارهة!! ومنحتنى اللاشيئ لأننى أبحث عن نور الفجر.

وحيد يجوب شوارع القرية، تقابل الجدران صوته برنة حزينة – مكتومة، تحاول الإنطلاق – التحليق إلى هناك عندما كان يعرف الرجال بأسمائهم، ترتد فى وجهه – يتركنى أرددها
[هل أنا كنت طفل اً أم أن الذى كان طفلاً سواى]

ركنت رأسى على السور المنخفض، حاولت أن أطلق صوتى مترنماً، أن أبرح مكانى هذا – أترك السطح والكراكيب، لماذا؟ قلت فى نفسى – أنا هنا حر – ربما أشعر بالحرية – لماذا أريد أن أكون بين الهياكل والجماجم؟!، هنا أفكارى تنمو – لا تأخذ طريقها إلى التنفيذ إلا فى رأسى هنا أنا أمتلك الدنيا – فلماذا أريد الشوارع – أذهب إلى العسكر والمتجر .. إلى كلام يجب أن لا أنطق غيره، الشيخ إسلام مازال واقفاً فوق منبره يراقب الكلمات – من يكرر كلامه، ينظر إليه يرضى ومن يخالف – يقول كافر جدتى فى الركن الآخر، أحاول أن أخطو ناحية جسد شريفة، تأتى الأصوات من داخلى – الجدة، الأب، كل الناس (عيب) صوت الشيخ إسلام| (حرام) – انفردت بالظلام ناظرا الىمالااراه0 قلت لهم (لنفسى) واناانظر إلى أفراحهم، كانت العروس متحمسة، تحاول أن ترسم علامات الخجل على وجهها – كان العريس يقودها إلى طريق وحيد معروف سلفاً.
صرخت موجها صوتى إليه

"لماذا أبحت لهم هذا – قلت أنه حلال – أعتقد أننى أتيت من لحظة متعة – وحتى لا أكونه ظالماً – لدى الشهود والمأذون الذى وثق هذا المتعة – التى أتيت منها مشرداً، أجوب شوارع القرية باحثاُ عن مأوى ولقمة وتعرف الكلاب رائحتى فتعوى وأذوب وسط الظلام.

أعود إلى الباب، كل شيئ فى مكانه، البهائم ساكنة، الأسرة تعزف لحن الخلود – الحمام فوق الباب – نائم – الجماجم تجرب الدوران فى مدارات متعددة حول أجساد فى طريقها إلى نهاية المدى، الساعة تدور فى مكانها، جالساً خلف الجاموسة، كانت وقتها تجر الساقية، الغمامة فوق عينيها – كان جدى ذكياً وضع الغمامة حتى لا تخاف من الماء المتدفق إلى القناية الممتدة إلى جوف حقل القمح الذى دفع ثمن شرائه التاجر منذ أيام.

يشطر الطريق قلبى نصفين، الحياة معلقة بين الوجود والعدم، الحكايات ممصوصة الوجوه، تبحث عن صورها الأولية، أنفاس عزرائيل تقترب منى، تسكن صدرى، الماء العذب أبتعد عن حلقى، لا أدرى لماذا تمسكت بالدنيا فى هذا الوقت، حاربت عزرائيل، توسلت إليه أن يتركنى، يمضى إلى بعيد هناك الكثيرون غيرى، خذ منهم المئات، أذهب إلى اليهود، الأمريكان، الملوك والرؤساء، أتركنى – أنا هنا فوق السطح – هذه حقيقة – بعيداً عن الحياة – بعيداً عن الموت.

دخان سيجارتى تسلل راسماً مئذنة قديمة، وعود بالجنة بشرط الخشوع والصبر .. أيام تمر وجوفى بتشوق لكسرة خبز، التلفاز يتحدث فى الجالسين بهدوء، أجسادهم أسيرة المقاعد، يهمس التلفاز، يتحدث عن العدالة الاجتماعية والسلام الشامل.
الجاموسة تدور فى قمح التاجر0 أصرخ ؛أقسم بأن الجنة وهم كبير وأن النار تركت بصماتها على جسدى وجعلتنى أردد :

[راجل عدى على كتفه رغيف بايت
بإيه ح تفيد إرايتنا لـ "بول سارتر"
واحد فى ميدان وبينادى
على حلمه اللى تاه منه
فما تقوليش تعالى أحكى لى حدوته
وغيره عالرصيف نايم ومستنى أوان الموت
فما تقوليش هوانا راح يغير شيئ
وبلياتشو يبعث للعيال هيبته
علشان لقمة ما بيطولهاش
فقولى لى أزاى هنبكى واحنا فى المسرح
وست عجوزة بتأكل عيالها الصبر
فماتقوليش بلادنا أم للدنيا
وراقصة فى ثانية تلم ألف جنية
فقول ويايا ألفين طظ فى البورصة
وكلب لولوه فى مرسيدس
على صدره الدهب جنزير
يدوب أنا وأنت حوشنا تمن دبله
وأمسية ما يحضرهاش فى يوم الماتش إلا أتنين
فما تقوليش ده شعب ثقافى بالفطرة
وواد مجنون وبيشخبط
على كلمة أسمها بكره]

أظن أن الخوف كان يقف موقفاً مضاداً لا تلينى رأسه أو تنحنى فى اتجاه الهياكل والجماجم، الفجوات التى حلت محل العيون، تتسع، تصل إلى حافة الطريق حيث شيخ الخفر0 عمى توفيق يجمع الخفر حوله، حول حلقة النار هذا الطريق الفاصل بين قريتنا والعرب(1) فقط يرددون السلام على المارة، يقولون دع الخلق للخالق، يتركون الغرباء يدخلون القرية يمرون على الطريق إلى العرب يبيعون الحشيش والأفيون ويغتالون أحد المشاكسين ويحتلون الحقول، يظلون هكذا وعندما يزداد الليل ظلمة يحتجزون أصحاب الأصوات المزعجة.

الأبواب مغلقة، كل شيئ هادئ، أتحرك فى اتجاه الكتب المهملة، ينظرون إليها ثم يولون وجوههم شطر أجساد النساء، يدخل فى موكبه (البهو الواسع)، حاملى السيوف الصدئة يهللون، يقف وحيد منفرداً يجد عربات النيشان موزعة على جسد الأرض بالتساوى، تقف أمام كل عربة بنت تعتز بصدرها الظاهر، يعود إلى أرض اليمن، سلاحه اليقظ، سيناء، عبور قناة السويس، قال كل هذه الأماكن ملك الحكام، نظر الولد الذى يقف أمام العروسه المصنوعة من الصخور، تضع البنت الأعيرة بين فخذى العروسه، يجرب الولد إصابة الهدف.
ترفع الأصوات "الله حى .. الله .. الله حى .. الله"
ساحة الذكر تستقبل قطرات العرق، تصبح نهراً صغيراً، ترتفع المياه، قليلاً يشتد اهتزاز الأجساد، الجماجم تتمايل. "مدد يا سيدى منصور مدد".
خادم الضريح يجلس متقعراً فوق مقعد خشبى يحتفظ باللون الأخضر، يمد القدم اليمنى، يحرك الجسد ناحية اليمين، يروى حكايات قوية عن النصر الذى كان، سيدى منصور رأى الملائكة فى الحرب المباركة، ساعدته الملائكة فى مواجهة اليهود، حمله ملاك قوى بعيداً عن النار التى أخذت قدمه معها، عندما عاد منتصراً، دخل المسجد لم يبرحه حتى مات – كان يصلى، وجدوه ساجداً، ظل هكذا ثلاثة أيام، عندما تسلل الشك إلى قلوب المصلين. حركوه .. كانت الروح هناك .. ذهبت إلى السماء .. تهتز الأجساد.
يهتز جسد (صباح) فوق سطح المسجد .. تنظر إلى ساحة الذكر بعيون مستسلمة، تلتقط الكلمات بتأفف، تعود إلى الأيام الأولى، كان ولابد أن يكون الباب مغلقاً ليدفعه "عيد" كان فى طريقة إلى المراحيض ماراً بالقاعة الكبرى، وجد جسد صباح يتماوج، يهتز مع حركات اليد التى تنظف البلاطات الجديدة حول الضريح، أعطى الضريح ظهره، ابتسم لها – ابتسمت له .. قضبا مغناطيسى مختلفين التحما، الأجساد مستسلمة تماماً للاهتزاز والغياب، صوت الشيخ بدأ قوياً، تتحرك الهياكل، يسقط رجل، تضطرب الصفوف مع الحفاظ على طقوس الذكر، ينبش الرجل الأرض الترابية، ترتفع الأصوات "الله حى .. الله .. الله حى .. الله".

صالح يفضح الموقف بصمته، بكائية مكتومة .. دخان ينطلق نحو الساحة، حذاؤه طرق جسد الأرض باحثاً عن سر مفاتيح الوظيفة، وقلبه معها وهى فى أحضان رجل يعتصرها.
****
المسجد يحاول أن يرفع رأسه، يقف شاهداً على إحتكاك الأجساد، الباعة ينادون على بضائعهم، الفتية كل منهم ينتظر صيده، الأماكن المهجورة تعلن عن ترحيبها، سحب عمى توفيق نفساً عميقاً من الدخان ثم هز رأسه (الزمن غير الزمن والحالة أسوأ والمقابر ياما فيها). .. دنيا ..
أشعر بالخوف، الأجساد مازالت تترنح جاذبة الرأس ناحية اليمين، الكلمات تخرج مهزوزه "الله حى .. الـ .. لـ .. ـه"
خادم الضريح مبتسم، كل عام يمر على الحقول المعدمة فى موسم الحصاد، يأخذ جزءاً من المحصول القليل، يساومه فلاح، ينظر إلى الفضاء ويزعق بصوت عال "مدد يا سيدى منصور مدد".

يضع الفلاح حبات القمح فى الجوال بيد مرتعشة، تنزلق عينه خلف حبات القمح، يرفض ظهره الذى انحنى أن يستقيم ثانية، يدفع الضباب بعيداً، يهرول الضباب صاعداً المسجد من الباب الخلفى، تدفع الهياكل الرؤوس، يقف أمام ضحكة شبقية، زوجة خادم الضريح عارية تماماً، الحاج "مسعد" ترك جسده لقوة الالتحام، توزع المتعة على الراغبين مجاناً، تريد أن تخطف الوقت، ، يكفيها أن يقول لها الرجل (أحبك).
وحيد يخبط رؤوس الجماجم (شوية بس يا بلد .. جبجوا بالطيارات والمدافع"
أنسحب إلى حارة الشهيد، منازلهم الطينية تستعطف الضباب بالانسحاب، شارع التحرير فى قريتنا يقف شامخاً، بمنازله المرتفعة، المحلات العامرة، لم أحاول رفض صور الأشباح أو قتلها داخل حكايات الجدة، أتركها تحكى، تحلق رأسى، تنطلق إلى المدى الواسع، أرى الأشياء بأم عينى، أحاول الخروج من ساحة الذكر والانطلاق من مدارى المحدد.

 5-

[محاولة لفتح الباب]
على هامش البورتريه حرق فى الرأس

عشقتها ولن أرحل عن هذا الجسد الأسود
علمتنى أصول اللعبة للبقاء .. تركتنى فى المساء
بين طبل ومزامير، أحاول الحفاظ على رأسى
هيا .. هيا يا أحفاد الفراعنة الليلة كرب
هللوا .. هللوا. أنتزعوها من براثن الأهل الأغراب
يضحون بها وهى المأوى .. لنا .. لهم .. يمنحون الجسد
للأغراب وتموت الروح
نموت .. نموت .. نموت

الأرض مفروشة باللحم المبعثر، واقفاً أنا – مازلت .. ماتت كل الأغنيات .. الباب المغلق، واقفة عند الباب الموارب، رجال الحق حول الأب القادر. يردد "هى ملكى" تتابع أكواب الليمون التى تحملها الجدة إليهم، لم تسمح لدموعها بالإنطلاق، تعود برأسها إلى الزمن الآخر، رجال الثورة بملابسهم العسكرية، بدلهم، "سأتنحى" قالت يجب أن أكون قوية لا أستسلم لقيود الجدة، مدت رأسها فى وضع مستقيم ناحية البحر، الصحراء .. منزل الأب الذى مات فى قلبها.
****
كل الأشياء قريبة من عقلى بعيدة عن جسدى، الظلام هائج، جسدى لا يليق بملاك سقطت أجنحته بلا معارك، لا أظن أن جسدى يشبه أجساد الشياطين، لأننى لم أستطع أن أخون نفسى مع الوقت، أقتل ذلك الجسد الملعون، الذى يخشى العسكر – لا أريد أن أنطق بكلمة، أدفع به إليهم، بالتأكيد سيتركون عليه علامات موجعة، أما الروح فاين هى، هل تسير فى اتجاه الأرض، أم رافقتنى فى عزلتى فوق السطح، استهوتنى اللعبة – هذا السطح مملكتى أنا الحاكم والمحكوم، الظالم والمظلوم، أعاقب نفسى على أخطائى، قلت لا أريد الهياكل .. عقلى يدور .. يدور، كنا عائدين من تشييع جثمان أحداهن، الدموع ملئ العيون، لم يكن الإحساس بالفقد قد تسلل إلى أحدهم، كل واحد انفرد بجسده يبكى على جثمانه، جذبنى القارئ:
(يا أمة الله أت فى برزخ من برازخ الآخرة)

(أقتربت الساعة وأنشق القمر)

اللحظة مازالت مرهونة .. البرزخ يقف محايداً، فاتحاُ فاه .. لحظة ويبتلع الجسد. يغيب عن عالم الموتى إلى عالم الموتى .. من حساب إلى حساب، يقف الشيخ إسلام أمام القبر ينادى بأعلى صوته (تركته ناظراً إلى أشجار النبق، لمحت النهموس واقفاً عند حافة القبر. العصا الغليظة فى يده لم أر الكبش الحارس، تحسست شاربى، منعنى أن أصعد شاهد أحد القبور أمد يدى الكبيرة أقطف إحدى ثمار النبق، هززت رأسى فاصطدمت الكلمات بغلافها الخارجى (لا مفر .. الموت حليفك فى الغد القريب .. العقاب غامض أجعل أعضاءك تعبث بكل الأشياء، استمتع بحياتك كما تريد وإذا كان هناك حساب عسير ستكفيك التجربة).
أحاول فتح الباب للكلمات
ياااه مازالت مرهونة بطست مياه عفنة وقسوة جدتى، تحبو نحو شمس أفلت، تبدلت خارطة الساق، صادقت طين حقل البرسيم، لم تستطع أن تحصى عدد الأكواب وأصناف المشروبات التى تدخل إلى رجال الحق، مؤتمرات كثيرة من أجل حقها – قالوا امنحها جزءاً من حقها، رمت رأسها ناحية رجال الثورة قال الأب بصوت عال .. هى ملكى.
كان عامل الدفن يتأكد من اغلاق باب القبر، تحركت ببطء ملحوظ، الدخان يتصاعد من مندرة صالح، وحيد يسير صامتاً، يرمى البيوت الصامتة بنظرة عداء .. يوقفه الشيخ إسلام "إن شاء الله تصلى معانا الفجر".
يهز وحيد رأسه ناحية اليسار شعره الأسود الكثيف يرتفع، ثم يهبط "أنا عمرى م شفت الفجر ده، الدنيا ليل على طول – متتغرش بالنور إلى بيجى ويروح.
من شرفة شريفة جاءت ابتسامتها ممزوجة مع كلمة إسلام
  (مجنون).
قاطعت حكايات عمى "توفيق"
  "أنا مش سامع صوت فى البلد يحسسنى أن فيه حد حى".
خرج صوته راكباً حصان الواقع
  "يا ابنى الناس بتدور على أكل العيش والستر".
رغم شعورى بأن هذه الحكايات متكررة – تأكدت أن الظلام افترس كل الأشياء .. يفترس الآن ما تبقى منى .. منهم .. أسير فى الشارع فى عودتى .. أرى الباب مفتوحاً .. أحاول المرور .. يصدنى تاركاً جرحاً عميقاً فى الرأس، نفس المشاهد المتكررة تنزف مع الدماء، مازالت محتضنة طستها، تنظر ناحية رجال الثورة، تروى تاريخاً لا يخص غيرها وغيرى، الدماء تضاجع لسانى المتحرك

[كل اللى زيك
كانوا راسمينها فى عيونهم حاجة أكبر من مجرد رسمها
إنت الوحيد
إللى كان نفسك تقول شئ مختلف
كانت ملامحها البسيطة
شيئ يتحدى الزمن
كان مستحيل إن الزمن
يقدر يغير شكلها
ليه وأنت واقف جنبها
حسيت بشئ فى عيونها نفسه يغيرك
أية حيرك وياها
وأنت عارف أنها أبسط كتير
من كونها تقدر تحير أى حد
كان أى حد
يقدر يغير إتجاهها بلمستين
إلا أنت
كان يحوشك عنها
لوح من إزاز
حسيت بآيه
لما نامت اللمض قدام عنيها
والبيبان نزلت ما بينكم
وأنت لسه مش مصدق أنها
مانيكان خشب](1)

غابت كل الأبواب، وظل صوت شريفة، كنت أبحث عن كائن ضال، يحاول التمرد على الأعمدة المتراصة التى تمنع أجسادنا من الخروج وأمتلاك الفضاء، امتلاك أرواحنا، أحاول جاهداً أن أحجب صوتها الذى يحاصر المكان، يجذب الصوت خلفه رجل يريد أن يشترى متعته، يلصق العيون فى وسط الرأس تماماً كى يراقب النجوم البيعدة، أحاول بتر قدمى اليسرى، أقدمها هدية للدود، تصبح حرة، تخرج من هيمنة ذلك الجسد المسجون فى الفراغ، ربما تطالب الأعضاء جميعها بالانفصال ولتظل العيون لتراقب بهجة العظام التى تركها الدود، بالتأكيد سيعلن كل عضو عدم معرفته بالآخر، لا يقفا معاً فى صد غزو الهياكل والجماجم، أما الجمجمة فستنشغل فى صنع الفجوات العميقة، لترى الجماجم الصديقة والحمير والبهائم والذئاب سواء، تزحف مع الجراد على الحقول تسلبها الحياة، تصبح الأشياء سواء.

 6-

[قلب وعقل لم يرسما فى البورتريه]

الأشباح تدور فى مدارها غير الطبيعى، تنتهى إلى برزخ مؤجل. ما قيمتك إن لم تصنع شيئاً تؤمن به، تظل مرهوناً لبرزخ مهمل عليه اسمك.
كنت قد أجلت نصف مشروعاتى ورهنت النصف الآخر للظلام، تركت السطح مستأنساً، خائفاً من الهياكل، هل يمكن أن أقابل أشجار التوت الناعسة وأعالج رأسى بسيجارة رديئة، أصدر حكماً بالإعدام على بصرى؟!!

إيمان تجوب القرية .. صوت الأساور الذهبية تجذب عيون الفتيات، يهمسن "كان فرحها ولا ألف ليلة وليلة"
صالح يضغط دبلة حديدية فى قبضته، لم يستقر رأسى ولم تكن النجوم فى طريقها إلى الأرض، فقط انطلق نجم صغير واستقر وسط رأسى، اندفعت إلى الطريق الترابى، سعال، حمى تجتاح جسدى، النجوم ترسم صوراً لأشياء لم تكتمل، تحجبها السحب، تتوارى عن الأرض المستسلمه، الهياكل صامتة، هممت بتسديد ركلة قوية إلى الظلام، أحاول صنع شيئ مختلف، مازلت مرعوباً، المقابر تحتل الأرض، مازال شجر النبق والصبار متعطشاً.

عمى توفيق يحكى – "بيشرب من دم الميتين"

أهمس "هما الميتين عندهم دم"

كان على أن أكرر محاولة التحرر من الظلام، أجذب نفساً عميقاً من دخان سيجارتى، أطرده، يصنع مارداً، لا يسألنى عن أحلامى المنتحرة، يرسم ابتسامة رضا، يعانق الهواء، الفجوات توجه سهامها إلى صدرى، أحاول متعسراً الخروج من ثقب إبرة، أحاول التمسك بقدم أحد كائنات السماء كان يتسلق حبلاً مربوطاً فى أصابع السماء، يسرع الكائن الحافى القدمين، الأشباح تعرقل خطواتى الأولى، حولى زحام، صمت، أصوات مرتفعة، بطون ممتلئة، الدود يعمل بسرعة مدهشة، إيمان تخرج من راسى مسرعة عادت غاضبة، تركت الأشياء الثمينة هناك. قالت
  باع سنوات عمره مقابل أشتهاء جسد .. جذبنى إلى فراشه .. صالح مازال فى قلبى .. مزق ملابسى .. صرخت .. استقر فوقى، الماء المالح سلك طريقه إلى حلقى، الطاحونة لم ترحم قلبى – ليلة سوداءعندما أتى إلى دارنا، وزع على أبى وأخوتى وأمى وجدتى الأشياء الثمينة التى أتى بها من بلاد النور.

  رفضته.
تمسكوا به، جدتى صرخت فى وجهى "أنت متعرفيش مصلحتك"
أطاحت الأشياء الثمينة بصالح إلى المزبلة – قاومت
ردنى أبى – (عريس لقطة راجع من بره)
من أجلك يا صالح لم أتمسك بالعيب والحرام اخترتك من بين الجميع لتشبع رغبتى، قلت نتزوج – ضحكت – أشرت إلى بيتك الذى يهدد دائماً بالسقوط – كتب الاقتصاد المركونة فوق الأرفف المتربة، شهادة معلقة فوق الحائط، بعتنى بصمتك، فقط أنا الآن معه يغتصب متعته، أنت مع دخان البانجو والأصدقاء، لا تتحدث إلا عن هزيمة جيلك بأكمله تتضاحكون على خطبة الـ ..، ألمح فى عينك دمعة محبوسة"

وحيد يجوب القرية صامتاً، مازال يبحث بجوار الجدران المائلة عن الفتات الذى طلبه من كائنات السماء، ربما جاء كائن متستراً تحت وطأة الظلام مستجيباً لطلبى.

أقشعر جسدى، أحرك الرأس بصعوبة، الكتب مركونة، التلفاز معلق فى ركن بعيد من الرأس، صوت المذيعة الرقيق، نصف صدرها العارى جذبنى وهى تتحدث عن ضرورة التبرع للأيتام .. أطفال السرطان، إعلانات عن مدن سياحية .. سيارات فارهة .. طعام خاص.
أتذكر شيئاً مهماً – لماذا أنا هنا حتى الآن؟ ما قيمة وجودى؟ لماذا لا أرحل إلى أرض أخرى؟ فقط ا صنع أشياء ضرورية، أفك أربطة الماعز والبهائم فلا تحاول الانطلاق، الحمار لم يضل الطريق، رسم الخارطة فى رأسه، يعاندنى عندما أجذبه إلى طريق جديد، يركلنى ويعود إلى الطريق الذى يعرفه، يتركنى فى نهاية السكة الترابية، لا شيئ أمامى، كلهم أسرى الصمت، باعوا الغضب مقابل الزوجة والأولاد، ساعتى حول معصمى، العقارب فى سباق إزلى، الظلام مازال ساكناً فوق أرضنا، هذا الظلام يشن هجومه على جسدى، وحيد يضرب الأرض بعصاه .. شوارع القرية تعرف خطوته، يسب تماثيل الميادين، يرى العسكرى أمام رأسه يتراجع، يخفض صوته، تنهار أيامه. كان حارساً لبوابه النهار، يقول الموت أفضل من حياة صامتة قال – قضيتنا واحدة نخرج اليهود من جيوب حكامنا، نملك أرضنا، تركته الهياكل قالوا لم نر شيئاً.
وضعت خطة طويلة الأجل لانتشالى من الظلام – هذه الخطة متوقفة على مفعول السجائر، أو يختارنى عزرائيل فينتشل الروح من بين الأسوار المغلقة ويترك الجسد فى قبر مهدم تزوره اليهاكل تضع عليه الورد الأبيض، أو أعواد قليلة من سعف النخيل أن وجدت. لم أضع هذه الخطة وحدى أشترك معى جيل كامل، نجلس معاً نبحث فى الوظائف الخالية، نتسابق إلى رجال العدل، نسير ببطء شديد نخاف العسكر لم نرتكب جريمة سوى انتمائنا إلى هذه الأرض، أحياناً يقف أمامنا أحد العسكر يطلب أوراق تثبت انتمائنا، نخرج أوراقاً قديمة ينظر إلهيا، ثم إلى ملابسنا الرثة، يقودنا بلا جريمة إلى زنزانة مظلمة هناك فقط نكتشف أننا قتلنا أحد الهياكل بسيارة لم نمتلكها.

وحيد يغنى
[تخيلى
عشرين سنة والأجوبة مكسورة فى سنان الشتا
وأنا لسه واقف بانحنى
بس الرياح مش عوزه مرة تفوق
جايز أفرق دهشتى وكأنها ..
لحظة تصور للحياة
لحظة ما هاجر الوطن فى اسكتش مضحك .. للبكا
أراجوز يتيم وعياله سذج
لسه الجنينة فى قلبهم
مش قادرة تخلع كل أسوارها الحديد
شجر الحكاوى اتخرس
ولا عادش يطرح صوت
والأرض شايلة فى حزنها
دبة مواطن قلبه كان ضد النظام
وعيونه كانت للبشر
نقطة تلاقى](1)

يتحدث إلى الجدران، يخشى أن يسمعه العسكر، أو تلمحه كائنات السماء.
تنظر بعيون مجهدة من الباب الموارب، استغل المرض الفرصة فاحتل الجسد، تدفع ثمن الشاى والقهوة، رجال الحق يأتون من جميع القرى يقبلون الأب القادر، يقولون [خفف عنها] تدفع ثمن القهوة، تحصى ما تبقى من نقود، أضبطها تحدث نفسها، لا يفلت منها اسماً، تحصى أسماء رجال الثورة أقول يا أمي [البحر أخذ الملك فاروق وجاء برجال الثورة .. ثم الملك الجديد] تخاصمني – تروى تاريخي وتاريخها المهمل، قلت يا أمي [رفعت الصحف عنا، ذهبت إليهم تسجل أمجادهم، تنكر جوعنا وخوفنا من القادم]، بعيون مجهدة وجسد هزيل تنظر إلى الباب الموارب، تفلت دمعه حمراء وتضمني إليها.

-7-

تتحول عيني اليمنى إلى نفق مهجور .. أحاول أن أثبت قدمي اليسرى فوق جسد الأرض .. الأشياء تتجمد، لم استطع محاربة الجماجم – قلت [نتفاهم] يبحثون عن منازل وطعام – قلت [الحرية أولاً] تركوني، نظروا إلى التلفاز .. الأجساد تحترق .. محرك الجماجم ينظر إلى اللحم المشوي، شممت رائحة نتنه، قلبه يهتز فرحاً، يطلب من الجماجم عدم التدخل، أحاول. يد حديدية تمزق قلبي .. تبعثر محتوياته .. أرفض البكاء – الجماجم حسمت المعركة .. وقفت تشاهد ما يحدث، احتضنهم الصمت .. تبصق إيمان.

[أحاول الحفاظ على ما أملك .. أقف عارية .. الحجارة تطمع فى غزو ثماري .. أردها باستحياء .. أخشى أن تضع رغبتي الطين فوق رأسي] تحول وجهها إلى اليمين ثم إلى اليسار .. تراقب صالح من بعيد، الشعر الذي احتل لحيته، يسكب الماء فوق رأسه، يشعل سيجارة بانجو، يبتسم .. تبكى.

قبل أن أعلن عن احتياجي للبكاء وغيابه عنى .. عليك أن تقف أمام الباب – وإن كنت من المقربين إلى محرك الجماجم والهياكل لن تتسلل إليك أبداً خناجر البرد ولن يتجمد جسدك المشتعل .. فى هذا الوقت تحديداً ستأمل فى التخلص من ملابسك وتعود مع عمى توفيق إلى زمن آخر يحن إليه، نور الشمس كان موجوداً ساطعاً، الرجال يشقون جسد الأرض، الفأس تضاجع الطين أياماً ويولد النبات، سهر الرجال وظهورهم التى انحنت تسوى رؤوس النباتات برؤوسهم – لهب الشمس يمنحهم فأساً صغيرة تعجل بنهاية النبات، وتنطلق الزغاريد مع دخول الثمار، وزواج ولد بلغ فحولته على بنت اشتعل جسدها. غابت الشمس وأغلقت الدور وظل عمى توفيق يهز الرأس يميناً ويساراً.

المنبر يحمل الشيخ إسلام فوق ظهره يصرخ – إذا كان باب الجهاد موصداً والعسكر خلفه ينتظرون الطارق يجب أن ندعو الله بإهلاك اليهود الخنازير .. أعداء الله .. أعدائنا.
لم يهتم فى حديثه بأرضنا التي لا نملكها، أرسل أصابعه تعبث بلحيته ثم رفع صوته [اقتربت الساعة وانشق القمر] انتم أيها المفسدون فى الأرض خافوا الله الواحد الأحد.

اعملـوا للآخــرة
بسم الله الرحمن الرحيم
[ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ] صدق الله العظيم

انتزع وحيد جسده، ضربت قدمه اليسرى الأرض، التلفاز ما زال يعرض الأشياء .. محلل سياسى يرتدى بدلة أنيقة – يبتسم وهو يشرح الأمور " ساعدونا فى بناء بلد قوى – لكى نوفر لكم الراحة والأمن والأمان فى ظل وجود رئيس يعمل لصالح هذا البلد العظيم.
صرخ أحد الجالسلين فى وجه وحيد المستسلم للتجاعيد ..
" والله العظيم ما احنا عارفين الحقيقة فين "..
ابتسم وحيد، ثم تركهم ومضى، كان المحلل قد اختفى .. راقب الجميع المصارعة بحماس وضع كل واحد نفسه مكان الأقوى، يحمسه، بأمره بأن يحطم خصمه، ابتسم وحيد – مضى فى طريقه إلى الشوارع المظلمة.

صالح جالساً فى مندرته، ما زالت دائرة من الأجساد مفتوحة من اليمين، ذراع الشيشة يتنقل بين أفواههم .. انتظار طويل فى صفوف غير منتظمة لإلقاء أوراقهم فى صندوق أعلن عن مسابقة من أجل الحصول على وظيفة، ترك صالح ظهره فى أحضان الحائط .. مد يده إلى وجهه .. ابتسم .. يسمح لقطرات الدموع أن تنطلق .. هز رأسه .. يشدو بأغنية قديمة عن الفراق.

أقف أمام الباب .. أطرقة للمرة الألف .. أسب غبائى .. أطرق الباب المغلق.. هذه المرة الألف وواحد – الهواء البارد يضاجع أطرافى .. أشم حريق فى صدرى، أتحسس أوراقاً قديمة ما زالت فى رأسى – الساعة تدور ببطء .. الليل يزحف .. أتذكر كلمات قلتها وضحكوا، أكتشف أن هذه الكلمات حقيقية ومن الغباء أن انتظر نهاراً، انتحر تحت تهديد السلاح، وترك اللصوص يمرحون ويلهون بخيوط عرائس صامتة، صوت محرك الجماجم يرتفع ليعبر عن ما لا ترغب العرائس التفوه به، الجماجم تهرول، تختبئ فى الظلام، أمال عارية الآن، عرفوا ذلك من صوتها وصوت رجل مجهول يسرق متعة، زوجها بعيد عنها منذ أن عاد من الكويت، ترك هناك ما ذهب من أجله، انتشل عمره عائدا – جلب معه دموع لا تنقطع .. تتقلب آمال يمينا ويساراً بعد أن خرج مبتسماً ( سامحنى يا رب .. أعمل إيه يعنى .. أكل العيش مر ).

جاء الصوت من ناحية المقابر قوياً، ارتعشت الأجساد، ابتسم العسكر، قال محرك الجماجم ( أريدهم نيام )، ارتفع الصوت تدريجيا، خرج الصوت هذه المرة من داخلهم، تحولت جميع لهب الكيروسين إلى نسخ متعددة من عفريت أبو خفاخى، ترتعش أجساد العجائز، الصغار يصرخن، الأمهات يضعن الأيادى فوق أفواه الصغار.

وحيد يصرخ ( قوموا يا ناس، اعملوا حاجة بدل الكلام ) .. ( يا ناس حيجوا بالطيارات والمدافع)، يقابله الصمت، عفريت أبى خفاجى فى رؤوسهم، الفئران تعبث بأعواد الحطب فوق السطوح، القطط تتربص بهم، القمر يرسل ضوءاً متقطعاً – يرسم أحجاما كبيرة للقطط فوق الجدران، أعبث بقدمى غير مبال بالبرد القادم من الشمال، السطح يحاول طرد جسدى إلى الشارع المظلم، اتمسك بالكراكيب، أطرد المشاهد الملحة من رأسى، أشعل سيجارة أخرى، اتخيل أنى أقف أمام الملك، هل أطالب الملحة بحقوق الفقراء أم أطلب منه ما يساوى صمتى، ابتسم، احاول أن أصاحبها إلى هناك، رأى رجال الثورة .. ابتسم لهم .. أصرخ مع الهياكل ( لا تتنحى )، أكرر المحاولة، أفضل فى إحصاء النجوم، ابتعدت عن الدور المهدمة، أتجاهل صوت أم صالح، تصرخ فى وجه ابنها ( قوم يا بنى شوف لك شغلانه – حتقعد كده زى العمل الرضى ) .. يتجاهل صوتها، يشعل سيجارة بانجو، تبحث تحت المنضدة عن لقيمات جافة تضع لقمة فى فهمها، يترك ظهره فى حضن الجدار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى