الخميس ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
عن الحضارة (5)
بقلم محمد متبولي

خيارنا الحضارى...ماذا لو رحل الغرب للمريخ؟

ربما تساءل البعض لماذا يجب ان يكون لنا اسهاما حضاريا متميزا عن الغرب طالما أنه يقدم لنا ما نحتاج من سبل حضارة وتقدم وبتكلفة معقولة، وفى الوقت نفسه فان الحضارة الغربية أخذت عن الحضارة الاسلامية ما ساعدها على التقدم، أى ان الغرب مدين لنا بجزء كبير من ما وصل اليه الان، وتلك سنة الحياة تصعد حضارة وتسود ثم تخبو وتحل محلها أخرى، وبالتالى لا داعى أن نتعجل استعادة الحضارة خاصة وان تكلفتها الان ربما تكون باهظة نوعا ما وهو ما لا يتناسب مع الظروف الاقتصادية لمعظم الدول الشرقية ، فاعداد الكوادر القادرة على انتاج المعرفة والفكر يستلزم انشاء بنية أساسية قوية متمثلة فى مدارس وجامعات ومعامل ومطابع وغيرها، علاوة على تطوير جبار لمنظومة التعليم والبحث العلمى وهو ما تعجز عن تحمل نفقاته الكثير من الدول،اما الدول الشرقية التى تملك الامكانيات فان الاسهل لها والاضمن ان تستورد المعرفة وما تحتاجه من تقنيات حتى تسرع من خطى التنمية لديها دون ان تحمل نفسها عبأ انتاج الحضارة الذى لا تعرف كم سيكلفها ومتى سيأتى بثمره، وهذه الدول تطمئن لأمتلاكها ما لن يستطيع العالم الاستغناء عنه وهو مصادر الطاقة متمثله اساسا فى البترول وبالتالى لن يتخلى عنها الغرب بسهوله، أى فى النهاية الافضل ان نستمر فى الاعتماد على الغرب والحفاظ على تقدمنا النسبى فى بعض المجالات الذى يسير ببطأ السلحفاه، معترفين بأن الغرب ما ان سيشعر بأننا نحاول ان نقلل اعتمادنا عليه سيمارس علينا الضغوط حتى نعود سريعا لحظيرته، مستغلا فى ذلك تردى الاوضاع الداخلية فى الكثير من الدول الشرقية وهو ما يجعل العديد من الملفات محل نقد، مثل وضع حقوق الانسان، والحرية، والازمات الاقتصادية، والاحتقان الطائفى والتطرف فى بعض الدول وغير ذلك من القضايا المرتبطه الى حد كبير بالحالة الاقتصادية لتلك الدول، وهو ما يدفع الكثير للأخذ بمبدأ السلامة بمعنى ان لا نثير حفيظة الغرب فيثور علينا، وألا نبالغ فى مخاوفنا ففى النهاية الغرب يحتاج الينا مثلما نحتاج اليه.

وعلى الرغم من ان ما سبق قد يكون له منطقه الا ان علينا تفنيده حتى يمكننا التحقق من سلامة ذلك المنطق من عدمه، ففكرة ان الحضارة الغربية مدينه بجزء من تقدمها للحضارة الاسلامية خاصة والحضارات الشرقية عامه وان كانت حقيقية الى حد كبير فهى لا تحظى باعتراف الكثير من الغربيين، فبالنسبة للعديد من مفكرى الغرب لا يوجد دور حقيقى للحضارة الاسلامية فى حضارتهم سوى الحفاظ على علوم اليونان ونقلها اليهم، ولا يوجد كثيرين مثل مايكل هاميلتون مورجان مؤلف كتاب تاريخ ضائع ممن أعترفوا للحضارة الاسلامية بجزء من فضلها، وعلى أية حال فالحضارة الاسلامية استفادت من حضارة اليونانيين أجداد الغرب وبالتالى كما استفاد العرب أفادوا، وفى نهاية المطاف فالحضارة الغربية بسماتها الاساسية القائمة على النفعية واحترام القوة ليست تلك التى تعترف بالجميل لأحد، وهو ما يظهر بجلاء فى الطريقة التى تعامل بها الغرب مع الشرق طيلة القرون الماضية.

اذا فالغرب يمدنا بالمعرفة والتقنية من أجل تحقيق منفعته المتمثله فى مصالحه المختلفه فى المنطقة، كحاجته للبترول او الحفاظ على طرق الملاحة الرئيسية لتسهيل تجارته او رغبته فى ايجاد اسواق لمنتجاته وغير ذلك من مصالح اقتصادية وسياسية وبالطبع عسكرية، ويستلزم ذلك بطبيعة الحال تواجد بعض المواطنين الغربيين بالشرق، فعندما ينقل الغرب أحدث تقنيات البناء وتكييف المبانى لمدن الخليج العربى ويحث أكبر سلاسل المحال الغربية على فتح فروع لها بتلك المنطقة، فهو يفعل ذلك لتحويل هذه المدن الى أماكن قابلة لسكنى الغربيين من جانب وفى الوقت نفسه يعظم منفعته من اموال تلك الدول عن طريق نقل نمط الحياة الغربية للمواطن الشرقى وهو ما سينشأ عنه حاجات جديدة وبالتالى رغبات استهلاكية جديدة، وعندما ينقل الغرب أحدث وسائل التعليم الينا فهو يفعل ذلك ليجد من يستطيع استخدام التكنولوجيا الحديثة وبالتالى اقتناء أحدث أجهزة الكمبيوتر والبلاى ستيشن والتليفون المحمول، وفى الوقت نفسه يفرز من بين العقول الشرقية من يصلح للاسهام ايجابيا فى حضارة الغرب وهو ما حدث مع الكثير من العلماء العرب المرموقين، وايضا ايجاد بدائل من ابناء المنطقة يعملون تحت لواء الغرب ويحلون محل الغربيين فى الاماكن الملتهبه فيحقق الغرب بذلك منفعته بأن يحافظ على مواطنيه ولا يفقد مصالحه، وعندما يسعى الغرب لنشر الديمقراطية بالمنطقه فهو لا يسعى لتحقيق رغبة ابناءها فى ان يحكمهم من يرضون عنهم بل ليوجد لنفسه أداة يتخلص بها ممن يقفون فى مواجهة مصالحه سواء عن طريق انقضاء وجودهم بالطرق الديمقراطية او عن طريق دعم المعارضة ضدهم وغير ذلك من الامثله كثير، وعلينا الاعتراف بأنه ليس حقيقيا ان بامكاننا ان نعدل الموقف لصالحنا متى شئنا لأننا نمتلك أهم ما يحتاجه الغرب لبقاءه وهو مصادر الطاقة والتى أهمها البترول، صحيح اننا نملك تلك المصادر لكن لا نحوزها، فلولا الخبرات والتقنيات التى تستورد أساسا من الغرب خاصة فى منطقة الخليج لما استطعنا استخراج البترول ومعالجته او تصديره، فنحن مثل من يملك عشرات الافدنة من الاراضى الزراعية ولا يستطيع ان يزرعها، فيؤجرها لمن هو أقوى منه فما يعطى له يأخذه وما يمنع عنه لا يطلبه، لأنه يعرف ان لولا ذلك المستأجر لما استطاع جنى ثمار تلك الارض.

والعقل يدفعنا لأن نقول اننا نستفيد من الغرب كما يستفيد هو منا، أى ان استغلال الغرب لنا ليس كله سلبيا بل له نواحى ايجابية، فنقل الغرب لنا للمعرفة والتقنية وبعض القيم كالديمقراطية يساعد مجتمعاتنا على النهوض، لكن ذلك لا يعدو مثل ما كان يفعله الاستعمار الانجليزى فى الاقطار التى كان يحتلها، كان يمهد الطرق ويشق السكك الحديدية حتى يسهل من حركة جنوده، فييسر ذلك من حركة أهل تلك الاقطار، ومع مرور الوقت يصبح سائقى تلك القطارات والمهندسين والفنيين المعنيين بتحديد أعطالها واصلاحها من ابناء تلك الاقطار، وربما نجح هؤلاء فى تصنيع بعض قطع غيار تلك القطارات او ابتكر أحدهم شيئا ما يزيد من كفاءة عملها، لكن فى نهاية المطاف فالقطار انجليزى وبدون الانجليز لن يكون هناك قطار وبدون قطار سيفقد المهندسون والفنيون والسائقون أهميتهم وفائدتهم، ويجعلنى ذلك أشط بعقلى بعض الشئ ، وأقول ماذا لو نجح الغرب فى تحقيق أكبر أحلامه ووجد سبيلا للحياة على سطح المريخ وقرر الهجرة اليه واستيطانه، فمن المؤكد ان الغرب سيسعى حينها لتحقيق أكبر قدر ممكن من القوة هناك، وسيستلزم ذلك تخلصه من عناصر الضعف والتى سيكون أكبرها الشعوب التى تعتمد عليه فى حياتها مثل أغلب شعوب الشرق، فهو لن يحتاج اليهم هناك لأنه غالبا ما سيجد سبيله فى ايجاد مصادر الطاقة وسائر المواد الخام التى كان يحتاج للحصول عليها من الشرق سابقا، وكذلك ستتحقق له حالة من الوفرة تجعله فى غنى عن الاسواق الاخرى، وقطعا سيأخذ الغرب معه العقول الشرقية التى اندمجت فى الحضارة الغربية وساهمت فى تقدمها حتى تساعد فى مزيد من التقدم على أرض الكوكب الجديد، وأغلب الظن ان تلك العقول ستفضل الرحيل مع غرب يحترمها ويجلها عن البقاء مع شرق لم يكترث بها او يعطها حقها، وسيبقى حينها للشرق ما أخذه عن الغرب من تقنيات ومعرفه قبل ان يترك الارض، وسنكون بذلك أمام أحد أمرين اما اننا سنعتمد على ذلك لفترة من الزمن ثم تبدأ تقل فاعلية وصلاحية تلك المعارف والتقنيات الغربية كلما مضت الاجيال بعيدا عن اخر جيل تعامل مع الغرب بشكل مباشر وهو ما سينتج عنه دخولنا فى عصور الظلمه و ربما نصل لعصور ما قبل التاريخ، او اننا سننجح فى تطوير ما تركه لنا الغرب حتى نصل الى ما وصل اليه قبل ان يرحل عن الارض بعد فترة ما من الزمن، وربما يكون الغرب قد حقق حينها تقدما مذهلا على المريخ لا نستطيع ان نتخيله، وفى كلا الحالتين سيكون الامر متروكا للظروف، وهو ما يعنى اننا سنكون رد فعل لا فعل.

اننى أعرف ان ما قلته قد يكون دربا من الخيال لكن دعونى أعيد صياغته بشكل أكثر واقعية، فطالما ان الحضارة الغربية تتعامل معنا بمنطق المصلحة فانها ما ان ستجد ان مصالحها فى الشرق لم تعد ترقى للمستوى المطلوب، او ان تلك المصالح يمكن تحقيقها من خلال بقعة أخرى فى العالم فستدير ظهرها لنا، وحينها لن تهتم بنقل أهم ما توصلت له من منجزات الينا، وسيصبح امتلاك التقنية والمعرفة امرا باهظ الثمن لن يكون فى متناول الا قلة قليلة ان وجدت، وسيؤدى ذلك اما لتحفيزنا للتقدم وهو الامر المستبعد لأن الشواهد حتى الان تؤكد اننا لم نستعد جيدا لتلك اللحظة او البديل الاخر سيكون عودتنا لعصور الظلمه والتخلف، والحقيقة ان محاولات الغرب لتقليل اعتماده على الشرق تسير بخطى حثيثه، فبعد ان كان الشرق سلة غذاء العالم، فقد أدى استيطان الغرب للعالم الجديد، والتطور الهائل فى التقنيات والبحوث الخاصة بالزراعة لانقلاب ذلك الوضع، حتى ان كثيرا من الدول الشرقية اصبحت تستورد جزءا كبيرا من غذاءها كاللحوم والقمح من الغرب، كذلك فهناك تطورا هائلا فى البحوث الهادفة لايجاد مصادر جديدة للطاقة وزيادة الاعتماد على الطاقة النووية والطاقة الجديدة والمتجددة كالرياح والشمس وغيرها، وهو ما يعنى ان الغرب يسعى لتقليل اعتماده على البترول ومشتقاته، علاوة على ذلك فلا ننسى ان بعض الدول الغربية تفضل استيراد البترول من الشرق ليس لأنها لا تملكه ولكن لأن تكلفة انتاجه أكثر بكثير مما تدفعه فى استيراده، وهو ما يعنى انه ما ان انقلب الوضع فستبدأ فى استخراج ما لديها، وكذلك فعلينا ان نتوقع انه ما ان ستبدأ الحضارة الغربية فى الانحسار مثلها مثل أى حضارة عرفتها البشرية، ستفضل ان تبقى ما لديها من منجزات لأبناءها بدلا من ان تبددها لدى الشعوب الاخرى.

ويمكن اجمال ما سبق فى ان يوما ما ستتخلى الحضارة الغربية عن الشرق اما عن طريق تحول مصالحها عنه او عندما تبدأ فى الانحسار، وحينها سيكون امامنا اما ان نعود لعصور الظلام او ان يكون لنا اسهاما حضاريا بارزا يجعل الغرب مرتبطا بنا حضاريا لا نفعيا بحيث يعتمد علينا فى جزء مما يحتاج اليه من معرفه وتقنيات مثلما نعتمد عليه، واذا ما اخترنا الامر الثانى سيكون علينا ان نبدأ من الان حتى لانترك الامور للظروف والتى قد لا تحالفنا حينها، فتحولنا من مستهلكين للحضارة الى صانعين لها هو أمر حتمى اذا ما كنا لا نرغب فى العودة لعصور ما قبل التاريخ، وامامنا الان فرصة ذهبية فالحضارة الغربية مازالت فى أوج ازدهارها وتقدمها ومازالت فى نفس الوقت بحاجة للشرق وهو ما يمكننا من نقل أكبر قدر ممكن من المعرفة عنها والاعتماد عليه فى شق طريقنا نحو التقدم، والحقيقة ان طبيعة ذلك الخيار الحضارى وشكله تحتاج الى العديد من البحوث التى تبلورها وتعطينا لمحات عن بداية الطريق، لكن يمكننا هنا التحدث عن بعض الافكار العامة التى ربما تساعد فى ذلك، فطبيعة ذلك الاسهام قد تكون فى ان ننشئ حضارة شرقية مستقلة تتفاعل مع الحضارة الغربية القائمة وتتبادل معها المعرفة وتكون مستعدة لهداية الانسانية لطريق النور متى خبوت الحضارة الغربية، او ان نستغل التيار المتصاعد فى الحضارة الغربية لتحويلها الى حضارة عالمية فنبث قيمنا الحضارية بداخلها من خلاله، وأى ما كانت طبيعة ذلك الاسهام فسيحتاج الى ان نعيد النظر فى تاريخنا، فمن سبقونا عظام او ضعفاء لأن رغباتهم وارادتهم وظروفهم ادت الى ذلك، وهذه الرغبات والظروف والارادة مرتبطة بهم فى أزمنتهم، فكون اجدادنا عظام لايجعلنا كذلك وكونهم ضعفاء لا يجعلنا مثلهم، فقد يتحكم التاريخ فى جزء من الحاضر لكن تحكمه فى باقى الحاضر والمستقبل مرهون بارادتنا، فعلينا ان ننظر للتاريخ على انه مجموعة من الخبرات والتجارب القابلة للنقد فننتقى منها ما هو ايجابى فنبنى عليه وننحى منها ما هو سلبى ونستبعده.

ويجب ان يراعى ذلك الاسهام تجنب الاخطاء التى وقعت فيها الحضارة الاسلامية ويتلافى احتوائه على وحوش كامنه كتلك التى تحويها الحضارة الغربية، وربما يكون أكبر اسهام حضارى يمكننا ان نقدمه للبشرية هو تحويل قيم العدل والحرية من قيم انتقائية تمنح لبعض الشعوب دون غيرها الى قيم سائدة تمنح للبشرية كلها، وسيكون السبيل لذلك ان نتحول من مجرد لاعبين فى العالم بمقتضى قواعد وضعها غيرنا الى مشاركين فى وضع قواعد اللعبه، وهو ما يستوجب ان يصغى العالم الينا، وسيتحقق ذلك عندما نقدم للانسانية المعرفة والتقنية والقيم التى تجعل من الحياة أفضل على سطح الارض، وربما لو خصصت بعض الدول الشرقية الغنية جزءا من ميزانيتها لأنتاج المعرفة والتقنية، وحاولت الدول الاخرى ان ترى المجالات التى يمكن ان تتقدم فيها ونمتها ثم بدأت هذه الدول جميعا فى تبادل الخبرات والمعرفة لكان ذلك بداية طيبة لاسهام حضارى جاد وقوى فى المستقبل.

وفى نهاية المطاف يظهر تساؤل هام، اذا كان الانسان هو الوحدة الاساسية لبناء الحضارة، فما هى طبيعة ذلك الانسان الذى سيتحول من مستهلك للحضارة الى صانع لها، وهل يستطيع الانسان الشرقى بوضعه الحالى ان يحقق تلك القفزه أم انه بحاجة الى عملية أشبه باعادة الهيكله، وما هى طبيعة تلك التصورات التى على ذلك الانسان اعادة بناءها حتى يتمكن من صناعة تاريخ جديد لنفسه والبشرية، و اخيرا هل يمكن ان نجيب على تلك الاسئلة فى القريب العاجل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى