أَلْقَى السّنْوَارُ عَصَاه
استدراك على قولهم: "رميته بعصا السنوار".
يقول المثل الشعبي: "رميته بعصا السنوار". والمثل يُضَرَب لِمَنْ اجتهد وسعَه؛ حتَّى استفْرَغ الجهدَ، وقد يكون أصل هذا المثل قول ابن مجبَر الأندلسي:
أَعلمَتْني أُلقِي عصا التِّسيار * في بَلْدةٍ ليسَت بِذاتِ قرارِ والتِّسيار على وزن "تفعال" من الفعل سار، والمعنى: أعلمتني أن أستقرَّ في بلد ليس فيها استقرار؛ إذ قد تكون فرصُ العيش والنجاح فيها أوفر. وقد قال آخر:
فألقَت عصا التِّسيار عنْها، وخيَّمَت بأرجاء عذْب الْماء بيض محافره أي: تركت الترحال، وخيمت عند ماء عذب.
والأمثال تُؤخذ عن قائليها، وتُحكَى كما وصلَتْنا، ولكننا اليوم أمامَ مَثَلٍ من نوعٍ فريدٍ، مَثَلٌ صنَعَتْه بيئتُنا نحن، ولم ترد صورته على العقل العربي من قبلُ؛ إذ لم تصوِّر لنا الكاميرات صور أبطالنا في معاركهم من قبلُ، والآن، وقد رأينا تلك الصورة المعْجِبَة - صورة يحيى السنوار - ينبغي لنا أن نصيغ لها مَثَلَها صياغة تليق بها، ينبغي أن يُصاغ هذا الْمَثَلُ وفق معطيات تلك الصورة التي أقرت عيوننا، وأثلجت صدورنا بما حملته من معاني العزة والإباء، وبما ألقت في صدر العدو الصهيوني من خوف وقهر وإذلال.
ونحن إذ نحاول صياغة هذا الْمَثَل نقترح تعديله ليكون: "أَلْقَى السّنْوَارُ عَصَاه". إذ إن للفعل "ألقى" من الدلالة على استفراغ الوُسع، ما ليس للفعل "رمى"؛ لما يحتاجه فعْل الرمي من القوة؛ ليكون الرميُ والدفعُ. أما الفعل "ألقى" فلا يحمل ذلك المعنى، ويقدر عليه القوي والضعيف.
ونحن نلحظ أن الفعل "ألقى" يلقي بظلاله على الشواهد العربية التي أوردناها سلفًا؛ محاولين تلَمُّسَ معنى مَثَلِنا الذي نقترحه الآن ودلالته.
كما أن السنوار لم يُلق عصاه حتى يئس من استخدامها، فلم تعُد به قوةٌ ليَهُشَّ بها عدوًّا، ولا أن يدفع بها أذًى؛ فألقاها لعلها تَفعل هي ما لم يَعُد هو قادرًا على فعله.
وليس هذا عن ضعف أو استسلام أصاب السنوار، وحاشاه؛ إنه السنوار! بل هو اليقين في الله، والتوكل عليه، انظر إلى قول الله سبحانه وتعالى لكليمه موسى عليه السلام: (قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ * فَأَلۡقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّة تَسۡعَىٰ) (طه: ١٩-٢٠) أكان إلقاء موسى عصاه استسلامًا وعجزًا، أم كان توكلًا ويقينًا في موعود الله.
نحن أمام مشهد أشبه بمشهد موسى لما قال له أصحابه: (إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ * قَالَ كَلَّآۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهۡدِينِ * فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ) (الشعراء: ٦١ – ٦٣) وهنا يتكرر مشهد العصا أيضا، فكانت النتيجة: (فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْق كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ) (الشعراء: ٦٣)
ومن ثم نستطيع أن نقول: إن السنوار كان مقتديًا بسيدنا موسى عليه السلام في كلِّ أفعاله؛ ولا غَرْوَ في ذلك، فهو يحارب العدو الذي حاربه موسى عليه السلام، فقِصَّتُه قصَّتُه حَذْوَكَ النَّعْلَ بالنَّعْلِ.
وقد كان موسى عليه السلام قد اتَّخذ العصا من قبل أن يعلم ما عند الله فيها، وإلامَ يكون صَيُّورُ أمرها؛ ألا ترى أنه لما قال الله عز وجل: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى؟ قال: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ، عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي، وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) (طه: ١٨) وبعد ذلك (قَالَ: أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى) (طه: ٢٠)
إن تلك الحية – عصا موسى - بهَتَتْ فرعونَ وجنودَه من قبلُ، كما بَهتَتْ عصا السنوار النَّتِنَ وجنودَه الآنَ، وأبطلت أكاذيبهم! ومَن يستطع أن يدَّعيَ الإحاطة بما في العصا من مآرب موسى؟!
ومن عظيم فضل العصا أنها قد كانت لا تُفارق يد نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام؛ في مقاماته، ولا صلواته، ولا في موته، ولا في أيام حياته، حتى جعل الله تسليطَ الأرَضةِ عليها، وقد مات سليمان معتمدًا عليها - من الآيات عند من كان لا يعلم أن الجن لم تكن تعلم إلا ما تعلم الإنسُ: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ؛ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) (سبأ: ١٤) والْمِنْسأة هي العصا.
(الجاحظ: البيان والتبيين)
وقد. دخل عُمير بن سعد الأنصاري على عمر بن الخطاب حين رجع إليه من عمل حمص، وليس معه إلا جراب، وإداوة، وقصعة، وعصا. فقال له عمر: ما الذي أرى بك، من سوء الحال أم تَصَنُّع؟ وكان أهل حمص يتهمون عميرًا عند عمر؛ فقال عُمير: وما الذي تراني؟ أوَلستُ صحيحَ البدن، معي الدُّنيا بحَذَافِيرِها؟ قال: وما معك من الدُّنيا؟ قال: معي جِرابي أحمل فيه زادي، ومعي قَصعتي أغسل فيها ثوبي، ومعي إداوتي أحمل فيها مائي لشرابي، ومعي عصاي؛ إن لقيتُ عدوًّا دفعتُه، وإن لقيتُ حيةً قتلتُها، وما بقي من الدُّنيا تَبَعٌ لِما معي". فانظر إلى عمير وهو يعدِّد فضائلَ العصا! ولم يذكر من تلك الفضائل شيئًا لطعامه ولا لشرابه؛ فأضحت العصا أهمَّ من الطعام والشراب؛ حين أصبحت سلاحَ المجاهد!
ولماذا أيضا نرشح: "أَلْقَى السّنْوَارُ عَصَاه". صيغةً لِمَثَلِنا هذا؛ لأن السنوار مات مرفوع الرأس، فلا يليق به الجر الذي في المثل الشعبي: "رميته بعصا السنوارِ"؛ إذ السنوار هنا مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الكسرة، والجر والكسر لا يَليقانِ بـ"سنوارنا". لا يليق به إلا الرفع، كما هو في المثل الذي نقترحه هنا: "ألقى السنوارُ عصاه"؛ السنوار هنا فاعل مرفوع، فهو فاعل لا مفعول به ولا مضاف إليه، وهو مرفوع لا منصوب ولا مكسور.
ناهيك عن تكرار السنوار في المثل المقترح: "أَلْقَى السّنْوَارُ عَصَاه". مرتين؛ الأولى صريحًا "السنوار"، والثانية مُكَنًى عنه بالضمير في كلمة "عصاه"، ومن أغراض التكرار في البلاغة العربية التلذذ، ومن التلذذ قول الحطيئة:
ألا حبّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ * وهند أتى من دونها النأيُ والبُعدُ
انظر كيف كرر الحطيئة ما تلتذُّ به نفسه، وتعشقه روحه. ونحن نلتذ بذكر "السنوار"، ونحب تكراره؛ كما في المثل المقترح: "أَلْقَى السّنْوَارُ عَصَاه".