الأربعاء ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢١
بقلم علي القاسمي

الآنسة جميلة

قادماً من مدينة الرباط بسيّارتي، وصلتُ إلى منزل صديقي، الأستاذ سيدي محمد، في مدينة شفشاون، لتناول طعام العشاء معه. كان باب المنزل مفتوحاً فدخلته. رأيت حشداً من المدعوين في جُنينةِ المنزل، ومعظمهم جالسٌ إلى موائدَ معدّةٍ لتناول طعام العشاء، وبعضهم القليل واقف، وجميعهم يستمع إلى موسيقى الآلة التي تعزفها فرقة موسيقية. حامت عيناي على وجوه الحاضرين بحثا عن أخي سيدي محمد، فوقعتا عليها واقفةً وحيدةً في الطرف الأقصى من الجنينة بالقرب من مجرى النبع؛ فحطَّتا عندها، وكفَّتا عن مواصلة البحث عن صديقي.

ينبغي أن أقول التصقت عيناي بها، وأُذَينا قلبي كذلك. فجمالها يطغى على المكان كلّه، وعلى الفضاء برمَّته. فهي تتمتَّع بجاذبيةٍ شديدةٍ شَلَّتْ قدمَيَّ فلم يقدرا على مواصلة السير، وسحرت عينيَّ فلم تتمكنا من النظر، ولو للحظات، إلى غير وجهها الصبوح. كانت تقف في الطرف الآخر من الجنينة. ولم تكن مع أحد من المدعوين، ولم تنظر إلى واحدٍ منهم، بل كان رأسها مرفوعاً قليلاً، وعيناها غائرتين في السماء كما لو كانت تنشد شيئا من المدائح النبوية مع أيقاع موسيقى الآلة.

في أوربا التي أزورها بانتظام، وفي هذا البلد الرائع، وفي هذه المدينة الرائعة، شفشاون، أرى جميلاتٍ كثيرات، لاسيَّما في مثل عمرها الذي لا يتعدى عشرين ربيعاً؛ ولكن ليس في مثل حسنها الفتّان. فمدينة شفشاون التي تُلقَّب بـ "الجوهرة الزرقاء" لروعة طبيعتها الجبلية الخلابة، تأسَّست سنة 1472 لإيواء مسلمي الأندلس الذين طردهم الإسبان، فحملوا شيئاً من ثقافتهم الأندلسية معهم إلى البلدان المغاربية التي لجأوا إليها. ولم يكُن أولئك اللاجئون من أصول مغاربية إسلامية فحسب، بل تعود أصول معظمهم كذلك إلى جميع أصقاع الإمبراطورية الرومانية النصرانية القديمة. وقد أسلموا إبّان الحكم الإسلامي المتسامح لإسبانيا الذي دام ما يقرب من ثمانية قرون. وعندما أمشي في أزقة شفشاون، أرى الأطفال بعيونٍ خضرٍ وزرق وشهلٍ وسودٍ وبنيةٍ وعسليةٍ، وبشعرهم الأسود والبني والبني الدافئ والأشقر والأشقر الذهبي وغيرها من الألوان. وقد تحوّلت هذه المدينة إلى قلعة لمقاومة الاستعمار الأوربي في القرن السادس عشر وما بعده. ويمتزج جمالُ أهلِها بشموخِ التحدي والإباء.

لم تكمن مشكلتي في تلك اللحظة في حُسن تلك الصبية القتّال الواقفة وحيدة في أقصى الجُنينة، بل في الإحساس الذي داخلني. إحساسٌ شديدُ الوطأة على نفسي ووجداني وجميع كياني. أحسَّستُ أنني قد رأيتُها من قبل. وتحدثّنا معاً عدّة مرّات، وفي مناسبات عديدة. ولكن أين؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟ وتهاطلت الأسئلة على روحي مثل قطرات المطر الأولى، تبدأ خفيفة منعشة، وبعد حين تتصاعد وتيرتها حتى تغدو مُغرقةً مصحوبةً بعاصفةٍ أو إعصار.
أزعم أنني أعرف الفرق بين الخيال والواقع، وبين الوهم واليقين، وبين القضية الكاذبة والقضية الصادقة. وأنا واثقٌ تماماً من صُدق إحساسي بأنّني رأيتها من قبل، هي بعينها، بل بعينيها النجلاوَين الكحلاوين كأنَّهما عيون المها في جزيرة العرب، وبخديها الأسيلَيْن المتوردَيْن كأنَّهما من التفاح الذهبي، وبشفتيها الحمراوين الممتلئتَيْن المنفرجتَيْن بعذوبة، وبجيدها العاجي الطويل مثل رقبة رشا الغزال في التفاتته، ويتدلّى عليه قرطان لؤلؤيان ثمينان، وبجسمها الرشيق الذي لا يشتكي منه طولٌ ولا قصرُ. أنا متأكدٌ أنني رأيتُها هي بذاتها من قبل! ولكن أين؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟ هنا مربط الفرس، كما يقول الفرسان.

وأخذْتْ جميعُ حواسي تقترب من بحيرةِ حُسنها الفتّان، وتطفوا على شواطئها، ثمَّ تغوص شيئاً فشيئاً في دفءِ عينيها الخضراوين، وأنا أذوب على رموشهما؛ وينطلي لساني كلُّه بمذاق حلاوة شفتَيها، وينتشي أنفي برائحة جلدها البض ( فلكلِّ جلدٍ رائحةٌ مخصوصة)، وتهدهدني ذوائبُ شعرِها الأشقر الذهبي. وكلّما غصتُ في أعماقِ بحيرةِ ذلك الحسن الفريد، أزدادت صاحبته نوراً وألقاً، وشعرتُ أنني أقترب إلى شموسِ السماوات وأحترق فيها، وأبعُدُ عن ضفافِ البحيرات والمحيطات. فتمنيتُ أن عينيَّ لم تقعا عليها مطلقاً. وتذكَّرتَ قولَ أبي تمام:ِ

قدْ قَصَرْنا دونكِ الأبـْـ .... ـصارَ خوفاً أن تَذوبا
كلَّما زدناكِ لحظـــــاً .... زِدتنا حُسناً وطِيــبــا

ما أربكني وأقلق أعماقي، إحساسي بأنَّ هذا الجمالَ الأخّاذ ليس غريباً عني وليس بعيداً مني، فهو منحوتٌ بين الضلوع، ومتمدَّدٌ على حنايا الروح كلها. ورحتُ أُسائلُ ذاكرتي المنهكة: أين رأيتها؟ ومتى تحدّثت معها؟ وكيفَ التقيتها من قبل؟ ولماذا تركتها أو تركتني؟ ولم أجد جواباً يشفي غليلي الملتهب. لقد استعبدني ذلك الحُسن الأخاذ. وكدتُ أصرخُ مع الشاعر أحمد شوقي:

صوني جمالَكِ عنا إنّنا بشرٌ .... من التُرابِ، وهذا الحسنُ روحاني
...إذا تبسَّم أبدى الكونُ زينتَهُ .... وإنْ تنسَّــــمَ َأهدى أيَّ ريحــــانِ

وداخلني خوفٌ من أنَّني رأيتُها في حياةٍ سابقةٍ؛ فقد كنتُ في تلك الأيام أبحث في موضوعِ الأطفال النادرين الذين يتحدّثون في حوالي السنة الثالثة من عمرهم عن حياة سابقة عاشوها، ويعطون أدلَّةً ملموسة؛ وبعد قرابةِ سنتَين، ينسون تلك الحياة السابقة تدريجياً. وحتّى نحن الكبار، يحصل أحياناً أن نمرَّ بزقاقٍ في مدينة نزورها لأوَّل مرَّة في حياتنا، ويداخلنا إحساس شديد أكيد عنيد بأنَّنا مررنا في ذلك الزقاق بعينه من قبل!! الآن يتسلل صلُّ الهلع إلى أعماقي. مَن هذه الحسناء ذات الوجه الملائكي؟! هل كانت ابنتي في حياة سابقة، أم حبيبتي وعادت إلى الحياة؟!

ثمَّ انتبهت فجأة إلى أن مفتاح الإجابة على جميع هذه الأسئلة قريبٌ مني، أقرب من " نبع رأس الماء " في شفشاون؛ فهو في يد صديقي سيدي محمد أو في جيبه. لا بُدَّ أنَّهُ يعرفها جيّداً بحيث دعاها إلى وليمته. تلفَّتُ يمنةَ ويسرة مثل غريق يبحث عن منقذٍ بعد أن انبثقَ رأسُه من لُجة الماء لآخر مرّة قبل أن يختفي نهائياً. وأخيراً لمحتُه، وهو يتكلّم مع النُّدُل بعيداً عن الجنينة. لا بدَّ أنَّهم يتحدَّثون عن تقديمِ الطعام عندما يحين الوقت بعد انتهاء الفرقة الموسيقية من عزفها فن الآلة وإنشادها المدائح النبوية.. ولم يكُن من اللياقة أن أقاطعه لأسأله عن فتاةٍ بين المدعوين.

يعمل صديقي سيدي محمد أستاذاً جامعياً، ولكنَّه مثقَّفٌ عضويٌّ لا يكتفي بإلقاء محاضراته على طلابه وتصحيح كراستهم وأوراق امتحاناتهم، بل له مبادراته الثقافية المختلفة في المجتمع، فهو يؤمن بأنَّ الثقافة أساسُ التنمية البشرية. وهذه الوليمة جزءٌ من مهرجان "الموسيقى الأندلسية" السنويِّ الذي أطلق باكورته تلك السنة.

والموسيقى الأندلسية هي الموسيقي الكلاسيكية، والغناء، والمدائح النبوية، في بلدان المغرب العربي التي حملها المسلمون المطرودون من الأندلس معهم. ولا تتقيَّد كلماتُها ومقاماتها بالأوزان الشعرية التي وضعها العبقري الخليل بن أحمد. ويؤدَّى ما بقي من نوباتها، بالآت موسيقية وترية كالعود والكمنجة، وأحيانا القَانون والرَّباب. وقد نشأت وتطورت في الأندلس وحملها المسلمون الذين طردهم الإسبان بعد سقوط الحكم الإسلامي إلى بلدان المغرب العربي. وتسمَّى الموسيقى الأندلسية في المغرب العربي بأسماء مختلفة بحسب المناطق، مثل موسيقى الآلة، والطرب الغرناطي، والصنعة، والمالوف. ولم تنتقل هذه الموسيقى إلى بلدان المشرق العربي، وإنَّما نجد في المشرق "الموشحات الأندلسية" التي نشأت وتطوَّرت في الأندلس كذلك بعد وصول الموسيقي زرياب (تلميذ إسحاق الموصلي) إليها سنة 822 م، فالموشَّحات الأندلسية فنٌّ شعريٌّ على وزنٍ مخصوص، وقد يستعمل اللغة الدارجة في خرجاته.

وأخيراً حانت لي فرصةٌ لأسال أخي سيدي محمد عن تلك الفتاة المُدهِشة. كنت آمُلُ أن يجيب على سؤالي: مَن هي؟! مَن هي؟! أو على الأقل يصحبني ويقدّمني إليها. ولكن سيدي محمد كثيراً ما يستعمل طريقة الفلاسفة الإغريق في تعليم طلابه، وقد طبَّقها معي ذلك اليوم، فسألني:

ــ "لماذا؟"
قلت:
ــ "لديّ إحساسٌ بأنَّني رأيتُها من قبل وتحدَّثتُ معها.
ــ اذهب إليها واسألها.
قلتُ معترضاً:
ــ كيف أكلّم فتاةً لا أعرفها؟
قال:
ــ "ها أنتَ تناقض نفسك: مرَّةً تُخبرني بأنَكَ رأيتَها من قبل، ومرَّة تقول إنَّكَ لا تعرفها!"
قلتً:
ــ "معرفتي السابقة بها مجرَّدُ إحساس، وقد لا أكون مصيباً."
ــ "اذهبْ واسألها، فهي لا تمانع أذا تحدَّثَ إليها مَن لا تعرفه. اذهبْ!"
ثمَّ انصرف سيدي محمد لشأن من شؤونه. وتركني وحيداً في حيرتي.
انتظرت حتى انتهت الفرقة الموسيقية من العزف. وحينذاك توجّهت نحوها ورأسها ما زال ينظر إلى الشمس الغاربة، وقد ألقت بظلالها على تقاسيم محياها فزادتها حسناً وجمالاً وحلاوة. وكأنَّ وجهها يخاطب الشمس قائلاً:

ـ "غيبي وأنا بَدلكِ. اهنئي.".
قصدتُها وَجِلاً بخطواتٍ متردّدة، وأنا أقدِّم رِجلاً وأؤخِّر أخرى. لم تنظر إليَّ وأنا متَّجهٌ نحوها، ولكن حالما اقتربت منها، تحوَّلت بكلِّ كيانها نحوي، وقد أشرق وجهها وتهلَّل بابتسامةٍ فرِحةٍ مُرحِّبة، وكأَنَّني حبيبٌ عزيزٌ عاد إليها من رحلةٍ عظيمةِ المخاطر. ابتسمتُ بدوري ابتسامةً حييةً مرتجفة، وبصعوبةٍ وبشفتَين جافتين مثل إسفنجة قديمة قلتُ:
ـ "السلام عليكم."
أجابت، وقد أطلّ صوتُها من بين شفتَيها ممزوجاً بالفرحةِ معجوناً بحلاوتهما:
ـ " وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته."
قلتُ بتلعثمٍ واستحياء:
ـ " آسف، آنستي، على تطفّلي. اسمي الدكتور سليم الهاشمي؟
ـ " تشرَّفتُ سيدي الدكتور. اسمي جميلة."
ـ " اسمٌ على مُسمَّى.! آنستي"
ـ " شكراً، سيدي"
وفي تلك الأمسية، اكتشفتُ بسهولةٍ تامةٍ أنَّها جميلةٌ خَلقاً وخُلقاً.
ـ " هل التقينا سابقاً، آنستي؟"
ـ "لا، مع الأسف."
قلتُ:
ـ " ولكن لدي إحساس مكين أنَّنا تقابلنا من قبل وأنّني أعرفك!"
قالت، وقد تفاقمت ابتسامتُها وعيناها إشراقا وترحيباً:
ـ "لعلَّكَ كنتً تعرف والدتي عندما كانت في مثل عمري؟"
ـ ومَن هي أُمُّكِ العزيزة؟
ـ الرسّامة فاطمة الزهراء. مندوبة وزارة الثقافة في الشمال.
وهنا شعرتُ بالمفاجأة، وبسذاجتي. لماذا لم أفترض أنّها تُشبه شخصاً أعرفه؟!
قلتُ:

ـ "صحيح، فأنتِ تشبهينها كثيراً. (وأضفتُ في دخيلة نفسي: أو كانت تشبهكِ) إنني لا أراها هنا؟ أين هي؟!"
ـ "إنها تضع اللمسات الأخيرة على "المتحف الإثنوغرافي " الذي اقترح سيدي محمد على وزارة الثقافة إنشاءَه في قصبة (قلعة) شفشاون، ويريدان افتتاحه غداً إن شاء الله بمناسبة مهرجان الموسيقى الأندلسية. ولذلك حملتْ من منزلها ومنزل سيدي محمد بعض القطع الأثرية والملابس التقليدية لاستكمالِ تأثيثِ المتحف. وقد تلتحق بنا هذه الليلة.
قلتُ:
ـ "ولماذا لم نلتقِ أنا وأنتِ من قبل، فأنا وأمُّكِ العزيزة نتزاور أحياناً؟"
ـ " لأنني أدرس في باريس."
ـ " وماذا تدرسين؟"
ـ " الموسيقى، وتخصُّصتُ في الموسيقى الأندلسية."

وبدأ طعام العشاء، ولم تصل أمُّها، فأسعدتني الاَنسة جميلة بجلوسها إلى جانبي وكأنَّها ألِفتْ في شخصي صورة الأب. واكتفيتُ بالنظر إلى جميلة ولم أتحدَّثْ ولم تتكلَّمْ. وتتالت الأطباق المغربية اللذيذة: البسطيلة التي لا توجد في العالم كلِّه إلا في المغرب، والدجاج المحمَّر على طريقة المطبخ المغربي، والحولي المشوي، ثمَّ الفواكه المغربية. وفي نهاية العشاء، أعطتني الآنسة جميلة ورقة كتبت فيها عنوانها في باريس ورقم هاتفها، وكأنَّها تقدّم طبق الحلويات الذي َ تُختَم فيه الوجبة مع الشاي بالنعناع.

في اليوم التالي رجعتُ إلى الرباط، وبقيتْ جميلة مع أمّها في شفشاون. ولكنّي كلّما رأيت أمّها في الرباط سألتُها عن أخبار الآنسة جميلة. وحالما أسألها عنها تتحدَّث عنها بإسهاب، فقد كانت فخورة بها. أخبرتني أنَّها متقدّمة في دراستها الموسيقية، لأنَّ الأمَّ علَّمتها العزف على البيانو منذ نعومة أظفارها. وفي مناسبة أخرى، اخبرتني أنَّ جميلة تتكلَّم بطلاقة أربع لغات: العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية، وهكذا.

كان عملي آنذاك يقتضي السفر مرَّة في الشهر على الأقل إلى دولٍ في إفريقيا وآسيا، وذلك قبل عصر تكنولوجيا الاتصال التي يسَّرت عقدَ الاجتماعات والمؤتمرات عن بُعد. وكان الاتحاد الدولي للنقل الجوي (الإياتا ) الذي تأسَّس بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945، بهدف توفيرِ نقلٍ جوي آمن، واتَّخذ من مدينة مونتريال في كندا مقرّاً له، ويضمُّ حالياً في عضويته أكثر من 290 شركة خطوط في 120 قطراً، قد راعى مصالح الدول الأوربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية التي أسسته وشركاتها الجوية. فعند تنظيم خطوط النقل الجوي، جعلت (إياتا) معظمَ الرحلات بين الشمال والجنوب، وليس بين الجنوب والجنوب. فإذا كنتَ في تونس مثلا، وعزمتَ على السفر إلى فريتاون أو كوناكري أو جاكارتا، فمن الأيسر والأسرع والأرخص لك أن تسافر إلى لندن أو باريس أو أمستردام أوَّلاً، ومن هناك تستقلُّ طائرةً متجهة مباشرة إلى المدينة التي تقصد؛ إذ لا تتوافر رحلات جوية مباشرة كثيرة بين تونس وتلك المدن التي تقصدها. ولهذا كانت مطاراتُ باريس محطةَ تغييرِ الطائرة في معظم رحلاتي. والتغيير قد يتمُّ بعد ساعة في المطار نفسه أو قد يستغرق بضع ساعات أو يوماً كاملاً. وهكذا كنتُ أسعد بلقاء الآنسة جميلة في باريس لتناول فنجان قهوةٍ أو وجبةٍ من الوجبات، والتحدُّث معها عن دراستها.

ذات يوم أخبرتني أمها فاطمة الزهراء أن ابنتها الآنسة جميلة قد تخرجت في كلّيتها، وأنها تعمل في فرقةٍ موسيقيةٍ باريسية، وأنها التقت أحد أعضاء تلك الفرقة، ويعتزمان الزواج قريباً. وأضافت:

" ولكنني لستُ موافقةً على هذا الزواج."

ـ " لماذا؟"

قالت:

ـ " لأنني التقيتُ بذلك الرجل، وتحدّثتُ معه عدَّة مرّات. ووصلتُ إلى رأي راجحٍ بأنه لا يصلح لابنتي. فهو ليس كفؤاً لها في السن، ولا في الثقافة، ولا في المكانة الاجتماعية، ولا في الأخلاق.".

وكانت تتكلّم بانفعالٍ واضح. قلت لها محاولاً تهدئتها:

ـ "إنَّ أولادنا خُلقوا لزمان غير زماننا، ومقاييسهم غير مقاييسنا. وهم أذكى منّا عندما كنا في مثل أعمارهم.

أضيفي إلى ذلك، عندما نرسل أولادَنا إلى أوربا أو أمريكا، لا تبقى لدينا
القدرة على توجيههم في قراراتهم، لاسيّما فيما يتعلّق بزواجهم."

بعد أكثر من عامَين، مررتُ بباريس وكان لدي أزيد من 40 ساعة من الانتظار، وفكّرتُ في الاتصال هاتفياً بجميلة

لمجرَّد السلام عليها. اتصلتُ بها، فوصلني صوتها فرحاً متهللاً مرحباً، وأخيراً قالت بإصرار:

ـ "ستتناول طعام العشاء معنا. فنحن نحتفل هذه الليلة بعيد ميلادي. وستلتقي بابني مولاي إدريس وبزوجي. سآتي بسيّارتي لاصطحابك، فشقتنا ليست في باريس بل في إحدى ضواحيها." (والمغاربة يضعون كلمة "سيدي" قبل كل مَن اسمه "محمد"، إكراماً للرسول (ص)، وكلمة "مولاي" قبل كل مَن اسمه إدريس، إكراماً لمؤسِّس دولة الأدارسة في المغرب سنة 788م، الإمام إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب، رضوان الله عليهم).

وصلت جميلة إلى المقهى الذي كنتُ أنتظر فيه قبيل الغروب، وصحبتني بسيّارتها إلى شقّتها. وهناك رأيتُ ابنها الصغير، وزوجها، وثلاثة من زملائه الموسيقيين، وثلاثَ شابات فرنسيات، قدَّمتهن جميلة إليّ بوصفهن من طالباتها في دروسها الخصوصية للرقص الشرقي. وكان معظمهم يتناول عصير الفواكه المعلب ما عدا زوج جميلة وأحد الموسيقيّين يتناولان النبيذ الفرنسي.

وبدأ الموسيقيون بالعزف. وحتى مولاي إدريس الصغير كانت أمامه دربوكة صغيرة يضرب عليها مرَّةً بيدٍ واحدة ومرَّةً بيدَيْه كلتيهما، وينظر إلى أمِّه بين الفينة والأخرى وهو مبتهج كأنه يُريها مهارَته الموسيقية. وراحت الفتيات الفرنسيات يتمايلن في جلستهن حتى أشارت إليهن جميلة بالرقص فانبرين يظهرن ما يُتقنَّ من الرقص الشرقي. وكان جميع الحاضرين بين عازف وراقص إلا أنا، فقد كنتُ عاطلاً.

في فترة الاستراحة، كان زوج جميلة ونديمه الموسيقي الآخر يواصلان شرب النبيذ، ويتحدثان. وأخذ صوتُ زوجِ جميلة يرتفع شيئاً فشيئاً، واحمرَّت عيناه، حتى تأكَّد لي إنه قد ثمل وكشفت الخمرةُ عن حقيقة طبيعته العدوانية، أو كما يقول المثل اللاتيني: " الحقيقة في النبيذ" ويقابله المثل العربي " الكأس تتكلّم عني". وهنا ارتأيتُ أن أنسحب من الحفل. فالتفتُ إلى جميلة هامساً لها:

ـ " شكراً عزيزي، حضرتُ لكيلا أرفض دعوتكِ الكريمة، فلدي التزام آخر الآن. "
ثمَّ نهضتُ ملوِّحاً لبقية الحاضرين مودِّعاً. ولم تعترض جميلة، وكأنَّها أدركتْ قصدي. ونزلتُ وحدي إلى الشارع أبحث عن سيّارة أجرة.

بعد بضعة شهور هاتفتني فاطمة الزهراء قائلة إنّها تودُّ أن تراني لأمرٍ مستعجل. حضرت إلى منزلي وهي في حالة يُرثى لها من الغضبِ والانفعال. وأخبرتني أنَّ زوج جميلة ألقى بها وبابنها في الشارع في ساعة متأخرة من الليلة البارحة، حتى من دون أن يسمح لها بتغيير منامتها، أو تأخذ أي شيءٍ من النقود معها. وأنَّها أمضت الليل لدى إحدى جاراتها التي سمحت لها باستعمال هاتفها لتتصل بأمِّها. ونظراً للقيود الوطنية على تحويل العملة فإن فاطمة الزهراء تتساءل ما إذا بقي معي من سفراتي السابقة بعض العملة الصعبة لتشتريها مني، وتبعث بها مع أحد أصدقائها المسافرين إلى باريس لإيصالها لابنتها جميلة.

فكرتُ قليلا وأنا أرد في نفسي المثل العربي " الصديق عند الضيق"، ثم قمتُ إلى مكتبي وأخرجتُ دفتر شيكات، وحرَّرتُ فيه مبلغ خمسة آلاف فرنك فرنسي، وسلَّمته إليها، قائلاً:

ـ " هذا ما بقي لي من حسابي المصرفي في باريس عندما كنتُ أدرس هناك".
قالت بشيء من الارتياح:
ـ "وكم يساوي بالدرهم لأردنَّه؟"
قلتُ:
ـ " إنه هدية صغيرة لمولاي إدريس."
شكرتني وخرجت مسرعة.

وبقيتُ أتابع أخبار جميلة التي سرعان ما تغلّبت على أزمتها، وتفرّغت لتربية ابنها، وتطوير عملها، ومواصلة دراستها. وبعدما انتقلت جميلة إلى جامعة مدريد في إسبانيا ثم إلى جامعة غرناطة لإنجاز الدكتوراه في الموسيقى الأندلسية، زارتني وأمُّها وابنها الصغير في منزلي ذات مرَّة للبحث في مكتبتي عن كتب عن الثقافة الأندلسية، وحملت معها كتاباً أو كتابَين، وحمل ابنها دُميةَ أو دُميتَين.

وفي سنة 1994، وصلتني دعوة من مهرجان مدينة فاس السنوي للموسيقى الروحية والعريقة، وهي تحمل شعار المهرجان: (من الروح إلى الروح، تشجيعاً لحضارة الانفتاح والحوار بين الثقافات)، انطلاقاً من التسامح الذي ساد الأندلس إبان الحكم الإسلامي. وقد شارك فيه كبارُ المطربين العالميِّن والفرقُ الموسيقية الشهيرة. وقد سعدتُ بالاستماع إلى وصلات الدكتورة جميلة الغنائية التي أدتها على موسيقى طاقمها. ثمَّ نزلتْ من المسرح، واتجهت إليَّ لتسلم عليَّ وتهدي إليَّ نسخة من قرص تلك الأغاني الأندلسية الذي وقَّعتْه بنفسها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى