الأحد ٢٩ أيار (مايو) ٢٠١١
الجديدة تحاورُ الشّاعرة والأديبةُ سعاد قرمان
بقلم آمال عواد رضوان

الأديبَ والشّاعرَ لا يُمكنُ أن يُقيّدَهُ إطارٌ

  كيف كانت النّشأةُ والبداياتُ والانطلاقةُ المرصّعةُ بالإبداع؟
 وُلدتُ سنة 1927 في حيفا لعائلةٍ محافظةٍ، انتقلتُ من مدينةِ نابلس في بدايةِ القرنِ العشرين، وكانت حيفا في فورةِ انطلاقتِها للتّوسّعِ والازدهارِ، وقد أخذتْ مركزًا تجاريًّا مُهمًّا بعدَ الحربِ العالميّةِ الأولى، كحلقةِ وصْلٍ بينَ بلدانِ الشّرقِ الأوسطِ؛ سوريا، العراق، لبنان، الأردنّ ومصر، وامتدَّ فيها خطُّ قطارٍ للشّام ومصرَ والسّعوديّةِ، ونتيجةً لانتصارِ بريطانيا وفرنسا في الحربِ العالميّةِ الأولى، واحتياجِ الجيشِ لمواصلاتٍ سريعةٍ تَنْقُلُ مُعِدّاتِهِ وأفرادَهُ، بُذلتِ الجهودُ نِهايةَ سنة 1918 لإنهاءِ امتدادِهِ، بينَ هذهِ الدّولِ الّتي أصبحتْ تحتَ الانتدابِ الإنكليزيِّ الفرنسيِّ، طِبْقًا لمعاهدةِ سايكس بيكو الشّهيرةِ، والّتي قطّعتْ أوصالَ بلدانِ الشّرقِ الأوسطِ، وهيّأتْ لتوطينِ يهودِ أوروبّا والعالمِ في فلسطين.

في هذا الجوِّ ترعرعتِ الطّفلةُ، لأبٍ يعملُ بالتّجارةِ مع أخيهِ الأكبرِ منهُ سنًّا، وأمٍّ مِن عائلةِ بدران الّتي عبقتْ حياتُها بروحِ الفنِّ والعِلمِ، يُحيطُها جوٌّ من التّديُّنِ والأصالةِ الوطنيَّةِ. كانَ بيتي جزءًا مِن بيتِ العائلةِ المُوسَّعةِ، وقد توزّعتْ في ثلاث طوابق من بيتٍ كبيرٍ، تحيطُه حديقةٌ واسعةٌ يرعاها بستانيٌّ تدرّبَ في حدائقِ البهائيّينَ، وكانتْ جدّتي لأبي ذاتَ شخصيّةٍ قويّةٍ، رعَتْ أسرَتَها بعدَ وفاةِ زوجِها بحزْمٍ امتزجَ بالحنانِ والحكمةِ، فنالتِ الطّاعةَ والاحترامَ مِن الجميعِ، خصوصًا مِن ولَدَيْها اللّذَيْنِ تقاسَما العملَ والمسؤوليّةَ في كلِّ مناحي الحياةِ، لكلٍّ منهما طابقٌ في البيتِ لزوجتِهِ ولأولادِهِ، كذلكَ للجدّةِ أمِّ الجميعِ مع ابنتيْنِ من العمّاتِ الأراملِ وبناتِهما.

كانتِ الرّعايةُ وصِلَةُ الرّحمِ، والتّعاونِ في العملِ قانونًا سائدًا في حياةِ الأسرةِ الكبيرةِ المُتآلفةِ، وكنّا نأكلُ على مائدةٍ واحدةٍ، لم نعرفْ فَرْقًا بينَ أمٍّ وخالةٍ وجدّةٍ وعمّةٍ، كنّا نطلبُ حاجتَنا ممّنْ تيسَّرَ أمامَنا، وكانَ الجميعُ يُلبّي طلباتِ الجميعِ بما يقدرُ عليهِ في نطاقِ مسؤوليّتِهِ.

كانَ العمُ الكبيرُ عميدَ العائلةِ المخطِّطَ للأعمالِ عامّةً، وذا مركزٍ اجتماعيٍّ وطنيٍّ مرموقٍ، وكانَ الأبُ كابنٍ لهُ، يساعدُهُ ويُنفّذُ طلباتَهُ، وعليهِ الاتّصال بأفرادِ العائلةِ وبالتّفقّدِ والزّياراتِ وصِلةِ الرّحمِ في الأعيادِ والمناسباتِ.

بعيدًا عن هذا الجوِّ كانَ الطّرفُ الأكثرُ تأثيرًا في نفسيّتي وروحِي هو بيتُ جدّتِي لأمِّي القائمِ في الحيِّ ذاتِهِ، على بُعدِ أميالٍ قليلة من بيتِي، وكانَ الجدُّ رحمَهُ اللهُ كاتبًا في المحكمةِ الشّرعيّةِ، ربّى أولادَهُ وأبناءَهُ على العِلمِ والتّقوى، وتُوفّيَ تاركًا الحِملَ على أرملتِهِ، وكانتْ خيّاطةً ماهرةً، وابنُهُ الأكبرُ الّذي عُيّنَ مُدرِّسًا، اهتمَّ بتعليمِ إخوتِهِ الثّلاثة ورعى مواهبَهم؛ فتخصّصَ أحدُهم وهو جمال بدران في كلّيّةِ الفنونِ التّطبيقيّةِ في القاهرةِ وبرزَ فيها، وأرسلَ في بعثةٍ إلى لندن حيثُ قضى أربعَ سنواتٍ، وعادَ فنّانًا مبدعًا في الزّخرفةِ الشّرقيّةِ والخطِّ الكوفيِّ، ومختلفِ فنونِ الزّخرفةِ والنّحتِ على الخشبِ والجِلدِ وغيرِهِ، وتخصّصَ الثّاني خيري بالنّسيجِ في ألمانيا وبرعَ في الحياكةِ والزّخرفةِ، أمّا الثّالث عبد الرّزّاق فتخصّصَ بالتّصويرِ الفوتوغرافيِّ بأنواعِهِ، كذلكَ إحدى أخواتِهِ نهيزة تخصّصتْ بالتّعليمِ واستلمتْ إدارةَ مدرسةٍ حكوميّةٍ، حيثُ نلتُ تعليمي الابتدائيَّ.

أمّي كانت البنتَ الكبرى، وأختُها الأصغرُ سنًّا تزوّجتْ قريبَها الصّيدليَّ في الأردنّ، وربّتْ أبناءَها على التّكلّم فيما بينهم بالعربيّة الفصحى مما كانَ يُثيرُ استغرابَنا كلّما التقيْنا بهم، أمّا الخالةُ الصّغرى فقد تلقّتْ تعليمَها الثّانويَّ سنة (1925) في المدرسة الإنجليزيّةِ العليا في حيفا، وكانتْ في حينِها أرقى مدرسةٍ عليا للبنات، تُضفي على طالباتِها الثّقافةَ الأوروبيّةَ والنّظامَ الإنكليزيَّ واللّمساتِ الفنّيّةَ في كلِّ ما يتعلّقُ بالبيتِ والحياةِ.

بينَ هذيْنِ البيتيْنِ نَمَوْتُ، وفي جوِّ التّوتّرِ العامِّ اكتسبتُ إحساسًا بما يدورُ حولي مِن هجرةٍ يهوديّةٍ وتَحَرُّكِ المُقاومةِ العربيّةِ وأخبارِ الثّوّارِ في الجبالِ، وقد كانَ بيتُ العائلةِ الحدَّ الفاصلَ بينَ الأحياءِ العربيّةِ والهدار، أي منطقةِ اليهود، وكنتُ أسمعُ أناشيدَهم الحماسيّةَ في المسيرةِ العمّاليّةِ الّتي كانتْ تسيرُ في الشّوارعِ ليلاً حاملينَ المشاعلَ، ولم أكنْ بالطّبعِ أفهمُ ما ينشدونَ “قاديما هبوعيل”، أي إلى الأمام أيُّها العاملُ، وكانَ الأمرُ غريبًا يُثيرُ توجُّسًا في النّفسِ ممّا قد تأتي بهِ الأيّامُ، وفي سنة (1936) أضربتِ الأوساطُ العربيّةُ إضرابَها الشّهيرَ لستّةَ أشهرٍ، ولم أكنْ قد أنهيتُ تعليمي الابتدائيَّ.

كانَ العمُّ في إقامةِ شِبهِ جبريّةٍ بعيدًا عن التّعسّفِ في معاملةِ قادةِ الثّورةِ ضدّ الإنكليزِ، إذ نُفِيَ ومجموعةٌ إلى سيشيل، وصادفَ أن كانَ العمُّ في بيروتَ، فأوعزَ إليهِ بعضُ الأصدقاءِ البقاءَ هناكَ، لأنَّ اسمَهُ كانَ مُدْرَجًا في قائمةِ المنفيّينَ وحفظًا لسلامتِهِ، وقد كانَ عضوًا في بلديّةِ حيفا وعضوًا في الجمعيّةِ الإسلاميّةِ فرع حيفا الّذي تأسّس سنة (1928).

  نموتُ بينَ بيتي]ن في الوطن! هل تقصدين أنَّ ما حصلَ مِن تغيّراتٍ، لم يؤثّرْ على وجودِكم كعائلة؟
 بين السّنتين (1937- 1938) انتقلتُ مع أمّي وإخوتي إلى بيروت، لكن أبي بقيَ في حيفا في المحلِّ التّجاريِّ مع بعضِ الشّبابِ للمحافظةِ على الرّزقِ، وقد اشتعلتِ الثّورةُ والاضطراباتُ ضدَّ الإنكليزُ احتجاجًا على وعدِ بلفور بتحقيقِ وطنٍ قوميٍّ لليهودِ في فلسطين. تعلّمتُ في هذه السّنةِ في بيروتَ في مدرسةِ الآنسةِ أمينة المقدسيِّ الابتدائيّةِ، ثمّ قرّرتِ العائلةُ العودةَ إلى حيفا، ولعلّ الطّرقَ البرّيّةَ لم تكنْ آمنةً، فسافرْنا بحرًا من بيروت إلى حيفا، بباخرةٍ لم تكن للرّكّابِ، بل بابور صغيرٍ للشّحن، وكانتْ تشحنُ يومَها قطيعًا من الغنمِ، حُشِرَ في الطّبقةِ السّفلى من السّفينةِ، وكانتْ مكشوفةً تسمحُ للأغنامِ بالتّنفّسِ، وجلستِ العائلةُ على سطح السّفينةِ، وكانَ يومَها ربيعيًّا جميلاً أشبه بنزهةٍ ما بينَ ميناءَيْ بيروت وحيفا.

 بعدَ هذا المشوارِ المُضني وعناءِ التّرحالِ بينَ حيفا وبيروت، هل عُدتم إلى مسكنِكم الأصلي؟ وكيفَ استطعتِ مواصلةَ تحصيلِك العلميِّ في ظلِّ هذه الظّروف؟
 استأجرْنا بيتًا في حيِّ الألمانيّة، لصعوبةِ السّكنِ في البيتِ القديمِ المُلاصقِ للحيِّ اليهوديِّ، هنا درستُ لسنةٍ واحدةٍ في مدرسةِ راهباتِ الكرميليت بحيفا، وتلقّيتُ مبادئَ اللّغةِ الإيطاليّةِ سنة (1940)، وكانتِ القلاقلُ لا تزالُ سائدةً، فاقترحَ أخي أنْ أذهبَ لمدارسَ غزّةَ مع أختي وأخي الأصغرَ سنًّا، لننالَ تعليمًا أفضلَ في مدارسِها الحكوميّةِ، حيثُ كانتْ خالتي قد عُيّنتْ مديرةً في مدرسةِ البناتِ وخالي أستاذًا هناك، وهكذا حظيتُ بمعلّمةِ اللّغةِ العربيّةِ الآنسة عصام الحسيني، وكانتْ مُدَرِّسةً عظيمةً تُحبُّ اللّغةَ والأدبَ، وتغرسُ محبّتَها في نفوسِ طالباتِها، وكانَ جوُّ المدرسةِ وطنيًّا، ننتظمُ كلَّ صباحٍ فننشدُ الأناشيدَ الوطنيّةَ: “نحن الشّباب”، “موطني”، وغيرها ممّا قوّى الرّوحَ العربيّةَ في نفوسِ الطّلاّبِ، وكنتُ مراهقةً في الثّالثة عشر من عمري، فتأجّجتْ روحي بحبِّ الوطنِ واللّغةِ العربيّةِ والشّعرِ الأصيلِ ممّا حفظتُهُ من المعلّقاتِ وغيرِها مِن الشّعرِ القديم، كما كانَ برنامجُ غزّة يشملُ نشاطاتٍ مهنيّةً إلى جانبِ التّعليمِ النّظريِّ، فكانتْ هناكَ حصّةٌ للتّدبيرِ المنزليِّ مِن طبخٍ وغسيلٍ وكيٍّ، وكانتْ حصّةٌ للتّطريزِ والأشغالِ اليدويّةِ، إضافةً إلى الرّياضةِ والأناشيدِ والقرآنِ الكريمِ والدّين الإسلاميِّ، وقد تقرّرَ في تلكَ السّنة (1940) إقامةُ مباراةٍ بينَ صفوفِ الثّوامنِ مِن المدارسِ الحكوميّةِ للبناتِ، وهكذا انهمكتُ مع بناتِ صفّي في إعدادِ برنامجِها للمباراةِ، فكانَ هناكَ قطعٌ مطرّزةٌ منتقاةٌ، وتدرّبتُ على طبخِ صينيّةِ كبّةِ البطاطا، كما دأبتُ على حياكةِ بساطٍ مِن الصّوفِ الملوّنِ على نسقِ بساطِ غزّة الشّهيرة، وفي نهايةِ السّنةِ الدّراسيّةِ أُرسلتِ الأشغالُ اليدويَّةُ معَ المعلّمةِ المختصّةِ ومعي، لأقومَ بطبخِ كبّةِ البطاطا، والجميلُ أنّنا حُزنا على المكانةِ الثّانيةِ بينَ تطريزٍ وحياكةٍ وطبخٍ، ولا أذكرُ أيّة مدرسةٍ نالتِ الدّرجةَ الأولى.

 ما مدى استعداد الأهل لتقبّلِ فكرةِ تعليمِ بناتِهم آنذاك؟ وهل عانتِ الشّابّةُ سعاد مِن هذا الجانب؟
 كانَ مِن المفروضِ في السنة التالية أن أنتقلَ إلى دار المعلّماتِ في القدسِ للتّعليمِ الثّانويِّ والتّخصّصِ كمعلّمةٍ، ولكن العائلةَ لم تعجبْها فكرةُ إرسالِ ابنتِها للدّراسةِ بعيدًا عن البيتِ، ففضّلتْ أن أكملَ تعليمي الثّانويَّ في ثانويّةِ راهباتِ النّاصرةِ في حيفا، وكانَ لهذا التّنقّلِ بينَ جميعِ هذهِ المدارسِ ميزةُ اقتطافِ ثمرةِ حضاراتٍ وأساليبَ مختلفةٍ، فقويتْ لغتي العربيّةُ في غزّة، والإنكليزيّةُ في بيروت، والفرنسيّةُ الّتي تعلّمتُها في راهباتِ النّاصرةِ، عدا المهاراتِ المختلفةِ كالتّطريزِ والحياكةِ والتّدبيرِ المنزليِّ والرّياضةِ، وكدتُ أبدأ العزفَ على الكمانِ، لولا أنّ المعلّمَ كانَ رجلاً، فلم يسمحْ لي أبي أن أحقّقَ هذا الحلمَ.

 ما بين زواجٍ وشغفِ القراءةِ، كيفَ انعكسَ زواجُكِ على حسِّكِ الإبداعيّ؟
 في سنِّ السّادسة عشرة تزوّجتُ ولم أنجبْ أطفالاً حتّى سنّ العشرين، فكنتُ أقضي معظمَ وقتي في المطالعةِ، وقد شغفتُ بأسلوبِ طه حسين، وكنتُ أقرأ كلَّ ما يصلُ إليّ مِن كتبِهِ، كذلك توفيق الحكيم وجبران، وغيرهما من كتّابِ وشعراءِ تلكَ الفترةِ، كما شغفتُ بشعرِ نزار قبّاني الّذي انتهجَ أسلوبًا مغايرًا عن الشّعر التّقليديّ، وكذلك قرأتُ شعرَ المهجرِ مثلَ إيليّا أبي ماضي وغيره، وكنتُ أقرأ لهم وأتأثّرُ بهذهِ الأساليبِ المختلفةِ، ممّا انعكسَ في شعري الّذي بدأتُ أكتبُهُ في تلكَ السّنين ولا أنشرُهُ، فهو بوحُ الرّوحِ والمشاعرِ الخاصّةِ، أكتبُهُ للتّنفيسِ عن قلقٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ كانَ يسودُ بلادِنا منذُ تلكَ السّنواتِ وما زال.

 ما هو أثرُ الاحتلالِ على الثّقافةِ الفلسطينيّةِ، وأينَ وصلتْ الحالةُ الثّقافيّةُ في ذلك الوقتِ؟
 فرضتِ سلطاتُ الاحتلالِ قانونَ التّعليمِ الإلزاميِّ في المدارسِ الابتدائيّةِ في تلكَ السّنواتِ العجافَ، إذ هاجرَ معظمُ المثقّفونَ إلى البلدانِ العربيّةِ المحيطةِ بفلسطينَ هجرةً مؤقّتةً كما كانوا يظنّونَ، ما دفعَ كلَّ حملةِ الشّهاداتِ حتّى الابتدائيّة إلى سلكِ التّعليمِ، وهكذا انخرطتُ في التّعليمِ في مدرسة إبطن الابتدائيّةِ القريبةِ من بيتي، كما واصلتُ دراستي للتّكملةِ في شهادتي حتّى نلتُ شهادةَ البكالوريوس في تعليمِ اللّغةِ الإنكليزيّةِ من كلّيّةِ أورانيم لتأهيلِ المعلّمينَ، وتابعتُ حتّى سنة (1990) عندما تقاعدتُ وحوّلتُ نشاطاتي للأدب والنّشاطِ الاجتماعيِّ.

 مِن أينَ أتتْ فكرةُ التحاقِك بالنّشاطِ النّسويّ؟
 في سنواتِ السّتّينيّاتِ تعرّفتُ إلى السّيّدةِ نزهة قصّاب رئيسةِ القسمِ النّسائيِّ العربيِّ في الهستدروت، وكانتْ تبحثُ عن نشيطاتٍ عربيّاتٍ للعملِ معها في النّوادي النّسائيّةِ الّتي أُنشئتْ في القرى والبلداتِ العربيّةِ لتوعيةِ المرأةِ وتثقيفِها، فرحّبتُ بالفكرةِ، وساهمتُ بشِعري ومحاضراتي التّربويّةِ عن حقوقِ المرأةِ، وأهميّةِ العلاقةِ بينَ البيتِ والمدرسةِ في تعليمِ وتربيةِ الأطفالِ، وعن مكانةِ المرأةِ في المجتمعِ وأهمّيّةِ تعليمِها لتحسينِ وضعِ الأسرةِ، وبالتّالي الأمّةِ كلِّها إلى آخرِ المواضيعِ الّتي كانَ المجتمعُ بأمَسِّ الحاجةِ لها.

 لكِ أنشطةٌ على الصّعيد الإعلاميِّ والثّقافيِّ، مِن أيّةِ بوّابةٍ دخلتِ سِلكَ الإعلامِ؟
 بدايةً، تولّيتُ رئاسةَ تحريرِ مجلّةِ كلمةِ المرأةِ الّتي كانتْ تُوزّعُ على عضواتِ النّوادي النّسائيّةِ، كما تعرّفتُ إلى محرّرِ جريدةِ اليوم نسيم رجوان، والّذي اقترحَ عليّ تحريرَ صفحةٍ للمرأةِ والأسرةِ في الجريدةِ، وهكذا بدأتُ أولى خطواتي في الصّحافةِ، فشاركتُ في برنامجِ قضايا المستمعاتِ في ركنِ المرأةِ في الإذاعةِ، وافتتاحِ التّلفزيونِ اشتركتُ في برامجِهِ الثّقافيّةِ والاجتماعيّةِ العربيّةِ، من خلالِ “قضية تَهُمُّك” و”عندي سؤال”، حتّى بدؤوا بإدخالِ أسئلةٍ سياسيّةٍ، واستعمالِ كلمةِ “مخرِّبينِ” عن أعمالِ المقاومةِ الوطنيّةِ، فتركتُ البرنامجَ، واقتصرتُ على برنامجِ الأسرةِ الاجتماعيِّ حتّى سنة (1990) حين تقاعدتُ، واقتصرَ نشاطي على الشِّعرِ والثّقافةِ والمسرحِ.

 عاصرتِ النّكبةَ وتبعاتها، برأيكِ ما أثرُ النّكبةِ على الحِسِّ الشّعريِّ لدى شعراء تلكَ الحقبة؟
 أثّرتِ النّكبةُ ومأساةُ شعبِنا الفلسطينيِّ تأثيرًا عميقًا في شِعرنا وأدبِنا المحلّيِّ، فغمرَهُ الغضبُ والثّورةُ واللّوعةُ والحنينُ، وبرزَ بتأثيرِ الحزبِ الشّيوعيِّ كُتّاب وشعراء محلّيونَ كسروا الطّوقَ المفروضَ علينا مثل إميل حبيبي، محمود درويش، سميح القاسم وغيرهم ، لكنّنا عزْلنا عن أهلِنا وجيرانِنا مِن الدّولِ العربيّةِ.

 ما أثرُ التّعدّديّةِ الحزبيّةِ السّياسيّةِ على المسيرةِ الثّقافيّةِ؟ وما مدى تأثّر الأدباء بهذهِ التّعدّديّةِ؟
 لم أومنْ بالحزبيّةِ السّياسيّةِ وإن آلمَني انشطارُ الأدباءِ بفعلِ الأحزابِ السّياسيّةِ، وكنتُ قد تعرّفتُ خلالَ أيّام دراسيّةٍ أدبيّةٍ في تل أبيب إلى كثيرٍ من أدبائِنا مثل راشد حسين، فوزي جريس عبد الله، جمال قعوار، د. فهد أبو خضرة، المرحوم مؤيّد إبراهيم، سليم شعشوع، توفيق فيّاض وغيرهم، ونشرتُ شعري في المجلاّتِ المحلّيّةِ.

 مِن ناحيتِكِ، كيف تمكّنتِ مِن تجاوزِ الاختلافاتِ السّياسيّةِ والأيديولوجيةِ، مع كتّاب وأدباءَ من توجّهاتٍ أخرى قد تتناقضُ مع تصوّراتِكِ؟
 في هذهِ السّنواتِ نَمَتْ صداقةٌ واحترامٌ متبادلٌ بيني وبينَ كافّةِ أدبائِنا وشعرائِنا مهما اختلفْنا في مواقفِنا، ولم يؤثّرْ هذا على الهدفِ السّامي الّذي نضعُهُ جميعًا نُصبَ أعينِنا، ومِن هذا الصّراعِ في المواقفِ انطلقتْ نظرةٌ ساميةٌ مخْلصةٌ للغتِنا وهُويّتِنا وحَقِّنا في الحياةِ بكرامةٍ، والتّعبيرِ عن هذا كلِّهِ بلغةٍ عربيّةٍ فصيحةٍ صريحةٍ صادقةٍ مهما اختلفتِ الأساليبُ وتبايَنَ التّعبيرُ.

 اعترضتْ عائلتُكِ على دراستِكِ في القدس في بداياتِكِ، فما مدى اعتراضها على التحاقِكِ بالعملِ بأنشطتِكِ الّتي ذكرْتِها، خاصّةً وأنّكِ انتقلتِ مِن المنبرِ العائليِّ إلى المنبرِ العامّ؟
 خلالَ هذا التّسلسلِ في العملِ الصّحافيِّ والإذاعيِّ والنّشاطِ الأدبيِّ والاجتماعيِّ والتّعليميِّ، كانَ لي مُطلَقُ الحرّيّةِ في التّصرّفِ واتّخاذِ القراراتِ، ولم تعترضْ عائلتي أو زوجي على ذلك، بل على العكس، كانَ عملي مبعثَ اعتزازٍ وفخرٍ لزوجي وأولادي وعائلتي كلِّها، وقد أقنعتُهم أنّ الأهميّةَ ليستْ بالمنبرِ الّذي أبُثُّ منهُ أفكاري، وإنّما للأفكارِ الّتي أبثُّها بما أقدِّمُهُ لشعبي وبناتِ وطني مِن خلالِهِ، وأن أكونَ أمينةً عليهِ، خيرٌ ممّا لو أُعطِيَ لأشخاصٍ قد لا يستغلّونَهُ ضدَّ مصلحةِ مجتمعِنا وأمّتِنا، كما أنّهُ لم يكنْ في ذلك الحينِ إذاعاتٌ محلّيّةٌ سوى الرّسميّةِ، فحافظتُ دائمًا على احترامي لهُويّتي، سواءً في التّعاملِ مع التّلفزيونِ الإسرائيلي أو سائرِ وسائلِ الإعلامِ، إذ آمنتُ دائمًا أنّهُ لا احترامَ لمن لا يحترمُ نفسَهُ وأصلَهُ.

 ما مدى تأثّركِ بأجنداتِ المنبرِ العامّ، خصوصًا وأنّ هذا المنبرَ يسعى لإبرازِ وتعميقِ ثقافةٍ أخرى، تتعارضُ كلّيًّا مع ثقافتِكِ الوطنيّةِ؟
 لم يتعاملْ أيٌّ مِن هذه المنابرِ إلاّ باحترامٍ وتّقديرٍ والحمد لله، ذلك أنّي لم أتملّقْ أحدًا، ولم أقدِّمْ ولاءً رخيصًا بغيةَ الحصولِ على مركزٍ أو وظيفةٍ، إذ حرصتُ على مستقبلِ أطفالي ووضْعِ عائلتي، فلم أتطرّفْ في تصرّفاتي، بل التزمتُ بالمطالبةِ بحقِّنا وكرامتِنا في وطنِنا دونَ شعاراتٍ أو إسفافٍ، وعبّرتُ عن مواقفي بصراحةٍ في شعري ومحاضراتي، لكنّي تجنّبتُ في عملي كمعلّمةٍ ما يمكنُ أن يُدينَني أو يَمسَّ وطنيّتي، لقد كانتْ سنواتٌ صعبةٌ للغايةِ، ولكنّنا حافظنا على هُويّتِنا وثقافتِنا العربيّةِ ولا نزالُ.

 هناكَ تغيّراتٌ فرضتْ نفسَها على الواقعِ الفلسطينيِّ، كيفَ أثّرَ الاحتلالُ على النّسيجِ الفلسطينيِّ العربيِّ بكافّةِ مسمّياتِهِ؟
 لقد مرّتِ العائلاتُ الكبيرةُ بظروفٍ قاسيةٍ، إذ صودرتْ أراضيها وممتلكاتُها، ممّا هزّ كيانَها وسلطتَها، وفُرضتْ شروطٌ صعبةٌ في القرى، ما دفعَ الشّبابُ للعملِ في الصّناعاتِ والبناءِ في المدن اليهوديّةِ، كعمّالٍ يكدحونَ نهارًا ويُنفقونَ أجورَهم على بنات الهوى ليلاً، وينامونَ في أماكنِ عملِهم ليعودوا إلى القريةِ في الأعيادِ أو نهايةِ العمل، فبدأتْ عمليّةُ غسلٍ للدّماغ وانبهارٍ بمدينةٍ زائغةٍ زائفةٍ، ما خلقَ تفسّخًا في الحياة العائليّةِ، وأوجدَ فجوةً بينَ عقليّةِ المرأةِ الّتي بقيتْ في القريةِ، وبينَ الرّجلِ الّذي انتقلَ بمعظمِ وقتِهِ وتفكيرِهِ ولغتِهِ إلى الأجواءِ اليهوديّةِ. ولمقاومةِ وتصحيحِ هذهِ الأوضاعِ المُزريةِ، تضاعفَ الحِمْلُ على المُثقّفينَ قولاً وفعلاً، واضطرّهم إلى تكثيفِ محاضراتٍ تثقيفيّةٍ وندواتٍ أدبيّةٍ، وواجبِ تشجيعِ المرأةِ والفتاةِ على استكمالِ تعليمِها الجامعيِّ، والعملِ خارجَ القريةِ وعدمِ انسياقِها في تقليدِ المُغرياتِ مِن سلوكٍ ومَلبسٍ مسيءٍ إلى حضارتِها وأصالتِها.

 تتحدّثينَ عن هذا الانفتاحِ على المدينةِ، فيما يتعلّقُ بعائلتِكِ وبأهالي القرى، ما حجمُ تأثّرِها بالواقع الجديدِ ومنه؟
 انتقلتْ عائلاتٌ كثيرةٌ مِن القريةِ إلى المدينةِ، ممّا شكّلَ خطرًا كبيرًا على الأرضِ الّتي أُهملتْ وتعرّضتْ للمصادرةِ، أمّا عائلتي فقد بقيتْ في مزرعةِ إبطن مع معظمِ أفرادِ عائلةِ قرمان، وانصبّتِ الجهودُ على المحافظةِ على رعايتِها بعد أن نُهِبتِ المَحلاّتُ التّجاريّةُ في حيفا، وكثيرٌ مِن الإخوة هاجروا إلى أمريكا للعِلم، والباقون حاولوا سدَّ فراغِ هذا الوضعِ الصّعبِ، وما خلّفَهُ مِن ألمٍ في قلوبِ كبارِ السّنِّ، ما أثارَ في قلبي لوعةً سجّلتُها في حينِها بقصيدةِ “البيت المهجور”:

“حانَ الرّحيل أميمتي، وطوى أحبّتنا المتاعَا/ وطَوَوْا به أفراحنا، وتحدّر الدّمع التياعَا”.

 مسحةٌ مِن الحزنِ طغتْ على أشعارِ السّيّدة قرمان وقصائدِها وكتاباتِها، ما مساحتُها؟
 كانَ مِن الطّبيعيِّ أن تطغى مسحةُ الحزنِ على شعري كلِّهِ، لكن ممزوجًا بروحِ التّحدّي والأملِ، كما في قصائد “البعثِ، أنا والتّتار، تحمّلْ، مَن أنا، زهرةٌ ورمالٌ” مِن مجموعتي الشعريّةِ “حنين الهزار”، وقصائد “غريبٌ في ديار أبي وجدّي، قانا، طفولة، نشيد الانتفاضة، من مجموعتي الشعريّةِ الثّانيةِ “عريشة الياسمين”.

 رغمَ كافّةِ الظّروفِ الّتي نتجتْ عن الاحتلالِ وتبعاتِهِ على الإنسانِ الفلسطينيِّ، هل بقيَ للشّعرِ مكانةٌ في النّفسِ الّتي وخزَها التّشرّدُ، وما مدى التّجاوب مع القصيدةِ في تلكَ المرحلةِ؟
 كانتْ قصائدي كسائرِ قصائدِ الشعراءِ، تلقى استحسانًا وتجاوبًا عميقًا عندما أُلقيها في المحاضراتِ والنّدواتِ الأدبيّةِ، ذلك أنّها كانتْ تُعبّرُ عن الهَمِّ العامِّ وألمِ المأساةِ الّتي قاسى منها شعبُنا، كذلكَ عن وجوبِ التّصدّي للاحتلالِ بالمطالبةِ بحقوقِنا، وعنِ الأملِ والتّصميمِ الّذي لا يتزعزعُ، وعلى خلقِ مستقبلٍ أفضلَ لنا ولأولادِنا وأحفادِنا.

  شعراءُ وأدباءُ فلسطين المحتلّة سنة (1948)، ما مدى تأثّرِهم مِن مؤامرةِ عزْلِهم عن واقعِهم ومحيطِهم العربيّيْن؟ وسيّدة قرمان، كيف تعاطيتِ مع القضايا العربيّةِ في قصائدِكِ ونصوصِكِ؟
 عندما رحّبْنا بمؤتمرِ مدريد للسّلام في سنة (1991)، كانَ ترحيبُنا صادقًا وعميقًا مِن قلوبِنا الّتي أضناها الصّراعُ، خصوصًا بعدَ انبعاثِ الأوّل مع ثورةِ مصر، واستلامِ الضّبّاطِ الأحرارِ دفّةَ الحكمِ تحتَ رئاسةِ البطل الجريءِ، والمؤمنِ بحقِّ الشّعوبِ في الحياةِ الحُرّةِ الكريمةِ الرّئيس جمال عبد النّاصر الذي رفعَ رؤوسَنا باعتزازٍ وشجاعةٍ، ولم نَعُدْ نُخفي مقاومتَنا للاحتلالِ، والتّصريحِ بآمالِنا قولاً وكتابةً، ومع أملِنا باقترابِ السّلامِ مع مؤتمر مدريد، لم نكنْ مؤمنينَ بصِدقِ (إسرائيل) في رغبتِها بالتّحاورِ، بل توقّعنا خديعةً، وهكذا عبّرتُ عن مشاعري تلكَ بقصيدةِ رؤيا:

هُبّي رياح السلمِ حافلةً بأطيافِ التّمنّي طعمُ المرارةِ طالَ في أفواهِنا

وقصيدة “حنين الهزار”، وقصيدة “خيبة” في المجموعة نفسها.

كانَ هذا شعورًا عامًّا إلى جانبِ الألمِ العامِّ؛ كانَ كلُّ الشّعبِ يُعاني مِن الظّروفِ القاسيةِ الّتي نعيشُ فيها، مِن عدمِ إعطاءِ فرصِ عملٍ للمثقّفينَ الفلسطينيين، بما يُلائمُ مستواهم العلميَّ وقدراتِهم، وبسببِ الضّرائبِ الباهظةِ ومصادرةِ الأراضي العربيّةِ، بحجّةِ الأمنِ ومعسكراتِ تدريبِ الجيشِ أو إقامةِ مستوطناتٍ، وبسببِ سوءِ المعاملةِ، كانَ على الإنسانِ الفلسطينيّ بذْلَ أقصى جهودِهِ لإعالةِ أطفالِهِ وعائلتِهِ، والمحافظةِ على أرضهِ، بل أصبحتِ الأرضُ تُشكّلُ عبئًا ثقيلاً على مالكِها الّذي لا يفلحُها بيدِهِ، فالضّريبةُ وأجرةُ العمّالِ وثمنُ البذورِ والسّمادِ والحرث… الخ، من التّكاليفِ والمستلزماتِ لفلاحتِها، تكادُ تذهبُ بأرباحِ المواسمِ، وهكذا كانَ وضعُ مزرعةِ إبطن الّتي امتلكتْها عائلةُ قرمان منذُ سنواتِ العشرين من القرن الماضي، أي بعدَ الحربِ العالميّةِ الأولى، فبعدَ أن جعلَ منها الحاج طاهر عبد الرّؤوف مزرعةً نموذجيّةً، من حيثُ الأصناف المزروعةِ وآبارِ المياهِ الّتي حفروها واستخرجوا منها مياه الرّيّ، وياخور البقرِ الهولنديِّ النّموذجيِّ مِن حيث التّربيةِ والحلْبِ والنّظافةِ، وحرثِ الأرضِ بأحدثِ الآلاتِ، إلى جانبِ معصرةٍ لزيتِ الزّيتونِ ومصنعِ الحلاوةِ وجاروشةٍ للحبوبِ والقمحِ، كما كانتِ المزرعةُ تنعمُ بالكهرباءِ وخطّ تلفون منذُ أواخرِ الثّلاثينيّاتِ في القرن الماضي، لكن أصبحتْ تكاليفُ الكهرباءِ باهظةً فيما بعدُ، وطالبتْ وزارةُ الصّحّةِ بإصلاحاتٍ باهظةِ الثّمنِ في مصنعِ الحلاوةِ ومعصرةِ الزّيتِ وغيرِها، ما جعلَ العائلةَ تضطرُّ إلى إيقافِ فرعِ الصّناعةِ، وتحويلِ الزّراعةِ إلى فلاحةٍ بأيدي ضامنين يعملونَ على الحصّةِ، ذلكَ أنّ أشجارَ الفاكهةِ لم تَعُدْ مُريحةً بدونِ برّاداتٍ لحفظِ الثّمارِ لحينِ تصديرِها، هذا إذا كانتْ نوعيّتُها تَصلحُ للتّصديرِ، وإلاّ ذهبتْ للاستهلاكِ المحلّيِّ قليلِ الرّبحِ، مع هذا بقيَتْ إبطن مكانًا هادئًا مُريحًا للسّكنِ، بعيدًا عن ضجيجِ ومفاسدِ المدينةِ، خصوصًا لتربيةِ الأطفالِ، وهكذا استقرّ بي المقامُ في إبطن مع زوجي وأطفالي، إلى جانبِ العائلةِ الموسّعةِ المحيطةِ بهم.

 على الصّعيدِ الأسَرِيِّ ومدارِ حياتِكِ الخاصّةِ والعامّةِ، هل تحقّقتْ أمانيكِ رغمَ كلِّ الظّروفِ والمنعطفاتِ الّتي مررْتِ بها؟
 في هذه الظّروفِ الصّعبةِ كانَ همُّنا الأكبرُ زوجي وأنا تربيةَ أبنائِنا تربيةً وطنيّةً صادقةً، والوصولَ بهم إلى الغاياتِ الّتي أرادوها في العِلم والحياةِ، وعندما وصلوا إلى سنِّ الزّواجِ، كانَت لهم حرّيّة الاختيارِ بإرشادِنا ومساعدتِنا، سواءً كانَ ذلكَ ببقائِهم في الوطنِ، أو اضطرارِهم للسّفرِ وللاستزادةِ مِن التّخصّصِ في مجالِ عملِهم، وكانَ ذلكَ في سنواتِ السّبعينيّاتِ الحافلةِ بالأحداثِ عائليًّا، ففي أوائلِ سنة (1973) تخرّجتْ ابنتايَ سوسن وسليمى مِن الجامعةِ الأمريكيّةِ في القدس بشهادة بي إي، وفي أواخرِ تلك السنة تزوّجتْ سليمى وسافرتْ مع زوجِها إلى الولاياتِ المتّحدةِ، وبعدَ عامٍ وُلدَ ابنُها البكرُ، وفي صيفِ سنة (1974) تزوّجتِ ابنتي سوسن، وفي الخريفِ توفّيت أمّي، وفي صيف سنة (1975) اشتركتُ بدورةٍ لتأهيلِ معلّمي اللّغةِ الإنكليزيّةِ في بعثةٍ إلى مانشستر انجلترا، وقد كانتْ دورةً مفيدةً جدًّا اشتركَ فيها معلّمو اللّغةِ الإنجليزيّةِ من ستٍّ وعشرين دولةٍ، وكانتْ لنا جولاتٌ تثقيفيّةٌ في منطقةِ البحيراتِ وقريةِ الشّاعرِ، وزيارةِ إدنبره، مرورًا بقريةِ هيوارث وبيتِ الكاتباتِ الشّهيراتِ شارلوت وإميلي برونتي، وبعدَ عودتي للبلادِ وبدايةِ السّنةِ الدّراسيّةِ توفّي والدي، ثمّ وُلدَ ابنُ سوسن البكر حفيدي الثاني، وكنتُ قبلَ سنة التحقتُ بكلّيّةِ أورانيم لتأهيل المعلّمينَ في دورةٍ لمعلّماتِ مرحلةِ الإعداديّةِ، ولأتمكّنَ من التّدريسِ بالمرحلةِ الثّانويّةِ كانَ عليَّ أن أسجّلَ ببرنامج ال بي اي لتعليم الإنجليزيّةِ، وهكذا فعلتُ، كنتُ أدَرِّسُ وأدرسُ خلالَ السنوات الخمس الّتي استغرقَها برنامجُ اللّغةِ وأساليبِ التّدريسِ، وانتهت سنة (1981)، وكان زوجي يساعدُني خلالَها في التّنقّلِ ما بينَ مدرسةِ إبطن وكلّيّةِ أورانيم.

  كيفَ تعاطيتِ مع اتّحاداتِ الكُتّابِ والأدباءِ، وهل برأيِكِ، هذهِ الاتّحاداتُ تُمثّلُ ضمانةً لتَواصُلِ المشروعِ الثّقافيِّ الوطنيِّ؟
 في سَنواتِ الثّمانينيّات نشطتْ حركةُ تأسيسِ رابطةٍ تضمُّ الشّعراءَ والأدباءَ العربَ في البلادِ، إلى جانبِ اتّحادِ الكُتّابِ الّذي سبقَ وأقيمَ برئاسةِ سميح القاسم. كانتِ الرّابطةُ تنظيمًا ديمقراطيًّا تمَّ انتخابُ أعضائها بالتّصويتِ، واختيرَ المرحومُ الشّاعرُ فوزي جريس عبد الله رئيسًا، والشّاعرُ المرحومُ ميشيل حدّاد رئيسًا فخريًّا، احترامًا لسِنِّهِ ومجهودِهِ في ضمِّ أكبرِ عددٍ مِن الشّعراءِ والأدباءِ للرّابطةِ، وقد نسّقتِ الهيئةُ طباعةَ مجموعاتٍ شعريّةٍ، ومؤتمراتٍ ولقاءاتٍ وندواتٍ أدبيّةً دُعيَ إليها شعراءُ وأدباءُ مِن جميعِ أنحاءِ البلادِ والضّفّةِ مرّةً كلَّ سنةٍ، وقد انضمَمْتُ إليها، وكانَ لنا نشاطٌ وطنيٌّ، كذلك عرائض ضدَّ الأسرى وضدَّ إغلاقِ المدارسِ في الضّفّةِ وغزّة، ودَعَمْنا الانتفاضةَ الأولى بإصدارِ مجموعةٍ أدبيّةٍ “وهج الانتفاضة”، شملتِ القصائدَ والقصصَ، وقد عبّرتُ عن مشاعري بقصائد مثل “البعث” و”مُنيتي” في “حنين الهزار”، وطفولة” و”نشيد الانتفاضة” في “عريشة الياسمين”، ما لبثتْ هذهِ الرّابطةُ بعدَ وفاةِ الشّاعرِ فوزي عبد الله رحمه الله أن تفكّكتْ، وانشقَّ منها قسمٌ كبيرٌ ألّفَ النّقابةَ العامّةَ للكُتّابِ، وما زلتُ مع هذهِ النّقابةِ حتّى اليوم، واستمرّتْ في إصدارِ مجلّةِ “المواقف”
الّتي انبثقتْ مِن مجلّةِ مؤسّسةِ المواكبِ الّتي صدرتْ عن الرّابطةِ، وهي مجلّةٌ أدبيّةٌ ثقافيّةٌ عامّةٌ ولا تزال تصدرُ منذُ ذلكَ الحين.

إنّ الأديبَ والشّاعرَ ككلِّ فنّانٍ لا يُمكنُ أن يُقيّدَهُ إطارٌ، فهو روحٌ حرّةٌ متمرّدةٌ تبُثُّ أفكارَها وإبداعاتِها المنبثقةَ مِن أعماقِها حُرّةً شفّافةً لا تُمثّلُ سوى ذاتِها، وما شجّعني على إصدار مجموعتيِّ الشّعريّتين “هزار الحنين” (1995)، و”عريشة الياسمين” (1997)، كانَ مِن أثرِ هذهِ الحركةِ في شتّى المجالاتِ كالقصّةِ والرّوايةِ أيضًا.

  هل نجحتْ هذهِ الاتّحاداتُ والحركاتُ في رفعِ مكانةِ الأدبِ محلّيًّا وعربيًّا؟ وهل أثّرتْ هذهِ الأنشطةُ على الجهاتِ المختصّةِ في الحكومةِ، للاعترافِ بواقعِ الثّقافةِ العربيّةِ والمثقّفينَ العربِ؟
 كانَ لانطلاقِ الحركةِ الأدبيّةِ في القرنِ الماضي في بلادِنا ما حدا بوزارةِ المعارفِ والثّقافةِ، أن تُعَيِّنَ جائزةً سنويّةً تُوزّعُ على مَن تختارُهم لجنةُ تحكيمِ مُعيّنةٍ مِن قِبل الوزارةِ، شرطَ أن تقرأَ نتاجَاتهم وتُقيّمَها، فيفوزُ سنويًّا ثلاثة من الأدباء، وبدأ هذا الاهتمامُ سنة (1989)، وفازَ ثلاثة شعراء منهم الشّاعر إدمون شحادة، وسُمّيتْ جائزةُ التّفرّغ، على أساس أن يتفرّغَ المبدعُ للأدبِ، وكانَ هذا غيرَ معقولٍ طبعًا، إذ لا تكفي الجائزةُ وهي تُقدّمُ شهريًّا كأجرِ معلّمٍ لا تكفي لإعالةِ عائلةٍ، فتغيّرَ اسمُها لجائزةِ الإبداعِ، وتتالتِ السّنواتُ دونَ أن يكونَ لأيٍّ مِن المبدعاتِ نصيبٌ في الجائزةِ، وهنا ارتفعَ احتجاجُ المرأةِ على هذا الإهمالِ لشأنِها وأدبِها، ونظّمتِ الأديباتُ لقاءً احتجاجيًّا دعَتْ إليهِ شخصيّاتٍ ذاتِ نفوذٍ، وبعضَ أعضاءِ البرلمان، ودَعَمَها بعضُ الأدباءِ الّذينَ شعروا بالإجحافِ الّذي لحقَ بالأديباتِ. كانَ لهذهِ الحركةِ أثرًا فعّالاً، ولو كانَ متأخّرًا تسع سنوات، ففي سنة (1998) فزتُ بالجائزةِ مع أربعة من الأدباء الرّجال، إذ ازدادَ عددُ الفائزينَ إلى خمسة، وفي سنة (2000) نالتْها القاصّة فاطمة ذياب مع أربعة زملاء، وفي سنة (2001) نالتها نداء خوري، وقد ازدادَ عددُ الفائزين إلى ثمانية، وفي سنة (2002) فازت بها شوقيّة عروق، ونهى زعرب قعوار، وفي سنة (2007)، وبسعي من وزير الثّقافة العلوم والرياضة غالب مجادلة، ارتفعَ عددُ الفائزينَ بالجائزة إلى اثني عشر، وكانت بينهم منى ظاهر، وآمال دلّة كريّنة، وفي سنة (2006) نالت الجائزة هيام قبلان مع سبعة زملاء.

 لكن نسمع أصواتَ مُثقّفينَ تُشكّكُ في نزاهة هذه الجائزة، بل ونلمسُ غضبًا مِن الطّريقةِ الّتي تُمنحُ بها هذه الجائزةُ! ما قولُك في هذا الشّأن؟
 لا شكَّ أن تُثيرَ هذهِ الجائزةُ وبعضُ أسماءِ الفائزين بها غضبَ واحتجاجَ بعضِ الأدباءِ، خصوصًا مَن تأخّرَ في نيْلِها، بحجّةِ أنّ لجنةَ التّحكيمِ، والّتي كانَ أعضاؤُها يتغيّرونَ كلَّ بضعِ سنينٍ، لم تقرأْ إنتاجَ الأدباءِ الفائزينَ وإنّما كانَ التّوزيعُ بالمحسوبيّةِ، وهناكَ مَن اعترضَ على مبدأ نيْلِ جائزةِ الإبداعِ مِن مؤسّسةٍ صهيونيّةٍ، ناسين أنّنا نعيشُ تحتَ كنفِ حكمِ هذهِ المؤسّسةِ والدّولةِ، نتقاضى منها رواتبَنا كمعلّمين وموظّفينَ وكلِّ عملٍ آخر، وأنّنا ندفعُ ضريبةً كأيِّ مواطنٍ في الدّولةِ، فلماذا نُحرَمُ مِن مكافأةِ تقديرٍ لإبداعِنا؟ برأيي هذا أقلُّ ما يُمكنُ أن تُقدّمَهُ الدّولةُ لمبدعيها، ومن ناحيةٍ أخرى، أدّى هذا التّنافسُ لنيْلِ الجائزةِ إلى التّسرّعِ في إصدارِ الكتبِ الضّعيفةِ الرّكيكةِ، وغمرتِ الخواطرُ الّتي لا يُفهَمُ معناها صفحاتِ الجرائدِ باسمِ الشّعرِ الحُرِّ، وقد ازدحمتْ فيها الرّموزُ والكلماتُ المقتبسةُ الّتي لا يَفهمُ كاتبُها المغزى منها، بل لملمُوا كلمةً من هنا وأخرى من هناك، ونثروها على أسلوبِ الشّعرِ الحديثِ حروفًا متفرّقةً وسطورًا مشطورةً، ظانّين أنّهم بهذا قد ولجوا عالمَ الحداثةِ، وانضمّوا إلى زمرةِ الشّعراءِ المشهورينَ، وأظنُّ أكبر اللّومِ يقعُ على النّاشرينَ الّذين ينشرونَ ما يُقدّمُ لهم رغبةً في الرّبحِ المادّيّ، وهُم بهذا يُضيفونَ إساءةً أدبيّةً إلى تراثِنا وأدبِنا الأصيلَينِ دونَ تمحيصٍ ورويّةٍ، ويوهمونَ الكاتبَ أو الشّاعرَ أنّهُ أصبحَ في عدادِ أصحابِ المؤلّفاتِ والدّواوينِ الّتي تستحقُّ التّقديرَ.

  ماذا تركَ التّدريسُ في روحِ سعاد قرمان، وما هو سببُ اعتزالِكِ للمهنة؟
 في بدايةِ التّسعينيّات من القرن الماضي قدّمتُ استقالتي من التّعليم، بسببِ سوءِ تفاهمٍ وإساءةِ مديرِ المدرسةِ لي. تركتُ التّعليمَ وقلبي متعلّقٌ بهؤلاءِ الصّغارِ الّذينَ كنتُ أعلّمُهم وأمضي معهم معظمَ اليوم، ممّا ربطَني اجتماعيًّا بهم بآمالِهم ونُموِّهم العقليِّ والجسميِّ والنّفسيِّ. كنتُ أحبُّ هذهِ المهنةَ الصّعبةَ وأبذلُ فيها طاقةً نفسيّةً وفكريّةً وجسميّةً بكلّ إخلاصٍ، وغايتي مساعدةُ طلاّبي لأصلَ بهم إلى عتبةِ الحياةِ العمليّةِ، وهُم على أتمّ استعدادٍ وأملٍ بالاستزادة.

تركَ خروجي للتّقاعدِ فراغًا نفسيًّا في حياتي، ما جعلَني أرحّبُ بدعوةِ البروفيسور ماجد الحاج مبتكرُ مشروعِ إنسان، لمساعدةِ طلاّبِ المدارسِ في القرى العربيّةِ المحرومةِ من المناهجِ والبرامجِ غير المنهجيّةِ الإضافيّةِ بعدَ الدّراسةِ، كالموسيقى والرّسم والتّمثيلِ والمسرحِ والكتابةِ الإبداعيّةِ وغيرها، واندمجتُ في هذا المشروعِ الرّائعِ، وكنتُ اجتمعُ بطلاّبِ مدرسةِ برطعة الابتدائيّة ومعاوية في يومين في الأسبوع بعد انتهاء الدّراسةِ، حيثُ كانَ ينتظرُني الطّلاّبُ والطّالباتُ الّذينَ يحبّونَ الكتابةَ والشّعرَ، وكانَ يُرافقُني للإرشادِ في الرّسم الفنّانُ أنيس أبو ركن والفنّانة جهينة حبيبي، وفي التّمثيل الممثّل محمّد عباسي، وكانتْ مكتبةٌ متنقّلةٌ تصلُ إلى المدارسِ أسبوعيًّا، ليقترضَ منها الطّلاّبُ المولعونَ بالمطالعةِ ما يُحبّونَ مِن الكتبِ، كما كانَ يحضرُ مُدرّبُ دبكةٍ وغير ذلك من الفنون الّتي ملأتِ الفراغَ التّثقيفيَّ والفنّيَّ في حياة الطلاّب، نجحَ هذا البرنامجُ نجاحًا كبيرًا، وقدّمَ الطّلاّبُ عروضًا مِن إنتاجِهم في نهاية السنة الدّراسيِّة، دُعِيَ لمشاهدتِها مفتّشونَ ومُدراءُ في المعارفِ، وقد أُعجبوا بها وقرّروا إدراجَ هذا البرنامجِ التّثقيفيِّ ضمنَ البرنامج الدّراسيِّ، فقضيتُ معهم سنتين، كما دُعيتُ بعدَ ذلك إلى المدرسةِ الابتدائيّةِ في حرفيش للإرشادِ في الكتابةِ الإبداعيّةِ لمدّةِ سنة.

 ما هو سِرُّ عِشقِكِ للمَسرحِ؟ ومِن أيّةِ زاويةٍ تعلّقتِ بهذا الفنِّ؟
 تسلّلَ المسرحُ إلى حياتي عبْرَ ارتباطِ أختي بُشرى به وولعِها بالتّمثيلِ، وقد درسَتْ في بوسطن ومثّلتْ هناك استمرارًا لاشتراكِها في الحركةِ المسرحيّةِ في حيفا منذُ بداياتِها، هكذا أدخلتُ هذا العالمَ وتعرّفتُ إلى زملائِها الممثّلينَ والممثّلاتِ، ممّا جذبَني في سنة (1997) للانضمامِ لمجلسِ مسرحِ الميدانِ الموسّعِ، وانتخبتُ في الهيئةِ الإداريّةِ، وفي سنة (1998) استقالَ رئيسُ الهيئةِ الإداريّة د.فهد أبو خضرة لأسبابٍ صحّيّةٍ، فانتُخبتُ رئيسةً للهيئةِ الإداريّةِ في مسرحِ الميدان، وهو أكبرُ المسارحِ العربيّةِ في البلاد تدعمُهُ ميزانيّةٌ سنويّةٌ لا بأسَ بها، يُمَكّنُهُ من إنتاجِ مسرحيّاتٍ على مستوى جيّد سنويًّا. استمرّتْ إدارتي للهيئةِ مدّةَ خمس سنوات، استقلتُ بعدَها مِن الإدارةِ، وبقيَ اتّصالي بالمسرحِ للمشاهدةِ والتّشجيعِ ولا زالَ حتّى الآن. كنتُ المرأةَ الوحيدةَ في إدارةِ المسرحِ، كما كنتُ في لجنةِ الرّابطةِ الأدبيّةِ، وكما بدأتُ في النّشاطاتِ الأدبيّةِ في سنوات السّتّينات من القرن العشرين، طيلة هذه السّنوات في مختلف النّشاطات، كنتُ أشجّعُ المرأةَ للتّطوّع والانخراطِ في العملِ، سواءً في النّوادي النّسائيّةِ الّتي كانتْ تحظى بأخواتٍ نشيطاتٍ لتطويرِ القريةِ العربيّةِ، بالنّهوضِ بالمرأةِ لتدركَ ما لَها مِن الحقوقِ، وما عليها مِن الواجباتِ تجاهَ تربيةِ أطفالِها والاهتمامِ بتعليمِهم، خصوصًا البنات اللاّتي حُرمنَ من التّعليم العَالي، لعدمِ مقدرةِ الأسرةِ كثيرة الأطفال وقليلة الدّخل، على الإنفاق على تعليم البنت في الجامعات، بحجّة أنها ستتزوّج ولن تفيدَ أسرتَها بعِلمِها، كان علينا شرْحَ أهميّةَ العِلم والعمل للبنتِ كما للابن، لمواجهةِ مسؤوليّاتِها في الحياة سواءً في تربيةِ أبنائِها، أو في أهميّةِ استقلالِها الاقتصاديِّ، واكتسابِ الثّقةِ بنفسِها كإنسانٍ مستقلٍّ لهُ كرامةٌ وحقوقٌ، كما عليه مِن واجباتٍ لا تقلُّ عن الرّجلِ. أحمدُ اللهَ أنّ حركتَنا التّشجيعيّةَ في بداية الاحتلالِ ونكبةِ شعبِنا العربيِّ وتفَرُّقِهِ في بلادِ الغربةِ، هذهِ الحركةُ أتتْ آكلها، وها نحن نرى فتياتنا في الجامعاتِ وفي شتّى ميادينِ العملِ والتّخصّصِ العِلميِّ بأعدادَ لا بأسَ بها، وهُنَّ في تزايدٍ مستمرٍّ، وكلُّ أملي أن يحافظن على هويّتهنَّ وأصالتهنَّ العربيّةَ، ولا ينجرفنَ وراءَ الانفلاتِ والتّمدّنِ الزّائفِ باسم الحرّيّةِ والتّطوّرِ، هذا الخطر الّذي يُهدّدُ مجتمعَنا بأكملِهِ، وها نحن نرى بعضَ المسؤولين الزّائفينَ، وقد اشترَوْا شهاداتِهم من بلدان أوروبا، ليعودوا باسمِ الشّهادةِ الزّائفةِ ويستلموا مناصبَ مهمّةً، سعيًا وراءَ الشّهرةِ والرّبحِ السّريعِ، وما لبثوا أن انكشفَ زيفُهم، فما كلّ ما يبرق ويلمع ذهبًا. لغتُنا هي هويّتُنا، والاحتفاظُ بها كرامةٌ واحترامٌ بعين أعدائِنا قبلَ أصدقائِنا، فلا نغترّ بالتّفرنجِ، هذه رسالتي لأخواتي وإخواني في كلِّ لقاءٍ بيننا، سلاحُنا هو علمنا وأخلاقنا وتراثنا الأصيل، وقد حرصتُ خلالَ برامجي التّلفزيونيّة أن أستعملَ الاصطلاحاتِ العربيّةَ في لقاءاتي مع الأخصّائيّينَ في شتّى الميادين قدر الإمكان، وإلاّ رددنا الكلمة لأصلِها في لغةِ مخترعِها، إن لم نجد لها مرادفًا مفهومًا للمستمعين بلغتِنا العربيّة.

 بماذا تُعلّلينَ عُزلةَ الفلسطينيين في فلسطين المحتلة سنة (1948) السّياسيّةِ والإنسانيّةِ عن محيطِهم العربيِّ، وأقصدُ الدّولَ والشّعوبَ العربيّة؟
 إنّ الوضعَ السّياسيَّ البائسَ في معظمِ البلدانِ العربيّةِ إن لم تكن كلّها وبانسياقِ رؤسائِها وراءَ أمريكا الدّاعمة لـ (إسرائيل)، خلقَ شعورًا من الخيبةِ والخذلانِ في أمّتِنا، إلى جانبِ الغضبِ والاستياءِ ممّا وصلَنا إليهِ مِن الضّعفِ بينَ دولِ العالم، ونحنُ الّذينَ أنرنا الدّنيا بحضارتِنا وآثارِنا الفنّيّةِ الرّائعةِ، عندما كانتْ مبادئنا وإيمانُنا وإنسانيّتُنا تَملأ قلوبَنا، وتنيرُ لنا دروبَ العزّةِ والكرامةِ والحياةِ الشّريفةِ، هذا التّمزّقُ بينَ الماضي المجيد والحاضر المهزوم والمأزوم بالاحتلال، وانشغال العالم كلّه عن مأساة شعبِنا في الوطن والغربةِ والشّتات خلقَ يأسًا وغضبًا وضياعًا بين شبابنا، والّذي أصبحَ الكثيرُ منهم يخجلُ بعروبتِه للأسف بدل أن يكونَ الوضعُ محفِّزًا للتّحدّي والتّسلّح بالعلم، والإيمان والعمل الجادِّ للوصولِ إلى تحقيقِ هدفِنا وانتصارنا، هنا يأتي دَوْرُ المثقّفين والأحزاب الّذين يقومونَ بمهمّةٍ وطنيّةٍ صعبةٍ، في بثِّ روح الأمل والإيمان بحقِّنا، وإنّ علينا الوقوف صفًّا واحدًا في وجهِ الطّامعين، نعم لا شكّ أنّ لبعض الأحزاب العربيّة تؤدّي هذا الدّور الهامّ في توعية شبابنا، ورفع معنويّاتهم وإعادة الثّقةِ والاعتزاز إلى قلوبِهم، ممّا لا شكّ سيؤتي آكله مع الصّبر والعمل الجادّ الواعي.

 برأيكِ ما هي المخاطر الّتي يُعانيها الشّابّ والمثقّفُ العربيّ وتُهدّدُ مستقبلَهُ؟
 إنّ الوضعَ الاقتصاديَّ السّيئ في البلاد وعدم إفساح المجال أمامَ شبابِنا، أدّى إلى هجرةِ الكثيرين للخارج للعلم والعمل، حيث لمسوا قيمةَ الإنسان واحترامَهُ في العالم العربيّ، وأنا أعتقدُ أنّ الهجرةَ والاندماجَ مع الشّعوبِ بالعالم، بلورت شخصيّةَ الكثيرين ممّن هاجروا وصقلتْها، ولا شكّ أنّ لقاءَ حضاراتٍ مختلفةٍ يفيدُ الإنسانَ، خصوصًا وأنّ معظمَ الّذينَ يهاجرون يعودون إلى الوطن أو يزورونَهُ بينَ الحين والآخر، وهم يعودون بأفكارَ متجدّدةٍ تُفيدُ محيطَهم وأهلَهم، وفي أسوأ الأحوال إذا استقرّوا في بلاد الغربةِ، لا شكّ أنّهم سيكونون رُسُلَ حقٍّ لقضيّتِنا، ويشرحون حقيقةَ أوضاعِنا لمن يجهلونَها، وقد ضلّلتْهم الدّعايةُ المحتلّةُ، وهكذا حتّى في هجرتِهم يخدمون وطنَهم وقضيّتَهم العادلةَ.

نحن نتعلّم في كلّ لحظة من حياتِنا، إذا فتحنا عيونَنا وقلوبَنا ووعيَنا على كلّ ما يحيطُ بنا، وكما يقول الشّاعرُ: “إذا فاتني يومٌ ولم أصطنع يدًا ولم أكتسبْ علمًا فما ذاك من عمري”. هذا مبدئي في الحياة، وذاك ما دفعني إلى الاستمرار والاستزادةِ من العلمِ بعدَ زواجي وإنجابِ أطفالي، وأثناء عملي في التعليم ثابرتُ حتّى نلتُ شهادةً تؤهّلُني لأداء عملي، كما يجبُ أن أكونَ راضيةً عن نفسي وعمّا أعملُهُ، ومع هذا لا شكّ أنّ الإنسانَ يُخطئُ فالكمال لله وحده، أحاولُ أن أتعلّمَ من خطئي وأخطاءِ غيري، وأن أساعدَ كلّ من يطلب منّي خدمةً، لقد مرّ العمر سريعًا، ولكنّه كانَ عامرًا مليئًا والحمد لله الّذي أنعم عليّ بنعمِهِ الّتي لا تُحصى، لقد أضعتُ فرصًا لا تُعوّضُ، فلم أتعلّم العزف على العود الّذي أحبُّه كثيرًا أو البيانو، بعد أن رفض أبي أن يسمح لي بتعلّم العزف على آلة الكمان، لأنّ الأستاذ كان رجلاً. كانَ يجبُ أن أحاول وألاّ أيأس، كذلك كسلتُ عن كتابة يوميّاتي، وقد عشتُ في زمنٍ تطوّرتْ فيه حوادثُ البلاد، كان القرن العشرين مفْصَلاً تاريخيًّا لكلّ دول الشّرق الأوسط، وقد مرّت أحداثٌ تاريخيّةٌ في بلادِنا وتطوّراتٌ سريعةٌ في حياتِنا ومدنِنا وبيئتِنا ومجتمعِنا، كانَ عليّ أن أصحوَ على ما يحدثُ حولي، وأن أكتبَ يوميّاتي كتاريخٍ لفترة مهمّةٍ من حياةِ شعبي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى