الاثنين ٣٠ آذار (مارس) ٢٠٠٩
قصة تربوية للصغار

البائسة

بقلم: رمضان حينوني

فُتحتْ عيناي على صورة والدي المسكين.. لا أقول الفقير، لأن الفقر ذهب مع الحادثة التي حدت من حركاته التي بها كان ينتزع لقمة العيش له ولابنته الصغيرة، بل لمرضعة ابنته الصغيرة!. توفيت والدتي بعد أن وضعتني حية مباشرة.. لم أُسمعها سوى صرخة الحياة التي فضلتني عليها.. و يا ليتها بقيت وذهبت أنا.

وقدمني أبي إلى مرضعة تسكن الحي المقابل لحينا.. كانت شبه فقيرة، تملك طفلا يكاد يتم الرضاعة. وقبلت أن تبيع لبنها بثمن لم يكن بالنسبة لشخص مثل أبي بسيطا. وحين بحث أبي عن عمل مناسب يرفع من وضعه المادي فشل، وبقي خادم إسطبل لأحد الأغنياء في قريتنا.

لا أعرف عن مرضعتي شيئا، ولا أذكر صورتها إطلاقا.. لقد ماتت أسابيع قليلة بعد إتمام رضاعتي– هكذا قال أبي– وتركت لأخيها عبء طفل في الرابعة من عمره. كان موتها ضربة قوية ومحزنة لأبي، فقد كان يأمل في أن تتعهدني بالرعاية بعد الرضاعة، وربما كان يفكر في الزواج بها أو هكذا بدا لي من خلال حديثه المستمر عنها.

ومرت الأيام.. وبقي كوخنا خشبيا، وفراشنا خشنا مرقعا، ووجبتنا ماء وخبزا، و أحيانا مرقا بسيطا لا يقبله بطن من بطون الآخرين.

وبلغت السادسة.. وبقدر ما كان جسدي يكبر وينضج، كان أبي يزداد نحافة وضعفا. وأذكر أنني استغربت أمامه يوما من فتيان وفتيات في مثل سني يحملون حقائب، ويتوجهون إلى مكان واحد..كانوا يرتدون ثيابا نظيفة، وهم سعداء كالطيور. وكان ذلك مما يزيد أبي حسرة لأن ابنته ليست كهؤلاء.. كنت أحيانا أراه باكيا كطفل، وأحيانا أخرى مهموما كسجين، ولم تكن لدي البراعة الكافية للتخفيف عنه.

وكانت السنة العاشرة نهاية أحزان أبي، و حدا لهمومه وبكائه.. ففي يوم صيفي حزين تمدد على فراشه كما يتمدد الراحل عن هذه الدنيا، وقبل صعود روحه أوصاني قائلا:(ابنتي الجميلة، كم أنا حزين لفراقك، لكنها الدنيا يا ابنتي، نعيش فيها كما يشاء الله، ثم نغادرها في لحظة ما.. أوصيك بالحفاظ على ما تحافظ عليه الفتاة الشريفة.. أكثري الدعاء لله تعالى، فإن لم يكن استجاب لي، يمكن أن يستجيب لك، ولا تيأسي من رحمته.. وإذا شعرت بضيق النفس وكآبة القلب فقفي على قبري.. يقال إن أرواح الموتى والأحياء تتناجى وتتآنس...)

ومات أبي كأي إنسان يحين موعده، و بكيت أنا كأي إنسان فقد خير أنيس له. كنت جاهلة لا أعرف سوى ما يحيط بي من أشياء وأفكار، لكن وصية أبي ظلت ترن في أذني في كل وقت وحين، تذكرني بشيء لم أتبين ملامحه بعد.

و كان لا بد أن أتحرك رغم صغر سني.. فأنا الآن وحيدة، لا أهل ولا أحباب. لقد جاء والداي إلى هذه القرية غريبين، وعاشا فيها كذلك. كان البعد بين أبي وأهل القرية شاسعا جدا، ولم أدر سببه. كأن ثمة سرا يعرفونه عنه، أو ماضيا يمنعهم من التقرب منه. أما هو فلم يكن يحدثني إلا بذكرياته الجميلة أيام كان فتى قويا، وبضرورة الابتعاد ما أمكن عن أهل هذه القرية لأنهم يتربصون بنا، ويتمنون رحيلنا.

كان لا بد من التحرك.. بطني يلتوي جوعا، وملابسي رثة، وبعد حرارة هذا الفصل سيأتي برد فصل آخر. وبدأت أفكر في الحل.. في قطعة الخبز كلما حان موعد الطعام، وفي قطعة القماش أستر بها جسدي نصف العاري. وفي نهاية المطاف اهتديت إلى التسول.

لم لا؟ إن غصني غض لا يقوى على العمل العضلي، والناس هنا رغم عسر الحال لا شك يملكون شيئا لفعل الخير ! وإذن سأنتظر الأيدي السخية، والوجوه العطوفة، والقلوب الرحيمة... وسأنتظر عطاء الله.

وفي صباح يوم لافح الحرارة، كنت أجلس تحت شجرة ضخمة في الحي الرئيسي لقريتنا.. امتدت يدي سائلة، وتوجهت أنظاري إلى السماء متوسلة، وانطلقت دموعي ممزوجة بالألم والأنين ورائحة البؤس. وعند الغروب لم يكن في كفي سوى قطع نقود بسيطة اشتريت بها رغيفا سد جوعي.

لم أكن أعرف كيف أحمد الله، أو كيف أدعوه كما أوصاني أبي، ولكنني أدركت حاجتي إلى النقود.. أريد أكلا، أريد ملابس، وأريد الحياة مثلما يريدها الآخرون، والحياة هي النقود !

وألحت علي فكرة السرقة..الأغنياء يأكلون كل شيء، وأنا لا أجد ما أسكت به هذه المعركة اللعينة داخل أحشائي. لم أكن حينها أتبين جيدا معنى الحلال والحرام، ولكنني كنت أعرف أن الهراوات ستهرول خلفي إن أنا تطاولت على ما ليس لي.

وفي صباح باكر، كنت أتسلل إلى إحدى المزارع على جنبات قرية مجاورة لقريتنا رافقت أبي إليها ذات يوم، لقد تعبت قدماي للوصول إليها، تحينت الفرصة المناسبة وأكلت منها لذيذ الفواكه، ونجحت في الرجوع بشيء منها إلى الكوخ.. وتكرر الأمر مرات، بل استمرت الحال هذه ما يقارب الشهرين. كنت سعيدة بنجاحاتي، إلى تعبت الأيام من مساعدتي فقبض علي أحد الفلاحين، رآني أخرج من حقله ودليل جريمتي فواكه في يدي.. وقد صحت بما فيه الكفاية، وتوسلت إليه بلساني ودموعي، وأقسمت له أنني لن أكررها ثانية. وفي الأخير أطلق سراحي دون أن يسألني عن حالي.. بل إن قلبه رق لحالي فزودني بكمية أخرى !

وبدأ المنعطف المهم في حياتي عندما أوقفني رجل غريب تبدو في وجهه علامات الخبث والشر.. راح ينظر إلي كأنه يريد افتراسي، ويقترب مني كلما رآني أبتعد عنه، إلى أن التصقت بجدار ولم أجد كيفية للهروب.

لم يضربني ولم يمسسني، بل ابتسم بمكر وطلب معرفة اسمي، لكنه لم ينتظر معرفته فقال:

 ستكونين أسعد من الفراشة لو تقبلين الذهاب معي إلى بيتي.. سألبسك ما لم تحلمي به من ثياب، وتشبعين مما يلذ ويطيب.. فما رأيك؟

وأدركت بفطرتي أن هذا الرجل لا يعاملني طفلة تحتاج الرعاية والحنان، بقدر ما يرى في امرأة صغيرة مشتهاة.. وحقا، كنت قد بلغت سنا تغيرت فيه كثيرا في تكويني الجسدي والنفسي.وفهمت أن الرجل يستدرجني إلى الخطيئة، تلك التي كان أبي يحذرني منها في وصيته الأخيرة.

وبدأت أتصور الأكل اللذيذ، والملابس الفاخرة، والفراش الوثير، ولكن كلام أبي ظل يزاحم كل ذلك في ذهني.. وازداد قلبي دقا، ووجهي احمرارا وأنا أفكر في الألمين: ألم الحالة التي أنا عليها، وألم الحالة التي أصير إليها لو تبعت هذا الرجل.

كان الصراع داخل نفسي الضيقة هائلا.. ودون أن أقول له شيئا، مشيت بطيئة في اتجاه معين حائرة تائهة، وفهم الرجل من صمتي أنني أسير معه إلى حيث يريد، فراح يمشي بجانبي دون أن ينبس ببنت شفة، إلى أن ابتعدنا عن القرية.

فجأة توقفت كأنما تذكرت أمرا مهما، وتوقف أيضا كأنما يفكر في الأمر ذاته، ودون أن يتلعثم أو يضطرب قال:

 لم أخبرك أنني أسكن ضيعة.. إننا الآن قريبون منها.. لا تخشي شيئا.

لم أكن مستعدة أن أجادله ولا الحديث معه.. بل ربما لم أكن أريد شيئا على الإطلاق. صرت كالمأخوذة أمشي على غير هدى أو هدف.. وربما من غير وعي أو إدراك للعواقب، ولكنني لم أتراجع.

ووصلنا إلى ضيعة خيل إلي أنني رأيتها من قبل.. كان الليل قد أسدل ستاره على الكون، والقمر يسفر عن وجهه باحتشام.. ومع امتزاج العتمة بضوء القمر الباهت، بدأ الخوف يدب في نفسي، كأنني أترقب خطرا داهما. وزاد في اضطرابي ما رأيت في عيني الرجل من علامات المكر والخديعة. فلم يدر، وهو الذي اعتقد أنني حمامة وديعة وقعت في شباكه بمنتهى اليسر، كيف دفعته عني بقوة الخائف على شيء عزيز، حين اقترب مني يريد لمسي.. انتفضت أمامه بعنفوان الشباب المطل على حياتي دون أن أفكر في العواقب؛ فالرجل الذي يقود فتاة في عمر ابنته إلى الخطيئة، لا يستبعد أن يأتي منه ما هو أكبر من ذلك..

لكن لطفا إلهيا تداركني، ففي اللحظة التي رأيت فيها الشر يكاد يتطاير من عينيه، سمعنا صوتا مستفهما قادما من بعيد، ورأينا ضوء مصباح يدوي يقترب في اتجاهنا. وفي الوقت الذي كنت أهرول فيه نحو مصدر الضوء، كان الرجل يطلق ساقيه للريح، ويفر مثل جبان تافه تاركا فريسته لغيره.

وحين توقفت أمام الغريب باكية من الفزع، تأملني برهة، ثم وجه مصباحه عامدا إلى وجهه كأنما يريد أن يعرفني بنفسه.. لم أصدق حينها أن أجده في هذا الوقت العصيب الذي أنا فيه، لأنه لم يكن سوى ذلك الذي زادني كمية الفاكهة يوم وجدني في حقله.

ومد إلي يده قائلا:

 ماذا تفعلين هنا في هذا الليل؟

فأجبته وقد انخفض دق الطبول في صدري:

 أريد أن أنام هنا، فليس لي ملجأ أنام فيه.

قال وقد التفت إلى كل اتجاه يقوده نور مصباحه:

 أظن أن شخصا ما كان معك، أليس كذلك؟

 بلى.. كان معي رجل، وعدني بأكل وملابس مقابل...

لم أكمل عبارتي، لكن الرجل بدا كأنه فهم قصدي، فقادني من يدي إلى بيته دون أن يتكلم. وبعد دقائق معدودة كنا ندخل بيتا فيه امرأة وثلاثة أطفال في عمر الزهور، ذهلوا لرؤيتي. لا أدري ما الذي قرءوه في منظري، ولكنني رأيت ملامح الفضول تفيض من عيونهم.
كان الرجل قد انفرد بزوجه، كأنما يخبرها بقصتي. وعمت الطمأنينة نفسي عندما رأيت انبساط وجهها.. كانت هذه رسالة مهمة ولو مؤقتة، جعلتني لأول مرة في جو أسري حقيقي. ونمت تلك الليلة بين الأطفال الثلاثة كما لو أنني في حلم.. كان كل منهم يحاول إضحاكي بنكتة أو قصة أو لغز، إلى أن أخذنا النوم في قطاره الهادئ الممتع!

وفي الصباح التقيت بربة البيت.. كانت غاية في الطيبة واللطف، فقد أعطتني من ملابسها، وأطعمتني من خيرها بعد أن أزلت غبار السنوات السابقة عن جسدي. وكأية أنثى قضيت وقتا في الوقوف أمام المرآة، أتأمل جمالي الحقيقي الذي حدثني عنه أبي.. كنت جميلة فعلا، وزادتني ملابس السيدة ما كان ناقصا. وعندما رآني الأطفال في هيئتي الجديدة انفتحت منهم الأعين والأفواه كأنما ليست هذه التي نامت معهم ليلة الأمس، بل إنهم لم يروها إلا الآن!

وفي مجلس لي مع الأسرة، اقترح الأب علي عملا بسيطا داخل البيت. ولم أكن لأرفض نعمتين قادهما الله إلي: نعمة العمل، ونعمة هذا البيت الوديع الكريم.. وعرفت أن الحياة بدأت تبتسم لي، وأن الله نظر إلى حالي فأراد أن يمنحني شيئا من سعادة الدنيا مثل الآخرين. وكان طبيعيا أن يكثر دعائي وحمدي.. لقد نجاني من وحش وقح، وأوقعني في يد هذا المؤمن الصالح.

وبدأت تجارب الحياة تنتظم شيئا فشيئا في كياني..أنا التي عشت بعيدا عن الناس، وبعيدا عن المجتمع. ها أنا أتعرف إلى العالم بشكل يختلف عن السابق.. أتلمس الأشياء، أتعامل معها.. ومع كل يوم يمر أشعر أنني قريبة من الله، وقريبة من الخلق، وأعترف في قرارة نفسي أن في الكون عدالة هي أقوى من عدالة الناس.

بقلم: رمضان حينوني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى