
البيرق هبوب الريح

بينما يحضرُ التاريخُ بوصفه عنصرًا رئيسًا في مجمل أعمال الروائيّة شريفة التّوبي، فإنه يتجلّى بأسلوبٍ ملحميّ أخّاذٍ، باسطًا بين يدي القارئ كنزًا من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد، وذلك في روايتها الجديدة "البيرق.. هبوب الريح"، وهي الجزء الثالث والأخير من ثلاثية جاء جزؤها الأول بعنوان "حارة الوادي" 2021، والثاني بعنوان "سُراة الجبل" 2022.
تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، فتشتغل عليها، وتكتب حكايتها الخاصة، الجديدة، بروح جديدة، مقدمة نموذجًا متميزًا في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.
أصل الحكاية.. جذر الفكرة
في روايتها الجديدة، وقد صدرت حديثًا عن "الآن ناشرون وموزعون"، في عمّان، التي جاءت في حوالي 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان، قبل النهضة المباركة عام 1970 على يد السلطان قابوس بن سعيد، إذ انتبهتْ إلى أن في تلك الحكايات ما لم تقرأْه في كتب التاريخ عن تلك المرحلة الزمنية بالذات، وكانت في حاجة لقراءة أخرى لذلك التاريخ، ورؤية وجه آخر للحكاية، بحسب ما تقول شخصيّا، في أحد حواراتها، مضيفة، وكاشفة على تلك الروح التي كانت تسكنها قبيل شروعها بكتابة ملحمتها المتميزة: "وحينما كتبت ثلاثية البيرق، كنت أكتب الكتاب الذي تمنيت قراءته، فأعدت تشكيل الحكايات التي سمعتها من جدي ومن والدي ورفاق والدي بما يتناسب مع أعراف كتابة الرواية. أردت أن أخلق عالـمًا جديدًا مؤثّثًا بتلك الأحداث التي أستطيع القول إنها مغيّبة، وعُمان، كبلد عريق، كل زاوية فيه وكل درب وكل سهل وجبل ملهم للكتابة، في عُمان وراء كل حجر حكاية، فقط كانت تنتظر من يكشف عنها ويعيد كتابتها".
المِهاد التاريخي والاجتماعي للرواية
تقدِّم التّوبي عبر ملحمتها السرديّة، بأجزائها الثلاثة، مرحلة مهمَّة من تاريخ عُمان السياسي والاجتماعي، وتعرض فيها المسار التاريخي لانتقال عُمان من حكم الإمامة الديني إلى حكم السَّلطَنة، وما شهده ذلك الانتقال من أحداث وصراعات دامية، رافقتها تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية مهمّة تركت أثرها العميق في المجتمع العُماني.
تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينيات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها في خيالها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ الذي يحقق للقارئ متعته.
في هذا الجزء نفسه قدمت التّوبي وصفًا لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس، فنقرأ في أحد المقاطع: "يطيب لرجال الحارة الذهاب إلى السوق، ليس للشراء فقط، وإنما للجلوس وتبادل الأحاديث على مصطبة طويلة مبنيّة بمحاذاة الجدار الذي يفصل ضاحية مرهون عن السوق. توقّع حمدان أنّه لن يعثر على السمك طازجًا، لكنّه سيبحث، وماذا سيضرّه أن يبحث، فخديجة تريد سمكًا، فكان كلّما مرّ على دكّان من الدكاكين يضحكون على طلبه الذي أتى في غير وقته".
وترصد التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، والتي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستينياته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.
في هذا الجزء تنكشف بعض الحقائق المتعلقة بـ"ناصر بن حمد"؛ الرجل الشجاع صاحب الشخصية الغامضة، الذي يشكّل لغزاً في حياته وفي موته أيضاً، وتنكشف مجموعة من الحقائق الأخرى من خلال تفاصيل السرد الذي تدور أحداثه في سجن القلعة والجبل الأشمّ وحارة الوادي. ويلتقي القارئ في الجزء الثاني بشخصيات جديدة ومؤثّرة عاشت تلك الفترة العصيبة وكانت وقوداً لنار الحرب المستعرة فيها.
كما تُبرز الأحداثُ دورَ المرأة في تلك الفترة عبر شخصية "عويدة" أرملة "ناصر" التي تجد نفسَها وحيدةً تصارع أقدارها وأحزانها بعد مقتل زوجها وموت خادمتها وزوجة ابنها، فتتخذ قرارات شجاعة يكون لها أثرها الإيجابي في حياة أحفادها.
مقاومة وطنية ذات توجهات ثورية
وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث "هَبوب الرِّيح" أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضًا إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجًا أيديولوجيّا أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.
تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثًا عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.
تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.
في فضاء الحكاية:
تبدأ أحداثُ الروايةِ مع الشخصيّة الرئيسة "حمود" الذي يُبتَعث إلى مصر للدراسة، ومن مصر التي فتنته كما لم يفتنه شيء آخر قبلَها في فنها وثقافتها وأفكارها و"ناصرها" الذي كان يقود حركة التغيير في الوطن العربي مناديًا بالقومية والحريّة، وجد البطل نفسه يرتدي "قبّعة ماركس"، ويغيّر طريقه الذي كان يسير فيه إلى طريق أخرى بعد أن يلتقي مع "أحمد سهيل" الذي فتح أمامه أبوابًا أخرى للخروج من عالمه الضيق، فسلك "حمود" دروبًا لم يتوقع يومًا أن يسير فيها.
تعاين الرواية الدروب التي سلكها "حمود" في شبابه، ومصيره الذي آل إليه، وحال "نفافة"، عروسه التي انتظرته طويلًا في "حارة الوادي".
وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى "الفكر الجديد"، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلًا عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: "أحمد سهيل"، و"عبد السلام"، و"أبو سعاد"، و"باسمة"، و"طفول" الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.
ويجد المتلقي نفسه يخوض في "هبوب الريح" تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين الأول (حارة الوادي) والثاني (سراة الجبل)، وسيندغم في اللحظات الحاسمة والفارقة في حياتهم حينما يقفون أمام خيارهم الأخير وهم يسمعون المغفور له بإذن الله السُّلطان قابوس بن سعيد /طيّب الله ثراه/ يقول: "عفا الله عمّا سلف"، ويخاطبهم: "إني أعدكم؛ أول ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية... سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل".
إضاءة حول السيرة الذاتية للمؤلفة
التّوبي نفسها روائية وقاصة عُمانية، خريجة جامعة السلطان قابوس، كلية الآداب، علم الاجتماع. صدر لها عدد من المؤلفات في مجالات إبداعية متعددة، وقد أصدرت عن دار "الآن ناشرون وموزعون": رواية "سجين الزرقة"، ط1 2020، ط2 2021، ط3، 2023. ورواية "البيرق.. حارة الوادي"، 2022. ورواية "البيرق.. سراة الجب"، 2023. ورواية "البيرق.. هبوب الريح" 2024. فازت روايتها "سجين الزرقة" بجائزة الإبداع الثقافي لأفضل الإصدارات لعام 2021م (الدورة الثانية عشرة)، التي تقيمها الجمعية العمانية للكتاب والأدباء.