الثلاثاء ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم محمود سعيد

التراث الحي

ازدراء الحاضر والتباكي على الماضي.

يكثر في هذا الوقت ونحن نمر في أوقات عصيبة أن يرجع البعض إلى الماضي، يتباكى عليه ويترحم على رجالاته، ونمتدح ظروفه، ويختلق بطولات ومآثر غير موجودة ليلصلقها ببعض رجالاته، لينفخ منهم مناطيد جبارة مثيرة مقدّسة، مغيراً حالها من جبن وتردد وإمّعة وتهافت إلى شخصيات عملاقة خيرة عظيمة جبارة. ويبدو أن هذه الظاهرة ليست بحديثة، فلقد كانت موجودة منذ الأزل، وهي نوع من الرجوع إلى فردوس الطفولة التي يحن إليها الإنسان، لكن النظر بعين العقل إلى الماضي ومقارنته بالحاضر بشكل علمي ومنطقي ترفع من شأن الحاضر ومنجزاته وما تحقق فيه وتزرع الأمل في المستقبل بالرغم من النكسات المتتالية التي لا بد منها، ولعل في قراءة ما كتبه بديع الزمان الهمداني إلى أستاذه أبي الحسين ابن فارس عندما رآه يهاجم الزمان وفساده ما يجعلنا ننحني احتراماً أمام المناقشة المنطقية والعقلانية التي طرحها بديع الزمان الهمداني.

قال الهمداني منتقداً أستاذه برسالته:"والشيخ الإمام يقول فسد الزمان، أفلا يقول متى كان صالحاً؟ أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وسمعنا بأولها؟ أفي الدولة المروانية وفي أخبارها لا تكسع الشول بأغبارها، أم البيعة الهاشمية وعلي يقول ليت العشرة منكم برأس من بني فراس، أم الأيام الأموية والنفير إلى الحجاز والصدور إلى الأعجاز كناية عن كثرة الحروب أم الإمارة العدوية وصاحبها يقول: وهل بعد البزول إلا النزول، أم في الخلافة التيمية وصاحبها يقول: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام، أم على عهد الرسالة ويوم الفتح وقيل: اسكتي يا فلانة فقد ذهبت الأمانة، أم في الجاهلة ولبيد يقول:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول:
بلاد بها كنا وكنا نحبــها
إذ الناس ناس والزمان زمان
أم قبلها وقد روي عن آدم:
تغيرت البلاد ومن عليها
فوجه الأرض مغبر قبيح

أم قبل ذلك وقد قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وما فسد الناس ولكن اطّرد القياس، ولا أظلمت الأيام، ولكن امتد الظلام."

وأبو الحسين بن فارس هذا الذي يحاججه الهمداني هو عبقريّ من أعلام القرن الرابع الهجري لغويّ وأديب له كتب مهمة منها معجم لغوي مهم هو المجمل في اللغة، وهو معجم أبجدي رائد، وكتاب الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، وكتاب مقاييس اللغة، وهو كتاب نقدي، وكان أستاذاً لبديع الزمان الهمداني مبتدع المقامات، أما المناقشة فقد بدأت عندما قرأ الهمداني ما كتبه شيخه، وهو: فسد الزمان، تغير علينا البديع..أي كثرت البدع.

ويعني الهمداني بكلمته أن الناس ينتقدون الزمان وفساده من غير وعي ولا منطق، ويتباكون على الماضي من دون تبصر، وهو في رسالته يفند ذلك التصرف، فيتساءل متى كان الزمان صالحاً؟ ويعدد المراحل التي مرت بها البشرية في زمنه وحتى بداية العالم كما كان المنظور السائد آنذاك، ثم يبين أن هناك دائماً من كان يتشكى من الزمان وفساده في كل عصر وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ، ويذكر بضعة عشر شاهداً على ذلك، مبتدئاً في الحقبة العباسية التي لم يرض عن نشأتها الكثير، ثم فترة حكم بني أمية قبلها والتي اشتهرت بقصرها، ويعرّج على فترات الخلافة الأخرى ويذكر شكوى علي بن أبي طالب وهو يتمنى أن يستبدل عشرة من جنده برجل واحد من جند الشام، وبخاصة من بني فراس الموصوفين بالشجاعة، ثم يشير إلى قول عمر عندما سمع الآية الكريمة: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً، فبكى لأنه كان يتوقع النقص بعد الكمال، ثم يذكر كلام أبي بكر واشتياقه لعصر الرسالة، ثم ما قالته العرب من قبل في الموضوع نفسه، ولعل أهم ما احتج به الهمذاني هو التساؤل الاستنكاري الذي تقدم به الملائكة على خلق آدم.

والهمداني عندما يعيب على أستاذه التهجم على الحاضر والتباكي على الماضي فهو يفند أحد أكبر الأخطاء الذي يقع به البشر بغض النظر عن ثقافتهم، وأديانهم وقومياتهم ومناشئهم لأسباب عدة تبدت من تصدي الهمداني لهذه النقيصة، للأسباب الآتية:
1ولاً- أن الحاضر أغنى من الماضي لأنه يحمل في طياته كل ما هو جديد، لأن كل شيء في الحياة العادية يتطور، وأن كل معضلة في الحياة في سبيلها إلى الحل، وأن ما كان يبدو من قبل مستحيلاً فهو الآن أمر اعتيادي، ومن نافلة القول أن نذكر السامع أن مجرد التفكير بالطيران في الهواء في الشكل المألوف في وضعنا الحالي كان أشبه بالمعجزة إن لم يكن ضرباً من الأحلام قبل مئة سنة فقط لا قبل مئات السنين.
ثانياً: خطأ الأحكام العامة التي تصدر من الناس في القضايا التي تطرح عليهم، فالبشر كانوا وما زالوا معتادين على إصدار تلك الأحكام في السلب والإيجاب، منذ آلاف السنين، وإصدار الأحكام العامة يتنافى مع الموضوعية لأنه يستبعد العلمية والتدقيق والموضوعية.

إننا نسمع وإلى حد الآن أحكاماً لا أساس لها من الصحة، تصدر من جهات يفترض أن تكون مثالاً للنزاهة والتجرد، فعلى سبيل المثال دأبت أجهزة الإعلام الغربية على تصوير العرب والمسلمين بشكل متخلف وإرهابي ووضيع وغبي، لسبب بسيط هو أن شخصاً واحداً أو فئة قليلة تعد على الأصابع من العرب والمسلمين ارتكبت ما يعتبر بنظر الأوربي أمراً إرهابياً أو متخلفاً أو مشيناً لكن حقد أجهزة الإعلام الغربية على العرب والمسلمين جعلتهم يعممون أحكامهم لتشمل كل العرب والمسلمين، ويصب في هذا الاتجاه ما حدث لإحدى السيدات التي سرقت سلعة زهيدة الثمن من أحد المحلات التجارية في لندن، وكاد الأمر يمر من دون ضجة ووفق غرامة بسيطة تدفع في مركز الشرطة إن كانت السرقة تحدث للمرة الأولى، لأن ذلك أمر طبيعي يحدث غير مرة في أي بقعة من بقاع العالم، لكن الشرطة ما أن علمت أن المرأة عربية حتى استدعت الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة التي صورت الحادثة وكأنها جريمة القرن، فأخذت نشرات الأخبار تعيدها وتلاحق تطوراتها طيلة أسابيع. ولعل من يتتبع الأمر يجد أن تلك المرأة بريئة، فقد التقيت محامياً عربياً في لندن في آخر سفرة لي، حدثني عن الواقعة وكيف جرت. المرأة التي اتهمت بالسرقة جاءت من بلد لا يعرف الاحتفاظ بالوصل بعد الشراء، ويرميه ما إن يتسلّم البضاعة، وكان صاحب المحل الشهير يكنّ عداءً للعرب، وعندما نقل إليه تصرّف المرأة، وعلم أنها عربية لأنها كانت تتكلم مع أولادها، وعرف بعادة رميها الوصولات. أمر رجال الأمن بالقبض عليها حينما تخرج من المحل، ومطالبتها بالوصولات. ولما شرحت له الأمر استدعى رجال الشرطة، وذهبوا إلى غرفتها في الفندق وصادروا كل ما اشترته وأولادها في عطلتهم، وقدّموهم للمحكمة، فأفرجت عنهم المحكمة لكنها لم ترجع لهم ما اشتروه.

ثالثاً: إن تشخيص هذه النقيصة في التفكير وهي ذم الحاضر والتباكي على الماضي ورجاله، هو بحد ذاته إنجاز فكري كبير يستدعي التوقف عنده، فالهمداني عاش قبل أكثر من ألف سنة، آنذاك كان التمرد على تعاليم الأولين جريمة لا تغتفر، فالشيء المألوف في ذلك الوقت أن يطيع الطالب أستاذه وأباه ويخضع لولي الأمر في الحق والباطل، أما إن كان ذلك التمرد يمس رموزاً مقدسة فذلك يعني أن الجريمة مضاعفة، وتمرد الهمداني على أستاذه يعني التحرر العقلاني من التزامات مهمة يفرضها المجتمع والتراث والتقاليد وهو أمر أساسه العبقرية وقوامه المنطق والعقلانية.
رابعاً:لم يصدر هذا التفكير المنطقي عن شخص عادي كما أسلفنا، صدر عن بديع الزمان الهمداني، وهو عبقري ومبدع كبير قدم هو والحريري جنساً أدبياً مهماً هو المقامة، والمقامة قصة فنية قصيرة، ولكنها تنحو منحىً تعليمياً في إطار فكاهي ساخر يتخذ من شخصية متفردة تتمتع بمواهب عبقرية تمكنها من تجاوز صعوبات الحياة الكابوسية.

كان ظهور المقامات في ذلك الوقت حدثاً في غاية الأهمية أشبه بظهور الفلم السينمائي في بداية هذا القرن، الأمر الذي جعلها تنتشر في كافة البلدان العربية والإسلامية، وتعبر إلى أوربا عن طريق الأندلس، وسبب ذلك أنها استقطبت الجميع خاصة وعامة كالفلم السينمائي بالضبط، فقد كتبت بأسلوب فصيح سهل ممتنع يفهمه الجميع، وكان البطل فيها شخص شعبي ظريف يمتهن التشرد والاستجداء والاحتيال والتسول، مما جعله يغير بلده ومهنته ويتقمص أكثر من شخصية واحدة ببساطة، كل ذلك جعل قارئ المقامة ينبهر ويعجب ويتمتع بكل ما يرد في المقامة.
لذلك كان للمقامة تأثير كبير على الأدب العالمي فقد حذا حذو الهمداني أكثر من أديب يهودي، وسيرياني، وإسباني، وإنكليزي وغيرهم من الذين يتخذون من المشردين والمستجدين وأبناء الشعب العاديين أبطالاً يستثيرون العطف والسخرية ويمثلون كافة نماذج الحياة.

*لقد كان الداعي لتطرقي إلى التراث في هذه المقالة أني وجدت أن هناك ظاهرة محمومة تبدت واضحة في الاقتطاع الوحشي من كتب التراث، ظهرت في وقتنا الحاضر، فلكي يملأ بعض المحررين صحفهم أخذوا يلجؤون إلى التراث ينهشون منه لإشباع شهواتهم المرضية وليعوضوا بذلك الاقتطاع عن مواهب معدومة أصلاً، فتراهم ينسخون ما يعجبهم من مواقف وآراء اطلعوا عليها في الكتب القديمة من دون التعليق عليها أو من دون وضعها في سياقها، أو تراهم أعادوا طبع كل ما هو غريب وعجيب وخارق مما لا يتسق والفكر المنهجي العقلاني، ليدللوا على ضعف تراثنا وبعده عن التفكير المتزن، وكأن تراثنا العربي وحده يخلو من المنهجية والعقلانية ولا يقتصر إلا على السخف والهراء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى