الثلاثاء ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٢
مذكرات سهى بشارة المناضلة الاسيرة المحررة من سجن الخيام في جنوب لبنان
بقلم سهى بشارة

الحلقة الحادية عشرة - سهى بشارة معتقلة

دخلتُ الى معتقل الخيام وأنا في الحادية والعشرين من عمري، من دون أن أعرف الزمن الذي قد استغرقه في المعتقل.

كانت الأيام الأولى فيه منهكة للغاية. وراح الاستجواب عن ماضيّ وعن العملية يتوالى عليّ بلا توقف، ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل وجدتني في زنزانتي أمام سيل من الأسئلة الملحة، تطرحها علي المتعاونات اللواتي كن دسسن في الزنزانة نفسها، لغاية نقل بعض المعلومات عني الى الحارسات، طمعاً في نيل رضاهن. ومنذ أن صوب أحدهم مسدسه على صدغي، بعيد العملية بالضبط، تباعد شبح إعدامي بلا محاكمة، ولا سيما بعدما علمتُ أن أنطوان لحد نجا من العملية، ولم تمته الجراح البليغة التي أصيب بها.

وبعد مضي أسابيع عديدة على اعتقالي، وجدتني لمرة أخرى، أمام سمير. ولم تكن العصابة على عيني، بصورة استثنائية. فطرح علي مستجوبي أسئلة عامة جداً، أسئلة صحافي ليس إلا. وكان هو من استخدم العبارة الأخيرة. وسألني عن آخر أمر أقوم به إن ثبت لي أني سوف أعدم. فأجبتُ بأني قد أغني أغنية لمارسيل خليفة، أغنية تحتفي بالمقاومة وتمجدها.

فيما مضى، لم أعرف إلا قلقاً حقيقياً واحداً، أثناء الاستجواب، على الدوام. ذات يوم، وبينما الاستجواب جار، إذا بصوت صفارة الإنذار تقطع الاستجواب. أُمرتُ بأن أقوم سريعاً، مكبلة اليدين ومعصوبة العينين. وخيل إلي أن العالم كله ينقلب من حولي. وعُهد بي الى الحارسات، اللواتي رحن يصرخن بي أن أركض. وبينما أنا أعدو، أخذتُ أسألهن بإلحاح: "ماذا يجري؟، ماذا يجري؟". فترد علي إحداهن بالقول إنها لا تعرف شيئاً.

وفي آخر المطاف، أُعدتُ الى زنزانتي.

كان ذلك إنذاراً خاطئاً.

وفي خلال تلك الأسابيع الأولى، التي مثلتُ فيها أمام "سمير"، أو حيال أحد معاونيه، وهي من المرات النادرة، لم أكف عن المواربة والكذب في كل ما يتعلق بي، بالتحديد. وكنت أقاتل القهقرى، مشوشة الذهن غالباً للتحقيقات التي يجابهني بها مستجوبي. فذكرتُ لهم أمراً كاذباً منذ اليوم الأول. ولم تمض ساعة على الإقرار بانتماء عصام الى المقاومة حتى طلبت أن أرى مسؤولاً لأبرئ قريبي. وفيما بعد، كذبتُ بشأن المسدسين، مؤكدة أني ما كنت أعرف أن المسدس المستخدم حُشي رصاصات مسمومة، ما بدا أمراً محال التصديق لجلادي. وكان كل كشف عن كذب جديد مناسبة لسيل من التهديدات لا ينتهي. وجعل هؤلاء يؤكدون لي أنه في حال ثبت لهم كذبي ومجانبتي الحقيقة، فإن لي شر المصير. حتى أن أحدهم زمجر وقال: "أعرف دوماً كيف أجدك، حتى في بيروت، وحتى بعد عشرين سنة".

وبالمقابل، كنت كلما سئلت عن الوقائع التي نقلها كل أولئك المستجوبين بالتزامن معي، أجبتُ بلا تردد أو تحريف. وهكذا، حدث أن أثبتُ واقعة أو أخرى كان من شأنها أن تحير مستجوبي. ومثالاً على ذلك، ما جرى لي قبيل العملية، إذ عبرتُ الأراضي اللبنانية حقاً الى إسرائيل، من دون إذن، ولساعات قليلة، وكانت صديقتي "صفاء" التي تعمل في الإدارة المدنية، وتعنى بتوزيع أذونات المرور الى العمال اللبنانيين العابري الحدود بين البلدين. ولم يكن لاختراقي الحدود والنفاذ الى إسرائيل أي هدف خاص، إنما لأبين نقاط الوهن في النظام المتبع لحماية الدولة العبرية.

ورأيتني أغوص في مرحلة الاستجواب هذه أشبه بنفق لا قرار له. وشق علي أن أميز الجلسات، بعضها عن بعض، لتشابه مساراتها. وصارت الأسئلة، وعمليات التعذيب بالكهرباء، وصار كل شيء ينمى، في عيني، الى نوع واحد من الرتابة.

مرة، استُدعيت للتحقيق في منتصف الليل، حالما وصلتُ، أمرين أبو فارس أن أخلع ثيابي. ورحتُ أنزع عني الثياب، شيئاً فشيئاً، وفي بطء لافت. ثم أمرني بالكف عن ذلك. ثم عاد "سمير"، بعد حين، وطلب مني أن أعطيه أسماء المسؤولين السريين في الحزب، فاكتفيت بإعطائه لائحة أسماء حزبية معروفة رسمياً وعلنياً، زعمتُ فيه أنه يدل على بنية الحزب السرية. وفيما بعد، دعاني مستجوبي الى رفع العصابة عن عيني. وإذ رفعتها وجدتُ مسدساً موضوعاً أمامي، وأمرني قائلاً: "خذيه!" غير أني لم أستجب لدعوته.

ومنذ ذلك الحين، ألفيتني وقد عبرتُ عتبة السجن، لأكتشف العنف والألم في أفظع صورهما. فكلما كان جلادي يضربونني أو يشغلون المحول الكهربائي الموصول الى جسمي عبر مسربين، حل الفراغ في رأسي، وما عدتُ أفكر في شيء، ورحتُ أصيح من شدة ألمي. وأشدُ ما كان خوفي، من الوقفات، حين توقف الذراع، التي تحرك ممساك المحول، سباقها، وحين يجن الذهن تحت وطأة الأسئلة، منتظراً عودة الشر، برعب صارخ.

ولكن أفظع الآلام هي تلك التي يستشعرها المرء وهو في قاع زنزانته، إذ يسمع صراخ الآخرين أو الأخريات وهو يثقب رأسه بلا انقطاع، لأنه يدرك ما تحياه تينك النسوة، أو هؤلاء الرجال الذي يتعذبون هنالك، خاضعين لنير اللاإنسانية نفسها، ومعذبين من قبل الجلادين أنفسهم، ومذلولين ومشوهين على أيدي الوحشية نفسها.

وتواصلت جلسات الإستجواب ، غير أن ملفي ظل عصياً على التقدم. وفي خلال استجواب كان يجريه كل من سمير ووائل، إستاء هذا الأخير بصراحة من عدم فاعلية زميله. لوائل صيت مرعب. فهو الذي يستجوب الرجال جلسات أقل ما يقال فيها إنها أشد هولاً من جلسات استجوابنا. "سمير، لا يعرف كيف يعذبك، معي الأمر مختلف!". مع ذلك، فقد ظل السمتجوبون يتبعون التعليمات الصارمة من قائد معتقل الخيام، أو نبيل. فلم أُعذب إلا بالكهرباء.

الى ذلك، فإن سمير لم يضربني إلا مرة واحدة، بعد استجواب جرى لي، في حضور والدتي، التي كانت معتقلة في معتقل الخيام ، بدورها.

ذلك اليوم، كنت جالسةً، مكبلة اليدين ومعصوبة العينين، وكانت والدتي قد أدخلت الى الغرفة التي تطرح فيها الأسئلة. وجعلت تحثني على إعطاء المعلومات، وعلى رواية كل ما جرى في ما خص العملية وتحضيرها. وراحت تحثني قائلة: "أنقذينا، وأنقذي نفسك!". وفي حينه لم أكن أرغب في الشعور بالذنب لأني جررت أهلي الى هذه المغامرة، حتى ولو كنتُ أخشى عواقبها على عائلتي. وخطر لي في هذه اللحظات، وعبر آلية غريبة في النفس كانت تدفعنا الى إعلاء الأمور الثانوية في الظاهر على ما عداها، أن عائلة خطيب أختي وعاشقها باتت تعترض على علاقتهما، ما دامت لا ترضى عن المقاومة اللبنانية، ولا تطيق ذكرها، على حد علمي.

والواقع أن والدتي استشعرت، بدوره، تضغطاً هائلاً عليها، إذ تمثلت وضعي في هذه اللحظة. فهي تراني سجينة، في حين أن جهاز الأمن يحال إقناعها بأن زوجها يضاعف من تدخلاته العلنية الى جانب حزبه الشيوعي اللبناني القبيح، وهذا محض ادعاء، غير أني ظللتُ معاندة، وصامدة كالصخر، حيال كل التماساتها. وفي خلال دقائق معدودة، أمر "سمير" بإرسال والدتي، وراح يضربني على رأسي، وقد أخرجه صمتي عن طوره.

وفيما بعد، فاجأت والدتي المستجوبين في ما خصني. إذ قالت: "لم تتحرك قيد أنملة، إنها لقوية هذه الصغيرة".

وبقيت على هذه الحال، من الاستجواب والتعذيب وما تلاهما، ثلاثة أشهر تقريباً. أشار إلي سمير، حال انتهائها، بأن ملفي سوف يبقى مفتوحاً، وأنني سوف أُعاد الى الاستجواب إن وردتهم معلومة جديدة في حقي، وقال: "لا تُسري كثيراً، الآن سوت تكتشفين الموت".

وبانتهاء الاستجوابات، فقدتُ إيقاعاً للحياة، اعتدتُ خلاله على السجن، رغماً عني. كذلك وجدتني مفتقدة الى الاتصال المباشر والمنتظم بغير المسجونين، رغم كونه شديد الإيلام وكريهاً للغاية. وابتدأ، منذ اللحظة، شكل آخر من صراع البقاء، يفيض شكاً وتقلباً.

ووضعت نصب عيني هدفاً.

فما دمتُ لم أمتْ وسلاحي في يدي، لأن إعدامي صار مستبعداً، فقد بات علي أن أهيئ نفسي لفترة اعتقال طويلة. ورحتُ أحدد في ذهني تاريخاً معيناً، وهو العام 2000، خاتمة لاعتقالي.

وكان تحليلي، الذي اعتمدتُ عليه في وضع هذا التاريخ، سياسياً بحتاً. وفكرتُ أن الإسرائيليين، في هذا التاريخ، سوف يغادرون لبنان، نهائياً. ولماذا في مدى اثنى عشر عاماً؟ ربما لأنهم كانوا دخلوا الى لبنان واحتلوا جنوبه لإثني عشر عاماً أخرى، أي زمناً مشابهاً لذلك الماضي. وربما لأن المقاومة اللبنانية لم تبد ضعفاً، إنما رأيتها على العكس. تزداد منعةً، منذ العام 1982، وأن حرب الاستنزاف هذه التي تخوضها المقاومة على أرضها ضد إسرائيل لا يمكن أن تكون لصالح الأخيرة، أقله في المدى المتوسط. كنا لا نزال في العام 1988، وكنت أردد لنفسي أنه لا يزال أمامي، أقله، عشر سنوات، وهو رقم مصفر، أو اثنا عشر عاماً في أقصى حد. وهذا ما أجبتُ به، على نحو عفوي، إسرائيلياً أتى يسألني، في العام 1990، إذا ما كنت أعرف المدى الذي قد أحرر فيه "أيكون في أربع سنوات؟"، فأجبته "إنما في عشر!".

إذاً، وبينما كنتُ أهيئ نفسي لهذا الموعد البعيد، إذا بمعاناة جديدة تبدأ. فالزنزانة حيث كنت نازلةً الى جوار فتيات أخريات، كانت قائمة قريباً من غرفة الحارسات. وهؤلاء غالباً ما كن يدخلن الى سجننا، ويصحن فينا لنصمت، ويفتشننا تفتيشاً دقيقاً. وما كنت لأخرج من هذا السجن إلا لألتقي قائد معتقل الخيام. أبو نبيل. كان هذا الأخير في الثامنة والأربعين من عمره، طويل القامة، ذا شاربين وشعر غزاه الشيب كله. وكانت قسماته النحيلة تبرز نظراً حاداً ونفاذاً. وجعل يوحي إلي وكأنه ذئب على أهبة الإنقضاض على فريسته. وهو لمزاجه البالغ الحدة، كان يسعه الإتيان بأشد الأعمال عنفاً لأجل أن يحطم إرادة الذين عُهد بهم إليه. أبو نبيل هذا، ينتمي الى بلدة صغيرة قريبة من مرجعيون. فبعد أن كان جندياً عادياً في الجيش اللبناني. رأيته أول الواصلين الى معتقل الخيام، الذي سرعان ما تولاه وصار تحت سلطته.

وحين التقيته، دعاني الى أن أحفظ هدوئي وأن أقنع زميلاتي بالأمر عينه. وراحت زياراتي الى مكتبه تبث الاضطراب في صفوف المعتقلات من زميلاتي، وعمت التساؤلات في ما بينهن حول إمكان انضمامي الى صفوف السلطة، فأصير متعاونة معها. وكلما وجدتني حيال أبو نبيل ألبث صامتة بكماء. وعلى أي حال لستُ بالمرأة الضاجة للغاية. غير أن توبيخاته لي لم تكن سوى حجج لأمر آخر.

وذات يوم، أقبل الحراس وأخرجوني من الزنزانة، بفظاظة، ومن دون أي سبب ظاهر. رموني أرضاً، وأخذوا يضربونني بسوط مسمر، على ساقي، وعلى باطن قدمي، ورحت أعد الجلدات. وفي الجلدة الثانية عشرة، خانتني ذاكرتي. وكان أبو نبيل منتصباً أمامي. وقال وائل: "الآن، لا نريد أن نسمع لك صوتاً، ولا حتى تنفساً" وكان هذا الأخير بلغ به الغيظ أشده لموقفي أثناء الاستجوابات، وقرر في الواقع أن يحطمني، أن يعمل كل شيء حتى يجعلني متعاونة.

وحين عدت الى زنزانتي وجدتها فارغة. وقد نقلت رفيقاتي الى زنزانة أخرى. وصرتُ وحدي.

وراحت ساقاي تؤلمانني. لم أكن لأتنبه للأمر في بداية التأديب، غير أني لم ألبث أن أدركت. فكانت بعض جروحي مفتوحة تنزف دماً، وأخذت مفاصلي تتورم تحت ناظري. وجهدت الليل كله، في القيام بتمارين، وفي المشي لأتمكن في الغد من مواصلة طقوسي في السجن: ترتيب الزنزانة، والحمام، والحصول على المياه ووجبات الطعام.

وما أن أقبل الصباح، حتى صارت الآلام رهيبة، لا تطاق. ولما أخذت الشفقة بالحارسات اقترحن علي أن تعينني إحدى المعتقلات، فرفضتُ الإعانة. وتوصلت، كيفما اتفق، الى أداء مهماتي اليومية، وظللتُ ثلاثة أيام وحدي. ومضيت أسائل نفسي عما جرى لي. ذات صباح، أدخلت فتاة الى زنزانتي، وكان اسمها "مقبولة". وكانت هذه الفتاة، التي اعتقلت بالصدفة، الى حد ما، تعاني انهياراً رهيباً، يقارب الجنون. فهي إذ أصابها اعتقالها بالصدمة، انطوت على نفسها ، وراحت تكرر الكلمات نفسها تكراراً متواصلاً، وبالنبرة الصوتية نفسها. وجهتُ إليها السؤال محاولة أن أعرف المزيد عن ظروف اعتقالها، غير أن ذلك بدا مستحيلاً. إذ كانت تبدي خوفاً غير مبرر ولا عقلاني، وكانت تخشى على الدوام من أن تجر كل عائلتها الى الاعتقال والتعذيب. وبدت يداها زرقاوين لفرط ما لوتهما. حاولت العناية بها. ولحسن حظي، بدأت حالتي الصحية تتحسن. ولم تمض ثمانية أيام حتى اختفت العقابيل من جسمي.

وفي وقت لاحق، وافتنا فتيات أخريات.

وسرعان ما رحن يتشكين من تصرف "مقبولة" التي جعلهن مسلكها عرضة لمحنة عصبية قاسية للغاية. فسعيتُ، والحال هذه، الى مخارج معقولة، ألعاب جماعية صامتة تجنباً لتركيز الإنتباه عليها.

غير أن معاناتي، سوف يكون لها أن تتجدد. فأنا الآن بتُ في مدى بصر أبو نبيل، الذي يريد أن يخضعني. فسرعان ما ثقل ملفي بتهمة جديدة. ومفاد الأمر، أنه لدى وصول معتقلة جديدة وبلوغها المعتقل للتو، حاولت أن أبعث لها برسالة محذرة إياها من المعاونات اللواتي يتلقفنها في الزنزانة. فدسستُ الرسالة في بنطلون هذه الفتاة، بعدما ثبت لي أنه لها، وهي كانت نشرته في الغرفة المخصوصة بالاستحمام والغسيل في آن، ولم تلبث هذه المرأة الشابة أن اكتشفت الرسالة، ولشدة دهشتها راحت تقرؤها أمام رفيقاتها الثلاث في الزنزانة. بالطبع، لم يطل الوقت حتى أُنبئ أبو نبيل بالأمر. فاستدعاني وأكد لي أنه يعرف كاتب البطاقة.

ومع أني لم أكن مقتنعةً بيقينه، قررتُ أن أوضح ملابسات البطاقة، متحملةً مسؤولية كتابتها. وأعلنتُ تحدي لقائد معتقل الخيام، إذ أكدتُ له أني سأفعل دوماً ما يحلو لي.

والحال إن شعوري بالإضطهاد والظلم طالما دفعاني الى التمرد عليهما. ولم يتأخر جواب جلادي. إذ أبلغني أنه سوف يكون علي الإقامة في الحبس الإنفرادي، وأردف يقول: "سوف تبقين وحدك، طالما رفضت العمل معنا".

وها أنا محكوم علي بالانعزال التام عن زميلاتي وعن العالم. كُبلت يداي بالأصفاد، ووضعتا وراء ظهري، ثم أُخذت الى الزنزانة رقم 7، "الزنزانة الصغيرة" كما أسميتها، وهي كناية عن علبة صغيرة وضعت فيها فرشة وشرشف. وكان يحق لي بنظام غذائي خاص، هو كناية عن وجبة طفيفة، تُقدم مرةً في اليوم، وينبغي لي قضمها في عشر دقائق، المدة التي تفك فيها يداي، إضافة الى كأس ماء واحدة، مساءً. أما بالنسبة للحمام، فلم يكن مسموحاً لي، إلا مرة في الأسبوع. وهذا في المبدأ، أما الواقع فهو أن جلادي غالباً ما كانوا ينسون رفعي من كهفي.

تملكني التحدي، فتشبثت بإرادتي. وحاولت أن أقوم بتمارين في موضعي، لأظل نشطة، غير أني كنت مفتقدة الى الغذاء. وقررتُ على الرغم من وجبتي الوحيدة، ألا أندفع الى الطعام لألتهمه، أي أن آكل وجبتي في بطء لأجنب نفسي مشاكل في المعدة. بيد أن الدقائق العشر التي كانت أعطيت لي راحت تمضي سريعاً، وغدوت نحيلةً. وصار البنطلون الذي أرتديه واسعاً على خصري، لانعدام الحزام فيه. وفي وقت قصير، نسبياً، وبعد محاولات كثيرة للالتواء، أمكنني أن أمر يدي المكبلتين تحت قدمي ثم أجعلهما أمامي، مما أتاح لي النوم بأقل صعوبة ممكنة، ما دام الأمر الأساسي لي هو القيام في الوقت المحدد، صباحاً، لأستعيد سريعاً الوضعية "النظامية"، في حال حظيت بزيارة مبكرة.

وفي خلال أسبوعين، لقيت الحارسة الموكلة بالمرور علي لتضع القصعة المخصوصة بي، صعوبةً بالغة في فك أصفادي من يدي. فقلت لها إن ثمة حلاً آخر: ورحت أمرر يدي أمامي، ولما كانت غير مصدقة ما تراه، دعتني الى معاودة ذلك، فنجحتُ فيه إثر حركات معدودة. وكنت على يقين بأن أبو نبيل سوف يطلع على الأمر، وأردت أن أبين له أن ساعدي لن تنثني له. وفي الليلة ذاتها، زارني وائل. إذ قرر أبو نبيل أن يقيد حركتي، ويجعلني في وضعية غير مريحة على الإطلاق: ربط العرقوب الأيمن بالمعصم الأيمن. وسألني جلادي قبل أن يعود أعقابه، ساخراً: "هل أنت سعيدة؟ هكذا أحسن، الآن". فرددتُ عليه، مجهدة، بابتسامة. وكان هذا العقاب الجديد وحشياً. إذ آلمني قيامي بأي حركة أو تمرين. ولم أعد قادرةً على الوقوف. ولحسن حظي، فقد أنقذني قدم الآلات. فرأيت الأصفاد تتوقف عن العمل، ولا تنفتح بالمفاتيح كلما حاول الحراس نزعها من يدي لسحبي من حبسي هذا، تمهيداً لإرسالي الى الغرفة المخصوصة بالحمام. وبعد أن أعيتهم الحيلة، خلصوا الى انتزاع الأصفاد. فعدت الى وضعيتي الطبيعية، غير أني بقيتُ وحدي. وحتى أظل متماسكةً رغم الظروف، عاندتُ وضعي وأصررتُ على التمارين الرياضية، أقوم كل يوم وأمشي ما يعادل الأربعة كيلومترات. وكان تحريك الجسم يقتضي مني قدراً كبيراً من التركيز، نظراً لضيق المكان. فكلما وقفتُ في منتصف الزنزانة، وظهري الى الجدار، وجدتني على بعد خطوتين من الباب. وصار علي أن أدور على محوري، وأنفذ خطوتين أخريين، وأعيد الدوران على محوري وأكرر آلاف المرات هذه الحركة، يعينني في ذلك قدر كبير من حضور الذهن، يقيني من عدم الاصطدام بأحد الجدران من حولي.

وفي أيلول / سبتمبر من العام 1989، أسجل في دفتري البشرى الثانية، بعد انتزاع الأصفاد من يدي. ومفادها أن إدارة السجن خصتني بفرشة وشرشف. وبضربة واحدة، اكتسبت زنزانتي مرتبة عالية، حازت بموجبه مكانة الفنادق ذات النجوم الخمس. وكانت تلك الهدية نشوةً لخاصرتيّ اللتين ازرقتا في الليالي العديمة الراحة.

وكان أن انتهت أول حقبة لي في الحبس الانفرادي، بعد عشرة أشهر. ولن تكون الأخيرة. ولسوف أرسل، بالتناوب، الى الزنزانة رقم 7 أو الى الرقم 27، وهي الأقل ضيقاً.

وفي خلال هذه الشهور العشرة، عمد أبو نبيل الى قطع إقامتي في الحبس الانفرادي. في المرة الأولى، استدعاني الى مكتبه ليعرض علي مقايضة جديرة بالإعتبار. فسألت: "وما تكون بضاعة المقايضة؟" فقال إن الإسرائيليين لا يزالون يبحثون عن الطيار "رون أراد" الذي اختفى فوق لبنان. وهم يشكون في أن يكون حزب الله قد أمسك برجلهم ويأملون في أن تساهم رسالة ممهورة باسمي، تطالب بتحرير الطيار الإسرائيلي، في التقدم بهذا الملف.. وعبثاً سعى. فرد بدهشة عظيمة: "يسعك أن تساعدي كل الناس في السجن!". غير أني رفضتُ الخضوع للإبتزاز وأنكرتُ كلمة السجن. "إني في معتقل. أما السجن فهو المكان الذي يودع فيه الناس حالما يحاكون محاكمة صريحة، الأمر الذي لا ينطبق علينا".

ورغم هذا الرد، إقترح علي أبو نبيل أن أكتب رسائل يسعى جهده لإبلاغها الى المعنيين مباشرة. وكان أول من ورد في خاطري أهلي. فكتبتُ رسالة إليهم طالبةً منهم أن يتفهموا الدوافع التي حملتني على محاولة اغتيال أنطوان لحد. ونصحتهم بمواصلة حياتهم وكأن شيئاً لم يكن، ولا سيما عدم القيام بوساطات لدى أعدائنا من أجل تحريري. ومن ثم كتبتُ رسالة الى رئيس الاتحاد السوفياتي، في حينه، ميخائيل غورباتشوف، وأخرى الى الأمين العام للأمم المتحدة ، الذي كنت أجهل اسمه، حيث وصفتُ له مطولاً ظروف حياتنا البائسة، ولا سيما المشاكل الصحية التي تواجهنا يومياً. وكنت على يقين بأن رسائلي هذه لم تذهب أبعد من مكتب الإسرائيليين المولجين بالإشراف على معتقل الخيام، إلا أني أردت أن أضعهم حيال مسؤولياتهم. أما الرسالة الثالثة فكانت موجهة الى الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني وكل الأحزاب الوطنية اللبنانية. وكانت بمثابة نص صغير، حثثتهم فيه على إيلاء الصراع ضد المحتل الإسرائيلي كل اهتمامهم.

ولم يكن لدي شك، على الإطلاق، بأن هذه الرسالة لن تبلغ بيروت.

وما أكد ظنوني عدم رضا أبو نبيل عما كتبته. وعليه، فقد أمرني بأن أطلب من الحزب الشيوعي التوسط لصالح "رون أراد" ولمعرفة مصيره، فرفضتُ الإذعان واستعملتُ قلم الحبر الذي أعطاني إياه لأرسم أزهاراً وقلوباً على الجينز الذي كنت أرتديه. فأتاني رده سريعاً، بمصادرتهم ذلك الجينز، وأبدلوه بعباءة فضفاضة.

وفي المرة الثانية، استدعاني أبو نبيل ليقول لي إن مقابلة سوف يجريها معي صحافي. وأمرني أمراً مشدداً، بالقول إن الأمور تجري على خير ما يرام في معتقل الخيام، وأني اعامل معاملة حسنة، وحتى أن لدي الحق بالنزهات في الهواء الطلق، وبعد قليل، التقيت بإسرائيلي طرح علي أسئلة كثيرة. وسألني عما أنوي فعله إن خرجتُ من المعتقل. فأجبته بما يذكر بموقفي الأول المبدئي، مبينةً له الفرق بين السجن ومعسكر الإعتقال، ما جعل أبو نبيل يشتعل غيظاً. فلم يتمالك عن الرد: "إنها لا تكف عن ترداد هذا الكلام!". غير أن الإسرائيلي تجاوز هذا التفصيل وذكرني باسم "رون أراد". فأجبته بأن هذا ليس من شأني.

لم يمض يومان حتى أُمرت بالاستحمام، ثم وضع الغطاء على رأسي، فأيقنتُ إن الاستجواب قريب. أخرجت من زنزانتي، مكبلة اليدين، معصوبة العينين. وعلى بعد خطوات قليلة داخل المعتقل، أُمرت برفع العصابة. فاكتشفتُ حوشاً واسعاً بعض الشيء، وقد أحيط به سياج شائك. كان ثمة أربعة رجال أمامي، وخلف طاولة، هم: أبو نبيل، وسيزار، ومصور، وشخص رابع لا أعرفه. كان صحافياً بالتأكيد. طلب مني إن كان بوسعي الكلام بالفرنسية. فأجبته بأني أفضل العربية، غير أنه أصر على متابعتي الكلام بالفرنسية. فكانت أسئلته الأولى تركز على العملية. كيف اتخذت القرار بالإعداد لها وتنفيذها؟ وهل أنا نادمة؟ وهل أراني مستعدة لتكرارها؟ وظل أبو نبيل يحثنا على الإسراع. فالزمن محسوب بدقة. ثم أراد الإسرائيلي أن يطلع على رأيي في ما خص أخذ الرهائن، فشرحتُ له أني ما زلتُ معارضة هذا النوع من الأعمال.

وكنت متنبهة جداً لما أقول. ذلك أن هذا الصحافي ما كان ليبلغ معتقل الخيام لولا موافقة الإسرائيليين، وكنتُ أشك أن يكون عملهم هذا مجاناً، إنما كان محاولة جديدة منهم للتقدم بملف "رون أراد". وفي نهاية المقابلة، التي لم تدم سوى عشرين دقيقة، التقط لي الصحافي بعض الصور. وقبل أن يغادرني قال إنه يدعى "روجيه أوك" وأنه كان ذات يوم رهينةً لدى حزب الله. وأوصاني أخيراً إذا كان لدي رسالة أريد إبلاغها الى أهلي. فقلت له إني بخير وآمل أن يتابعوا حياتهم كما يتمنون.

وفيما بعد، أمكنني أن أقرأ مقالته التي أخالفه فيها، غير أنها مكنت أهلي من الإطمئنان علي، أني ما زلتُ حية أرزق. وبعد هذه الزيارة غير اللائقة، عدتُ الى صمت معتقل الخيام المطبق.


مشاركة منتدى

  • انا عندي سؤال لماذا لا تقوم الخت سهى بشارة بكتابة اسماء المعتقلين فردا فردا ووضعهم في الانترنت وذلك لكي لا ينسى الناس انهم كانوا في المعتقل وانت كما تعري ذاكرة الناس ضعيفة ولا بد من صفة باسماء المعتقلين وصورهم اذا امكن لتكون صفحة وصمة عار على جبين الدول التي تتعامل مع اسرائيل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى