الثلاثاء ١٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٣

الشاعرة سليمة ملّيزي في حدائق الغفران..

سعد الساعدي

صدّرت ديوانها بكلمات مقتضبة جداً، عرّفت بها الشاعرة الجزائرية سليمة مليزي الكتابة شفعتها بالكون وإبداع الذات، وجماليات الروحانيات انطلاقاً من فلسفة ديوانها"حدائق الغفران"وهو الديوان الرابعة ضمن إصداراتها الشعرية، التي حملت إحدى القصائد عنوانه وكأنها استذكرت أبا العلاء المعري في رسالة الغفران. من هناك انطلق المعرّي بعيداً عبر حدود الأرض إلى ما بعد السماء، ومن هنا حلّقت شاعرتنا بعيداً جداً في فضاءات سحيقة لتبدأ ترسم بوجدانها خلجات الروح العاشقة وحبها الآمتناهي ؛ فكانت أولى القصائد دروب:

وأنتَ تمازحني في دروب معبّدة بالفرح...

سرقتْ منكَ قبلة الصباح...

ابتدأت متفائلة فرحة وكأنها فراشة بين بساتين تحلق من وردة إلى وردة، ومن عطرٍ إلى شذا ومن روح هاربة إلى كشف جديد تعلّق في أعماقها، ليسكن معها أبداً، بين ثنايا ألوان تحب أن تختارها بدقة فائقة، وهذا ما عرف عنها دائماً ؛ لكنها الآن اكتشفت مزيجاً متجانسا منه كي تبقى محلقة مع قارئها إلى آخر حرف من آخر قصيدة رسمتها تلك الألوان.

منْ لا يعرفني؟ هكذا قصائدها تقول، أنا معكم وبينكم أعرّفُ نفسي، أبوح ولا أتردد، وأقول: ها أنا ذا إبنة الجزائر ذلك الوطن الذي شرّف التاريخَ أسمُه، فكان نزيف الوجع، الأحلام، العشق، الذي تنهيه ببسمةٍ طالما تعلمتها من الوطن الباسم.
سليمة ملّيزي التي عرفناها مولعة بأدب الرحلات، وجمال الطبيعة أين ما حلّت، وصورة البحر، وحدائق باريس، لم تتردد يوماً في عناق طويل مع الصباح، وأوراقه، والطير وغنائه، فغرّدت بالحب كثيراً لتمنح الهوى شوقاً زرعته:
لا منحَ الدّهرُ ربيعاً..

وأساطير الحبِّ وما قرأته.

في رحاب حدائق الغفران سيندهش القارئ وهو يرى تجلّيات وجماليات تتجدد مع كل كلمة فيها، كأن الشاعرة ولدت من جديد للحياة، هي ترسمها وليس العكس، بواقعية لائذة بجوار الورد تصحو في كل الفصول، ولا تجد غير البسمة والفرح.

تفاؤلية عالية جداً نراها هنا مع عيابات كثيرة وتمرد فكري لا يبالي من أحزانه، صياغات متفردة لا تحمل إلاّ رمزاً واضحاً للحب والحياة. هنا لابد من الالتفاتة بشكل مركّز، ومختصر لما تكتبه المبدعة ملّيزي على طول خطوط الجمال لديها، إنها تميل برمزيتها المتدفقة إلى بقاء القارئ بلا تشتت متابعاً مستأنساً مع ما كتبت، فهي تعرف منذ البدء إنها تبعث رسائل لابد أن تُفهم بلا عناء ومشقة لكنها تحتاج لتأمّلٍ عميق لأنها تأملت كثيراً في ما يبدو باختيار المفردة النقية بعناية فائقة كي تسمو بما تصنع، ومعها بسمو المتلقي بجميل ما
يقرأ.

في تراتيل التمني صورة جميلة تنعش المتلقي حين يسمو ـ هو ـ مع جمال طبيعي، وخيال غير غارق بظلام مُدَهْلز، لا مكان له ولا زمان: ومن غيرك يشعل فتيل عشقي؟

أيقظ الحنين من عمر التّمني.
تراتيل الشوق..

لا تتعثر سليمة أو سلمى كما يحلوا لها أحيانا التوقيع بين الأساطير وعبق التاريخ، بل تسبر كل الأغوار بانسيابية رحّالة متمرس عارفة بكل الطرق، وحين تبحث بين كل الأوراق القديمة، تجدها دائماً مبتهجة بما تحمل من مأساة ومرارة، وكأنها تتجول في حقول من سنابل ذهبية اللون تتحول لقوت شعبي وحياة زاهرة بالنعمة والكرامة. تقف مع هوميروس والمتنبي، وشهرزاد وجنون قيس، وأغاني ابن زيدون في قصائده الخالدة لتعود مع ألوانها تفلسف ما تبوح به من متعة ليس لها وحدها بل للجميع. بين قصائد حديقة الغفران إمتاع لذيذ يسعد القارئ أينما رحل و أين ما حطّ برحاله.

من يكتب عن المبدعة ملّيزي يقف طويلاً متأملاً ينابيع الجمال، وانهار العطر المتسامي بعيداً بعيدا حيث السكون، والأمل المتجدد والذكريات بما تحمل من كل المعاني. لا نحتاج جميعاً كقراء ونقاد وباحثين في الشأن الأدبي أن نكسّر نصوص الشاعرة ونعيد بناءها من جديد كي نعطي ما نريده نحن، وليس ما أرادته هي ومهما أعيد البناء فانه سيرجع لقالبه الأصيل، فالحروف والكلمات هي التي تقودنا قبل أن تدعونا الشاعرة لسماعها، حتى من الصمت ينبثق الصوت الدفيء ليغني كلمات غزلها الخجول.

الشاعرة كتبت بدراية أهل الصنعة العارفين من أين تدخل السعادة للمتلقي. وقبل أن يصلها صدى رسالتُها تيقنت بالقبول، والموافقة. وهذه سيرتها الشعرية دوماً، وهذا هو سرّ نجاح كل عملية اتصالية. مارست ملّيزي الاتصال الجماهيري عن بعد وكأنها في جلسة شعرية تقرأ الوجوه، وترى التفاعل، لتشعل الحماس.

مكنون جمال ما كُتب في هذا الديوان هو سريان رسالتها الإعلامية بوضوح خالٍ من أي غموض والتباس يشتت ذهن المتلقي لما يحمل من منتقيات ممغنطة ببوحٍ شجيّ، وشذرات تعمقت بلا نهائية زمانية من أسرار النفس ومكنونها وضعتها ملّيزي على ورق مترقرق لا تخشى ضياع أي حرف أو كلمة.

أكثر من أربعين وردة (قصيدة) تربعت في حدائق الغفران، وكل وردة بلون مختلف بين الحنين إلى الأم ولياليها المفعمة بالحب وكأنها جنة الأرض، وذكريات الصبى، وحضن دافئ. وورود أخرى هناك تشهق بالحب من جديد كما في قصيدة (وجع) التي تميزت باستعارات وتشبيهات تأخذ المتلقي إلى عالم كبياض الثلج لقلوب محبة لحروفها.

سعد الساعدي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى