الجمعة ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم ميمون حرش

الفن الهابط والجيل الصاعد

أنوح فتسخر من فني وأدمعــــي،

 وتنصف في المهرجان إلا معــــي..

 1- الفن الهابط والجيل الصاعد

 جداتنا،في الريف،لا يفتأن يذكرن أن" فنان الدرب لا يطرب"،سمعنا هذا الكلام صغارا، وحين كبرنا تقرر لدينا هذا الكلام، دون أن ينبهنا أحد إلى البهتان الذي فيه، أو يلفتنا إلى المنكر الذي يضمره، لأن الأساس هي الموهبة، والجودة سواء كانتا من أحد من داخل خيمتنا، أو من خارجها، لكننا تطبعنا على تبخيس قيمة الموهوبين من أهلنا،مهما كانت رائعة،وأدرنا الظهر للموهبة لديهم حتى ولو كان لونها ورديا فاتحا بلون الزهر في الربيع، وبالمقابل نحرص على أن نملأ الدنيا ضجيجا وعجيجا حين نلهب الأكف بتصفيق يدوم طويلا لمن لا يستحق من الغرباء عن هويتنا،ولغتنا..إنها عقدة النقص لدينا نرجو أن تأتي أيام وتزول.

 والعجيب أننا نلهب أكفنا بالتصفيق ليس للرداءة فقط، إنما لما لا نفهمه أصلا، الأساس عند بعضنا هو هذا الفن مادام آتٍ من مكان آخر،يكفي أن لونه أشقر حتى وإن لم تكـــــــن له صلة بهويتنا، ولا بثقافـــــتـنا،أكثر من ذلك بعضنا يسمع ما لا يفهم، ويلبس أحيانـــا بإيعاز من موضة العصر ضروبا من الأثواب لا تستر عورته فقط كما هو هدفها أصـــلا إنما لتحمل نية تضليل الآخر، ما يميزها أكثر هو تلك الكتابات التي تسيجها بلغات أجنبية، ، مُدعومة برسومات غريبة، و أحيانا تؤطرها رموز غريبة لا يختلف اثنان حول دلالاتها،إذ لا يكلف أحد نفسه فهم دلا لات ما كــتب فــيـــها، أو إدراك الحمولة الأيديولوجية المقصودة ومع ذلك يتهافت عليها شبابنا، فما أكثر القمصان والتنورات على ألأجساد، عجيبة الألوان، وغريبة الأشكال.. أكثر شبابنا يغيب عنهم- وهم يلبسونها- ما يرومه الآخر حول تدجين عقولهم بهذا النمط من الكتابات، يكتفون بالتباهي بها ولسان حالهم يقول: " نحن هنا"، ويرد الآخر بثقة:"نعم أنتم هناك، لكن كما نريدكم نحن".

و قد يكون مفهوما تصرفهم، لو كانوا أميين، لا يفكون الحرف، أما وقد يلبسها متعلمون من شبابنا فمن عجب أن يصروا على ذلك رغم إدراكهم لهذا الخطر القادم في شكل أثواب جميلة، لكن ملغومة، تبدأ بتفجير العقول لتردي الرؤوس التي تحملها في مقتل.

 مناظر عجيبة، مثيرة،ولكنها مقلقة وصادمة حين نرى فتيات وقورات يتأبطن أكياسا بلاستيكية عليها ماركة إشهار "لهاينيكن"، أو أي نوع أخر من الخمور، المعضلة أنهن يجهلن ما كتب عليها،في وسطها أو في جوانبها، من كلمات داعرة كما هو أصل من صنعها تشي بالهدف الأساس،، وتكتمل الصورة،في تصعيد درامي، حين يضاف إلى هذا السلوك الاستماع لبعض الأغاني الرديئة، فتصبح الألبسة، والموسيقى الهابطة لا تجعلنا تعساء فقط، إنما تجعلنا متخلفين بشكل أفضل،( فرق كبير بين أن نكون متخلفين،ومتخلفين بشكل أفضل)، إنها إتيكيت العصر التي تفرض معاداة الجذور، والأصول لمعانقة الرداءة، والانتصار لكل ما هو نشاز، يشجع القبح، ويعادي الجمال.

فيروز، هذا الهرم الغنائي، حين تقف على المسرح تتبدى كالمستحيل، ولكنه ممكن بفن ملتزم يمنح الرؤية حقا للمستمع، وكل محاولة من الجمهور لجعلها تبتسم،تذهب سدى وتبوء بالفشل، وحين تبسم- وذلك يحصل لماما ولكنها حين تريد هي ذلك- تصبح مثل الترياق، في زمن يصبح الذوق فيه كسولا، في هيئة خامل يضع الساق على الساق، ليسمع ألوانا شتى من الأجواق في مهرجانات أكثرها مجرد أسواق مادام الغرض هو المادة وليس شيئا آخر.

صحيح أن الغناء إنما يراهن على المتعة، ولكن معها المعرفة؛ الأولى تستدعي الثانية، والثانية تلح في طلب الأولى، أما أن يعمل بعض سماسرة المهرجانات عندنا على تكديس الناس من أجل قضاء ليلة سامرة حتى إذا انتهت انتشروا، كل في طريق وليس معهم إلا التلوث السمعي، وأهل المهرجان معهم الجمل وما حمل.. فهذا هو العبث المـتــــرف.

 2 - فنان الدرب والمهرجانات عندنا

 مهرجانات الغناء عندنا في أمم الضاد،كحبات الرمل، القاسم المشترك بينها هو حرص القائمين عليها على التطويح بفنان الدرب خارج المنصة، واعتبار فنه سوقيا، لا يرقى لأن ينافس أساطين الغناء في الشرق أو الغرب، نحو نانسي عجرم، وهيفاء وهبي، وإليسا.. ولهذه الأسباب تتربع هؤلاء الفنانات العاريات فنا وهنداما على كرسي المهرجانات عندنا، ولهن من التبجيل ما للملكة المتوجة، بينما أهل الدار من فنانينا هم مجرد طلاء لذات الكرسي،يُــجَــمِّله ليس إلاَّ، وإذا انتهى الفيلم الهندي الرخيص( عفوا المهرجان عندنا) كَـــثُـر تبرم فنانينا من القائمين عليها، وهم يبدون امتعاضهم للأجور الهزيلة المخصصة لهم مقارنة مع فنانين آخرين يستنزفون هذه المهرجانات لمجرد غناء لا يتجاوز نصف ساعة، أما أهلنا، فنصيبهم من الكعكة المهرجانية لا تتعدى الوُرَيْقَة التي لُفت بها، تكفيهم، فهي أنيقة جدا. هذا الأسلوب يندى له الجبين، ويحز في قلوبنا نحن – الغيورين- على فننا، وعلى أهله.

على هؤلاء أن يعوا أن الفن الأصيل لا عنوان له، وثمنه باهظ هنا وهناك مادام يحرص الملتزمون من فنانينا على منح الرؤية، من خلال طرح قضايا الإنسان في صراعه مع الحياة، أما معاداة الجدية في العطاء، والعمل بأسلوب العصابات بحيث لا يمكن أن يتقاضى فنانونا ما يناسب فنهم الجميل أسوة بغيرهم إلا إذا كانوا شقرا، بعيون زرق فهذه أساليب المافيات المفروض دفناها مع العهد القديم، ومن يرفع شعار" الفن وخدمة الفنان" يجب أن يجرد من نفسه قاضيا يحكم بالعدل، وينظر بعين الرضا للفن الملتزم حيثما كان، مع تحاشي التبرم بفنانينا، وبفنهم، فقط لأنهم من أهلنا. أما من يجتهد ليطوح بجهد فنان دربنا، ويعمل قصدا على الاستخفاف بعرق جبينه، واستصغاره كرمْى للعيون الزرق فهو كمن يبحث للقط عن رِِجْل خامسة.

وإذا علمنا أن الفن هو ليس تصويرا لشيء جميل إنما تصوير جميل لشيء من الأشياء، أدركنا قيمة الفنان الذي يزيد فوق موهبته جهدا مضنيا ليخلق الجمال بهدف إمتاع المتلقي أولا، ومنحه الرؤية تاليا كي يعرف أشياء كثيرة غابت عنه عبر رسائل كثيرة، أغلبها مثل صابون القلوب،يغسل النفوس من الداخل، ويجعلها ترق حتى تفتح الأبواب للمشاعر من أجل أن تجيش وللعقول أن تعمل وتفكر.

 بون شاسع، في الفن، بين ما هو جميل أصلا، وبين ما جُمِّل، والحق أن ما يُجَمَّل كثير كثير، و كأني بمهرجاناتنا هي نوع من الماكياج الرخيص يطلي الأمكنة، والوجوه قصد استمالة أكبر قدر ممكن من الحضور، يُكَّدس بهم في أمكنة لا يأمنون شرها كما يحصل كل صيف في مدننا، وإن تجميل المهرجانات بهذا الشكل، باللون الأزرق خاصة، لا يتعدى أصحابه الناحية السلبية أبدا، لأن المكنسة حين تجمل تصبح مدعاة للسخرية أكثر.

 أهلنا يفلحون في تبخيس حقوق من يستحق، بعضنا يفعل ذلك، ويخال أنه كسب أصحاب العيون الزرق، مهما كان فنهم هابطا،و يعتبر وجودهم في المهرجان علامة فارقة تدر عليه الزرع والضرع. تدر عليه قوس قزح وألوانه،أما فنان دربنا فله من هذه الألوان الأبيض والأسود ما داموا في نظرهم دخلاء، ومجرد مكملين لهذا العرس الشبيه بسوقٍ العرضُ فيه غث، ولكنه غالٍ لأن ما نُشنف به أسماعنا لا يغدو أن يكون مجرد تلوث سمعي في زمن رديء لا يُميز فيه بين الفن الأصيل والفن الهابط.
هل مهرجاناتنا في كل مكان،من الماء إلى الماء، تعي أن الغناء كفن يجب أن يمنح الرؤية من خلال الكلمات؟أم الهدف هو جمع الأموال ليس إلا؟ أم هو مجرد حصد الحضور حتى يلاقوا حتفهم وهم يرقصون؟

هل كلمات أغاني بعض من يدعي الغناء( لن أقول مطربا) مفهومة ولافتة كضوء كاشف ينير الدروب، أم هي لا تغدو أن تكون وسيلة لملء الجيوب؟!

بعض المهرجانات عندنا هي، في الغالب،مجرد تلوث سمعي يؤطره ضجيج، أوله رقص يبدأ بهز الأكتاف، ووسطه تحريك للخصور مع الاحتكاك هذه المرة، أما نهايته فعري( أريد عري العقول من الأفهام) ؟

إن تجاوب الجمهور مع هذه الأغاني بأسلوب يعمل على تحريك الغرائز لدى الحاضرين، نسبة الصغار بينهم لا يُستهان بها، قاسمهم المشترك هو هز الخصر، والأكتاف في سيمفونية غائية هابطة، حالةٌ مرضية حقا لا بد من إعادة الاعتبار لمن يحضر المهرجان من خلال تقديم وجبة غنائية هادفة، مع الانتصار للفنانين عندنا،أهل الموهبة منهم خاصة.

3- أنوح فتسخر من فني، وتجافيني في المهرجان لأنـــــــي...

 هل تسمعون نواح فنانينا، وقد بدا في الأفق أفول نجمهم وفي بلدهم بسبب صلف سماسرة المهرجانات؟

ما أكثرهم.. منهم من مات في عزلة تامة، لا تصحبه سوى دموع على خديه فوق سرير وحيدا، في غرفة باردة، أكثرهم رحلوا في صمت، وليس معهم إلا الحسرة على أهل ضنوا عليهم حتى بمجرد سؤال.

 أكثرهم رضع من الحرة الـظِّـــئْــر التي تجوع، ولا تأكل بثدييها، لذا هم ماتوا واقفين كما الأشجار تماما رغم الجحود.

 وحين يوارون الثرى تتهافت عليهم وسائل الإعلام في سبق صحفي روتيني، لتخصص لأحدهم نبذة عن فنه وعطائه دون أن تنسى أن تردف له صورة بالألوان، تحتها كلمات تتراقص أمام عيون القراء للحظات، ثم تتلاشى، ويُنسى الاسم ولا يفضل سوى ذات الكلمات، منها قول المهزومين: " مسكـــين مات".
الحق أنه جميل أن نكتب عن هؤلاء، لكن انتظار يوم رحيلهم كمناسبة لذلك ليس جميلا أبدا.

4- كــــلمة لا بـــــد منهـــــا

أنا لا أتعصب لأهلي،لأنهم أهلي، ولا أعادي الأجانب لأنهم غير أهلي، إنما أتعصب للجودة،والموهبة الحق،والالتزام في الفن، ومتى وعيتُ أن الفنان ينتشلني من الوحل في الزمن الرديء أعلنه أخي،وأخي ليس بالضرورة من تجمعني به بطن واحدة، وليس أخي من يتكلم لغتي، أو يغني أغنيتي، إنما أخي هو من َأكتشفُ أن بداخلة طاقةَ حب تسع الجميع بدون استثناء، وأهل الفن، في كل مكان، المفروض أن ينشروا الحب، ويَدْعُوا الناس إلى أن يجتمعوا، كشقيْ مقص، على التصالح، والحب والتعايش والســـلام.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى