القربان
ماذا أقول حبيبتي إن مِتُّ في حُلُمٍ يُبشّرُني ..
بأني سوف أحيا للأبَدْ ؟
ماذا أقول حبيبتي
للموجِ يَعصرُ من عيونِ البرقِ نيرانَ الخليجِ ..
عرائسًا للغيبِ يحصدُهُنَّ رملٌ أو زَبَدْ ؟
ماذا أقول حبيبتي للعُمرِ والصحراءُ تلفُظُ كلَّ قافلةٍ
تُقدِّمُنا لآلهةِ السَّرابِ على موائدَ من جماجمَ
إننا القربانُ لا شيءٌ يُعيدُ الأمسَ ..
نخرجُ من ظلالِ النارِ ماءً أو حَطَبْ ؟
في حضنِ نخلتنا وُلِدنا توءمينِ لألفِ عاصفةٍ
وبابٍ كان يُفتحُ للسّماءِ لكي يمرَّ الأنبياءُ
فهل نرى في الحُلْمِ واقعنَا وقد أمسى جروحًا تلتهِبْ ؟
فتَّشتُ عنكِ حبيبتي ..
كلُّ الدروبِ تقودني نحو الكهوفِ أرى البدايةَ
والدي .. جَدِّي .. رسومًا فوق جدرانٍ وتأطُرُها الدِّماءُ
غَدَتْ تُحدِّقُ في الهواءِ ..
يصيرُ عصري عاريًا ..
عينينِ سوداوينِ تَخرجُ منهما أفعًى
تبثُّ السُّمَّ شاشاتٍ وتختصرُ المسافةَ بين سكينٍ ..
وجُرحٍ فاقدٍ معنى الهُويَّهْ
زمنٌ يمرُّ خلالَ نافذتي كأرياحِ الغبارِ
مُحمَّلاً بأريجِ أندلسٍ ..
بلافتةٍ على الأقصى وتنزفُ بصمةً عِبريَّهْ
ماذا أقول حبيبتي مِنْ بين أنقاضِ الهياكلِ
قد كتبتُ اسمي ظلالًا فوق نرجسةٍ وماءٍ
بينما تسودُّ في عِرقِ التّماثيلِ الدِّماءُ
مُبشّراتٍ بالخريفِ ؟ ..
خيولُنا دَكَّتْ سنابكُها الرِّياحَ ..
الآنَ مَنْ بعدَ الغيابِ سيملأُ الفَخَّارَ ؟ ..
مَنْ يحمي ضفائرَكِ التي ما مسّها إنسٌ وجَانْ ؟
مَنْ يُخبرُ الإعصارَ أنّا صاعدونَ إلى السَّماءِ
وأنّنا بِتنا كلامًا في شِفاهِ السَّندِيانْ ؟
الغائبونَ توحَّدوا في حاضرٍ
وأنا وأنتِ – الحاضرينِ - .. تغيَّبت أيامُنا
كُنَّا نُقيمُ على الرَّحيلِ ولم تكن خُطواتُنا
قد لامست أرضًا ولا يومًا أظلَّتنا سماءٌ
دون أن ندري بأنَّ الرّيحَ قد حَفِظَتْ صدى أسمائنا
إذ ردَّدتهُ السُّحبُ أمطارًا علي كلِّ الزَّوايا
في كلِّ آتٍ ثَمَّ ماضٍ لم تُكَمِّلْهُ الخُطا
قد باتَ نافذةً على جرحينٍ ..
جرحٌ لا تؤرِّخُهُ الدِّماءُ .. وآخرٌ
أمسى معلَّقةً وقد حُفِرَتْ بسكِّينٍ على جلدي
فأشعلتِ الغيابَ وأطفأت ما ضِدَّهُ بين الخلايا
تعويذةً للبردِ من سَقَرٍ أخذنا ..
واصطلينا الظِّلَّ أدخنةً سَرتْ فوقَ المدائنِ ..
والمياهِ الجامدَهْ
ما خُطَّ فوق الرَّملِ من تَرحالِنا
ما قد تشظَّى من ولادةِ جرحِنا
بِلَّورُ صمتِ الروحِ ..
أم كان احتمالَ الموتِ في بئرٍ تبخَّرَ ماؤها ؟
أهو احتضارُ الأمسِ ما تركَ الضَّبابُ على النّوافذِ
أم بريقُ الحزنِ تقبضُهُ الرِّياحُ لواقحًا للنَّهرِ ..
للنَّخلِ التي أمسَتْ جسومًا هامدَهْ ؟
لم نعترفْ بالكُرهِ لكنَّ الوجوهَ تلبَّدتْ مثلَ الغيومِ
فلم نَرَ الضَّوءَ المحايدَ كان مبتورَ الأصابعِ ..
مَنْ سيكتبُ سِيرةَ الشَّمسِ التي نُفِيَتْ إلى جُزُرِ البَغايا ؟!
أو مَنْ يَفُكُّ طلاسمَ المجهولِ ؟ ..
مَنْ سيُقيمُ جسرَ الموتِ نعبرُهُ .. نرى أحلامَنا
أو ما تبقّى من وجوهِ الغيثِ في سَعَفِ المرايا ؟
أحبيبتي .. ما عُدتُ أخسَرُ غيرَ ذاكرتي
كأنَّ الغيبَ يرسمُني سهامَ الرِّيحِ في كُتُبِ الرِّمالِ
كأنَّهُ العنقاءُ تَحملُني السَّرابَ إلى جذوعِ الأمسِ
تفتحُني السَّماءُ نوافذًا
كي ما تُطلَّ عليَّ مِنيِّ ..
إنني خبَّأتُ وجهي في مرايا النَّهرِ .. لا
لا .. لن يرى وجهي سوايَ
إنني الطبقُ الذي حملَ النُّبوءةَ : رأسَ (يُوحنَّا)
أنا النَّبعُ الذي قد خبَّأ الإعصارَ
والسُّحُبَ العقيمةَ في جِرارِ الروحِ ..
كم أوهمتُ نفسي أنَّ بين الضِّفتينِ ثُدِيَّ أمي
أستعيدُ ولادتي للمرَّةِ الخمسِينْ !!
حاولتُ أنفذُ من جدارِ الصَّوتِ
رائحةِ الغيابِ ومن بقايا جلدِ ماضٍ
لم يزل مِلحًا على جُرحٍ ..
ومن أرضٍ مُعَمَّدةٍ بدمعِ الياسَمِينْ
حاولتُ أنْ ...
لكنني كالغيمِ تختصرُ البحارَ على شفاهٍ من سِيَاجْ
وكأنَّما طُرُقي حبالٌ من لهيبِ البرقِ يجلدنَ الشَّوارعَ
صِرنَ ينثرنَ الرَّمادَ على المنازلِ ..
في عيونٍ من زجاجْ
وكأنَّني الصَّمتُ المُلَغَّمُ بالصُّراخِ ..
كأنَّ (إسرافيلَ) يتركُ بُوقَهُ للرِّيحِ يملؤني صَدى اسْمِي
بينما الأنفاسُ أطيارٌ وينزِعُ ريشَها هذا السَّرابُ المعدنيُّ ..
كأنَّني الأجراسُ في إحدى الكنائسِ ..
مَنْ أنا؟
إني أسيرُ كما يسيرُ النَّائمونَ
أشُمُّ رائحةَ احتراقِ الذِّكرياتْ
وكأنني بِتُّ الجرائدَ فوقَ رُصفانِ الغيابِ ..
نزعتُ أقنعتي عناوينَ المصابيحِ التي
شاقَتْ نسيجَ الضَّوءِ يسترُ عُريها
لا وقتَ للسَّفرِ الطَّويلِ ..
حقائبُ التَّرحالِ أَجهضتِ الحنينَ إلى اغترابي
إنَّه سفرٌ إلى المخبُوءِ فيما قد تبقَّى من غُبارِ المعجزاتْ
لغةُ المسافةِ بِتُّ أجهلُها وتجهلُني
كأنَّي ما وُلدتُ ...
كأنني صِرتُ الهواءَ السَّامَ في رئةِ الجِهاتْ
إني أمامَ الموتِ يسألني الرَّحيلَ
فيا لِهذا الموتِ يجهلُ أنني مَيْتٌ
وينقصُهُ الحياةْ