الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم محمد شداد الحراق

المديح النبوي في الخطاب الشعري الناصري

تقديم:

المديح النبوي فن أدبي نشأ في البيئات الصوفية#، ووجد صيغته المكتملة حينما احتك بالتصوف بعد أن ازدهر هذا الأخير وانتشرت مذاهبه وطرقه#.وشعر المديح النبوي هو امتداد لشعر المدح الذي يشكل أكثر الأغراض الشعرية ذيوعا وانتشارا في خريطة الشعر العربي عبر عصوره المتلاحقة. وقد ظل مرتبطا بهذا الأصل، ولكنه وجه اهتمام الشعراء إلى وجهة جديدة بحيث يكون الممدوح فيها هو شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون سيرته ودعوته هي مدار المدح والثناء. فإذا كان شعر المدح يهتم بالأحياء ويذكر أفضالهم، فإن المدائح النبوية قيلت ـ في معظمها ـ بعد وفاة الرسول. وكل شعر يقال بعد الوفاة يعد رثاء، لكنه في شخصية الرسول يسمى مديحا، "وكأنهم لحظوا أن الرسول صلى عليه وسلم موصول الحياة، وأنهم يخاطبونه كما يخاطبون الأحياء"#.

وهكذا استطاعت المدائح النبوية أن تستقل بنفسها، فتصبح فنا جديدا ينضاف إلى الأغراض التي حددتها مصادر النقد الأدبي. لأنه أصبح ظاهرة فنية لها خصوصيتها التي تميزها عن باقي الفنون الأخرى.

ويعتبر الدكتور عباس الجراري أن إرهاصات هذا الفن الجديد بدأت تلوح في أفق الثقافة العربية مع شعراء الرسول، وذلك من خلال ما واكب الفترة النبوية من مدائح من شعر حسان بن ثابت وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة#. وقد سلك الدكتور زكي مبارك المسلك نفسه في تأريخه للمدائح النبوية، بحيث استقرأ القصائد المديحية التي تناولت شخص الرسول في حياته، مستشهدا بشعر الأعشى وحسان بن ثابت، وبعد ذلك انتقل إلى التجارب التي تناولت آل البيت#.

ولقد ساهم الشيعة في تبلور ظاهرة المديحيات، وشكلت قصائدهم انطلاقة جديدة في سيرة هذا الفن، خصوصا حينما ابتدعوا الاحتفال بالمولد النبوي. فكان لهذا الابتداع إشعاع في مختلف المناطق العربية#.

وقد أثمر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف طوال هذه العصور نشاطا أدبيا كبيرا، لما أنشد فيه من القصائد المادحة النبوية#. وشارك المغاربة منذ وقت مبكر في هذا النشاط الأدبي، خصوصا في الفترة المرينية. وقد كان أبو العباس السبتي (ت : 633) وابنه أبو القاسم السبتي (ت : 677) من الذين كرسوا الاحتفال بالمولد النبوي في (الدولة العزفية)، ومنذ ذلك الحين، تعلق المغاربة بهذه الذكرى ونظموا فيها القصائد والمقطعات#.

ويعتبر الدكتور عباس الجراري أن "فن المديح النبوي كان قد اكتمل وصار غرضا قائم الذات"# منذ القرن الخامس مع بعض التجارب الشعرية المغربية الرائدة في هذا المجال، وهي القصيدة (الشقراطيسية) والتي مطلعها :[البسيط]

الحمد لله منا بـــــاعث الرسل هدى بأحمد منا أحمد السبل#

وهي قصيدة "لامية من بحر البسيط جمعت إلى المدح والثناء أحداث السيرة النبوية، وحياة الدعوة الإسلامية منذ انبلاج فجرها إلى أن عمت أقطار المعمور"#. ومن التجارب الرائدة في مجال المديح النبوي عند المغاربة القصيدة المسماة (معراج المناقب ومنهاج الحسب الثاقب) لأبي عبد الله بن أبي الخصال (ت : 540) ومطلعها : [الطويل]

إليك فهمــي والفـــؤاد بيثــرب
وإن عاقني عن مطلع الوحي مغربي

وهي قصيدة في نسب النبي (ص) إلى آدم عليه السلام (وذكر ما له من المناقب، ثم عطف على ذلك معجزاته الباهرة وفضائل أصحابه الكرام متصرفا في ذلك بفنون القول وأساليب البلاغة التي جعلتها تحظى من كبار العلماء وخاصة الأدباء بعظيم التقدير وفائق الاحترام)#.
لكن معظم الدارسين يتوقفون عند منعطف حاسم في مسيرة المدائح النبوية، ويخصونه بالدراسة والعناية الفائقة، وهو المنعطف التاريخي والثقافي الذي شهد ظهور قصيدة البردة#. للإمام شرف الدين البوصيري (ت 697). وهي القصيدة التي شغلت الناس شرقا وغربا، حتى اعتبرت القصيدة / النموذج في المدائح النبوية. وكان البوصيري، بهذا العمل، يعتبر المقعد الأول والمؤصل الكبير لفن المديح في حلته الجديدة. وقد ساهم التصوف في ذيوع هذه القصيدة وفي انتشارها بين الخاصة والعامة. بل إن هذه القصيدة أصبحت مدار الألسنة والأفئدة في الزوايا والمساجد و مختلف المراكز الثقافية. وتنافس الأدباء في معارضتها وشرحها وتخميسها وتضمينها. وقد وضع الدكتور زكي مبارك فصلا خاصا للحديث عن أثر البردة في اللغة العربية# وأنجزت دراسات وبحوث في الموضوع نفسه. ويعلل الدكتور زكي مبارك هذا الاهتمام الكبير الذي حظيت به البردة، أنها أولا قصيدة جيدة، وهي ثانيا أسير قصيدة في هذا الباب، وهي ثالثا مصدر وحي لكثير من القصائد التي أنشئت بعد البوصيري في مدح الرسول (ص)#.
استطاعت البردة أن تجعل من المدائح النبوية مدرسة شعرية جديدة داخل المدارس الأدبية ومذاهبها. وأصبحت مرجعا فنيا يهتدي به أصحاب المدائح في العصور اللاحقة. بل إنها تحولت إلى مادة دراسية في مجالس الإقراء ومراكز التكوين، يحفظها الناس تعلما وتذوقا وتبركا وتعبدا. وقد شجعت البيئة الصوفية المغربية وصول هذه القصيدة إلى كل الشرائح، فتحولت إلى أنشودة رسمية وإلى تراتيل روحية في الزوايا الصوفية، و صار إنشادها من أهم الطقوس في المناسبات الدينية والاجتماعية. فتحركت قريحة الشعراء والمبدعين لتمثل هذا النموذج الوافد واستيعابه والسير على نهجه ومنواله.وقد أبلى المغاربة في هذا الأمر البلاء الحسن ، وسجلوا أسماءهم في لائحة المدائح النبوية، وتركوا تراثا وفيرا في هذا الفن.

بعد هذا المهاد التاريخي لفن المديح النبوي، نتساءل عن القوة الكامنة في هذا النوع من القصائد، وعن الطاقة الإشعاعية الخارقة التي جعلته يستوطن العقول والقلوب، ويحرك الأفراد والجماعات.

إن شعر المديح- بصفة مجملة ومختصرة- هو شعر التغني بالنموذج والمثال، شعر يحتاجه الإنسان ويلجأ إليه حينما تفشل مشاريعه السياسية والاجتماعية، وحينما تنهار الخطابات والصور والتماثيل البشرية. يلجأ إليه الناس حينما تكتسي الحياة لباس الحداد، وتنطفئ أنوار الهداية، ويعم الظلام أرجاء الأرض وباطنها. ولذلك نجد هذا الفن ملازما للنكسات السياسية والنكبات الاجتماعية والإحباطات النفسية. فقد تحولت المدائح النبوية إلى بلسم للجراح الغائرة في كيان المجتمع، ودواء للنزيف اليومي الذي يعيشه الناس في صراعهم من أجل البقاء، وفي نضالهم من أجل الكرامة والعدل والحرية. فقد واكب المديح النبوي سقوط الأندلس، وسجل نبضات القلوب و ذبذبات النفوس التي عايشت هذا الحدث، كما واكب هذا الفن المراحل الأخيرة للحضارة العربية الإسلامية، وما عرفته البلاد من تشرذم وتمزق وانحدار نحو المواقع الخلفية. وواكب أيضا الصراعات السياسية والكوارث الطبيعية والهزات الاجتماعية التي عرفتها المجتمعات العربية.

إن المدائح النبوية لم تكن ترفا فنيا أو نزوة وجدانية لدى الشعراء، وإنما جاءت كحاجة اجتماعية ونفسية وفنية في ظرف تراكمت فيه الأحزان، وتوالت فيه الاضطرابات، وفقد فيه الناس البوصلة التي ترشدهم إلى بر الأمان وشاطئ النجاة. في زمن غاب فيه النموذج المخلص الذي تتوحد به الكلمة، وتجتمع حوله القلوب، وتلتئم به الجراح. فلم يكن الواقع يقدم للناس ما يحقق لهم هذا المطلب ويمحو عنهم هذه الحيرة. ولم يكن باستطاعتهم سوى استحضار الذاكرة واستدعاء التاريخ واستلهام النموذج من شخص النبي (ص) باعتباره المثل المنشود، والتعويض الأمثل لكل ما كان مفقودا في حياة الناس. فهو الدواء الشافي، وهو السراج الهادي، وهو الرحمة المهداة، وهو سر الكون والوجود.

وهكذا صارت شخصية الرسول تمثل النموذج المنشود في المدائح النبوية بكل ما تمثله هذه الشخصية من رمزية وأبعاد، وقد ساهمت التصورات الصوفية في تغذية هذا الموضوع ببعض التصورات الأصيلة في الثقافة الصوفية كالحقيقة المحمدية#وغيرها من المقولات الوجودية.
وهكذا كان الشعراء يربطون بين مديح الرسول وبين الواقع، فيستلهمون من حياته صلى الله عليه وسلم ما يبعث في نفوسهم القوة والثقة لمواجهة القضايا وما يساعدهم على مواجهة الأحداث والتغلب على المشاكل والأزمات#. وبالعودة إلى النموذج النبوي كان الشعراء "يحاولون ربط الماضي بالحاضر، واستحضار التاريخ وحياة الرسول وأمجاد الإسلام، للنظر من خلالها إلى الواقع"#.

وإذا عدنا إلى العصور المتأخرة في المغرب وجدنا "أن ما بعد المنصور السعدي، يعد فترة تحولات سياسية واجتماعية وثقافية، وعلى مقربة من هذه الفترة عادت السلطة الروحية إلى الزوايا الصوفية وكان لابد أن تعود النبويات والمدائح الخالصة لوجه النبي عليه السلام والحقيقة المحمدية"#. فقد غذت البيئة الصوفية هذا التوجه وزكته وشجعت عليه بإحياء المواسم والمناسبات والإكثار من طقوس المدح والابتهال والتغني بصفات الرسول وشمائله. ولعل الذي كان "يزكي هذا الموقف عند المغاربة، ويحث خطاهم نحو المدائح النبوية، أن الثقافة المغربية في معظمها كانت ثقافة نقلية دينية... ومن هذا المنطلق كان اهتمام المغاربة بالسيرة اهتماما كبيرا حيث ألفوا فيها الكتب، وأبدعوا الأشعار عبر عصور التاريخ المتلاحقة"#.

كان الناصريون- كغيرهم من الطرقيين- يحتفون بالمدائح النبوية حفظا وإنشادا وإبداعا. يبثون فيها انكسارات الذات ويفرغون فيها الألم والمعاناة، ويقبلون عليها لتكون بلسما ودواء لهم لجراحات الحياة. وقد ساعدهم محفوظهم الشعري وثقافتهم الدينية على تجريب هذا الفن والإبداع فيه، لأن النظم في المديح النبوي يتطلب- بالضرورة- إطلاعا واسعا وإحاطة شاملة بالموروث النبوي، سواء ما كان منه مسجلا في كتب السيرة النبوية، أو ما سطره المؤلفون في كتب الشمائل المحمدية، أو ما تضمنته القصائد المديحية والمصنفات الصوفية وغيرها.
ولكي نتعرف على التجربة الناصرية في مجال المديح النبوي، نحتاج إلى أن نمتلك صورة شاملة عن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الذي استدعى هذه التجربة وشجع عليها. وتلخص عبارات أبي سالم العياشي الواقع المغربي وتصوره أحسن تصوير، حيث يقول : "في سنة تسع وستين دبت في مغربنا عقارب الفتن، وهاجت بين الخاصة والعامة مضمرات المحن فكدت أيأس من بلوغ المرام، ولم يخمد مع ذلك متأجج نار الغرام. فعمدت إلى طريقتنا المثلى من أمداح الرسول التي في مولده تتلى فاستروحت من ذلك العناء والألم إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم فأنشأت منها عدة قصائد في أيام مولده الشريف"# . "ولم يكتف العياشي بجعل المدائح النبوية الملجأ والملاذ، تفريجا عن النفس وغسلا روحيا للنفس الممرغة في حمإ المادة و أوصاب الحياة، بل إنه يتخذها معبرا إلى عالم يفر إليه فرار الهارب المضطر من زمن الرعب والسنين العجاف"#.

لقد عاش الناصريون- في بداية تأسيس مركزهم ومشروعهم- ظروفا صعبة، خصوصا ما كان من تداعيات الصراع القوي الذي احتدم بينهم وبين السلطان الرشيد، وما ترتب عنه من مناوشات وحرب كلامية وتهديدات بالخراب والإبادة#. فقد كانت الفترة صاخبة ثقافيا وسياسيا، وطبع التحدي واجهتها وأعماقها. وكان المجتمع يشهد هذه التجاذبات ويراكم هذه المناوشات، ويتفاعل معها، حتى أضحى الصراع أهم مظاهر العصر وأبرز سماته ، صراع بين الفقهاء والأدباء، وصراع بين أنصار التقليد ودعاة التجديد، وصراع بين علماء البادية وعلماء الحاضرة، إلى جانب صراع النفوذ بين السياسيين والمتصوفة.

وقد تضمنت دالية اليوسي (ت 1102) إشارات واصفة للواقع المغربي بكل ما كان يموج فيه من اختلالات على أكثر من واجهة. ففيها نجد تشخيصا للواقع الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي، وهي بذلك تحمل رؤية خاصة / وعامة للواقع المحيط بالشاعر، إنها رؤية الجيل الذي عاش المنعطف السياسي، وعايش المفارقات الاجتماعية، وحمل لواء التغيير وهموم الواقع، وأسس مشروع البناء الحضاري في تلك اللحظة التاريخية الساخنة والملتهبة. وبذلك كانت داليته تحتضن أسئلة المجتمع وكل أنماط الخطاب الإصلاحي الديني والسياسي والاجتماعي. وتقدم للقارئ فكرة عن تلك الفترة الحالكة من تاريخ المغرب، كما تقدم شهادة صريحة لليوسي على عصره :[الكامل]

وافيت والبدع الحوادث قد وفت
ظلماتها، والجهل واري الأزند
والدين مطموس المعالم والهدى
بيض الأنوق ولفظـة لم تنشد
والسنة الغراء قـفر موحــش
ما فيه من هـاد ولا من مهتد
واستوثقت أيدي الغواية والهوى *
بأزمة الألبــاب، شلت من يد#

وإذا كانت قتامة الواقع واضطراب أحواله دفعت الشاعر الناصري إلى تبني موقف الرفض والمعارضة. فإنه ـ كصوفي معتدل ـ لم يسلك سبيل المواجهة المباشرة والصراع الدموي في مناهضة الواقع، وإنما التجأ إلى الكلمة الشعرية، واحتمى بالجناب النبوي، وتعلق بالنموذج المثالي الذي تزول به الكروب وتنقشع بذكره سحائب الخطوب. وقد جسدت المدائح الناصرية هذا التعلق بشخص الرسول أحسن تجسيد ، و ترجمت هذا التفاني عمليا و فنيا. فاستحضار ذات الرسول (ص) هو في الحقيقة عملية جادة لترميم الذات الغافلة، ولهدم أوثان الحاضر لبناء قواعد حياة جديدة، يعم فيه الحب والسلم والعدل. والتعلق بذات النبي وبالتاريخ النبوي، في عمقه الاجتماعي و النفسي، هو تجاوز للحاضر بكل ما يشوبه من نقائص وعيوب وسلبيات. وبهذا المعنى يكون الشاعر قد فرض عليه العيش بين زمنين، زمن يجره نحو الهاوية ويتوعده بالهلاك وكل أنواع الشر والضلال، وزمن يحمله إلى بر الأمان والشعور بالاطمئنان؛ زمن النبوة. ولذلك فمدح الرسول- كما نجده في النبويات- هو أكثر من إعلان الحب والتعلق بذات النبي، إنه بحث حثيث عن الوسيلة لتحقيق الخلاص الفردي والجماعي، وهو أيضا عملية هروب فنية من يأس الحاضر نحو الأمل المخزون في الذاكرة، وهو كذلك ارتحال لا شعوري من واقع مرفوض إلى النموذج المطلوب. فحينما يقول الشاعر الناصري محمد المكي مخاطبا الرسول (ص) :[الطويل]

فأنت ملاذي يا عمادي وموئلي
وأنت لي الحصن المنيع من الذعر#

نفهم سر اللجوء إلى ذات النبي، ونعرف سبب التعلق به. فالشعور بالهزيمة النفسية يولد في النفس الرغبة في البحث عن قوارب النجاة ولو كانت معنوية ونفسية.

وتتكرر هذه النبرات الاستنجادية في القصائد المديحية معربة عن مستوى الشعور بالهزيمة النفسية في زمن الكوارث والنكسات. وهذا أحد أتباع البيت الناصري يصرخ مستنجدا في إحدى نبوياته، وهو الأديب أحمد بن صالح الاكتاوي# (ت1134) جاء فيها :[الخفيف]

أنت ذخري في كل هول عظيم
أنت ملجأ كل عاص وجاني
أنت تحمي المسيء حول حمـاك
أنت عزي وكنزي أنت أماني
أنت غرة كـل فضـل وجــود
أنت رغبة كل قاص ودانـي#

وهكذا يكون الالتجاء إلى حمى النبي أكبر من إعلان المحبة والولاء، وأكثر من الحنين إلى الفترة النبوية. إن هذا الهروب إلى الماضي هو قبل كل شيء موقف سياسي ورؤية للعالم المتردي الذي اغتربت فيه القيم النبيلة، وضاعت فيه الأحلام، وسيطر فيه اليأس والألم.
انفتحت المدائح الناصرية على كثير من الجوانب المرتبطة بشخصية الرسول (ص). وأهمها : الحقيقة المحمدية ـ السيرة النبوية ـ النسب النبوي - الشمائل المحمدية. وقد شكلت هذه الجوانب مدار أغلب المدائح النبوية في المشرق والمغرب.

الحقيقة المحمدية #

إن القول بالحقيقة المحمدية يعد أصلا من الأصول التي قام عليها التصوف الإسلامي، وهي عقيدة راسخة في تصورات الصوفية و في مرجعياتهم الفكرية. ولهذه المقولة جذور فلسفية قديمة تسربت إلى الفكر الصوفي واستوطنت عقول المتصوفة وأفئدتهم، فعملوا على إذاعتها ونشرها في صفوف العامة والخاصة.

والحقيقة المحمدية تعني أن الوجود النبوي سابق لكل الموجودات ومتقدم على كل الكائنات، ومن النور المحمدي استمد الكون نوره ووجوده. ولولا الحقيقة المحمدية لما كان هناك وجود ولا خلق ولا نور. لأنها العماد الذي قامت عليه قبة الوجود، وهي الصلة بين الله والناس، وهي القوة التي يصدر عنها كل شيء#.

وقد استغل الصوفية بعض الأحاديث والأقوال المأثورة لتزكية هذا الأصل وتأصيله في طقوسهم التعبدية وسلوكاتهم الدينية. فعبارات (أول الأولين) و(آخر الآخرين) و(خاتم النبيئين) كانت أهم النصوص التي انطلقت منها تبريرات الصوفية للقول بالحقيقة المحمدية، واستشهدوا بأحاديث أخرى تحمل هذه الحمولة الوجودية#.

تسربت هذه العقيدة الصوفية إلى المدائح النبوية بعدما تمثلها أصحابها واقتنعوا بها. وكانت بردة البوصيري نموذجا في الترويج لهذه العقيدة شعرا. وبعدها تناسلت المديحيات حاملة المشروع نفسه، ومرددة التصورات التي أصلها الصوفية فكريا، وأصلها البوصيري فنيا وأدبيا.
حام الشعراء الناصريون حول هذه النظرية، وسجلوا هذه العقيدة الوجودية في مدائحهم النبوية. ولنستمع إلى أحد كبار أدباء الزاوية وأساتذتها، الأديب أحمد أحزي (ت : 1128)، وهو يفصل بشعره في بيان مكانة النبي (ص) بين الكائنات، يقول :[الطويل]

كريم زكي طــاهر ومطـيـب
جميل المحيا ذو القناعة والـزهد
وأنت حبيب الله ثم خليـــلــه
وسـر لوحيه العظــيم بلا فـند
فلولاك يا خير البرية لم يكـــن
وجود لدى الدنيا وما فيها من عبد
ولولاك ما كانت ميـاه بنوعـهـا
ولولاك ما كانت جنان من الخــلد
ولولاك يا قطب النبوة والهــدى
لعذب هذا الخـلق بالخسف والطرد
وأنت الذي قد جاء في الخبر أنكم
تجودون سيدي على الخلق بالرفـد
وتكسب معدما وتحمل كلهـــم
تعين وتقري الضيف للصمد الفرد#

وفي تكرار البناء التركيبي (لولاك... لولاك...) تأكيد واضح لنظرية الحقيقة المحمدية، كما تشربها الشاعر في محيطه الصوفي ـ فالنبي سر الوجود ـ وخير البرية ـ وسبب الوجود ـ ومصدر الموجودات ـ ومصدر الرحمة والجود والشفاعة،،، و بهذه المعاني يعيد الشاعر ما تردد في المدائح النبوية الأخرى، كقول أبي سالم العياشي :[الكامل]

هو عين رحمته وعين وجوده
من لا وجود لممكن لـولاه
لولاه رتق الغيب لم يفـتق ولم
ينــطق بــلا إلاه إلا الله
لولاه نور العقل لم يشـرق ولا
نشرت على أهل العقول خلاه
لولاه نور الدين لم ينبـت ولم
تنطق بذكر إلاهـهـا الأفواه#

وقد استقرت هذه التصورات في أذهان الصوفية وتكررت في مدائحهم النبوية، وتناقلها الخلف عن السلف، فهذا ابن نباتة المصري (ت 768)، في مدائحه يرسم الخطوط العامة لأتباعه من الشعراء، ويضع الصورة النموذجية الخارقة لشخصية النبي، الذي لولاه لما كانت هناك أرض ولا سماء ولا زمان ولا مكان. يقول :[البسيط]

لولاه ما كان أرض لا ولا أفق
ولا زمان ولا خلق ولا جيل
ولا مناسك فيها للهدى شهب
ولا ديار بها للوحي تنزيـل#

فلا غرابة إذا وجدنا الشعراء الناصريين يذهبون هذا المذهب المتطرف في تصويرهم لشخصية النبي. فلهم أصول يرجعون إليها، ولهم خلفية صوفية تزكي هذه المقولات وتكرس هذه التصورات بل وتؤصلها تأصيلا. وقد ترددت أصداء هذا المذهب الوجودي في مدائح الدلائيين أنفسهم من ذلك قول الأديب الدغوغي :[الكامل]

لولاه ما حصل الوجود لواحد
لولاه سبل رشادنا لم تعقل
لولاه ما عرف الإله ولم يـدن
بتـبتل لله حلف تـبتل#

وعلى نفس النهج وبنفس التصور يمدح محمد المرابط الدلائي النبي بقوله :[الكامل]

لولاك ما نطق الجماد ولم تكن
في أوجها هذه الكواكب تخفق
لولاك ما هاج الركائب عالـج
لولاك ما حديت لزمزم أيـنق
لولاك ما رجي السؤال لسائل
بعرى محاسن مجدكم يتعلـق#

وإذا استقرأنا المديحيات، سنجدها تتقاطع في هذا التصور وتتلاقى في هذه البنية التركيبية (لولاك)، وهي بذلك تريد أن تضخم صورة التفرد في شخصية النبي بشكل يكاد يخرجه من دائرة البشر.

ويرسم شاعر آخر من أدباء البيت الناصري صورة أخرى للنبي تتجلى فيها الحقيقة المحمدية بوجه آخر،و في كلامه ما فيه من تطرف وغلو، وذلك حينما يصبح النبي قبلة لكل مصل، ومستغاث كل مناد، ومحج كل قاصد.وكأن الشاعر- بهذه المعاني- يريد إسقاط بعض الخصائص الإلهية على ذات النبي، وهو ما يجعله في موقع المنافس. يقول أحمد بن صالح الاكتاوي :[الخفيف]

أنت قبلة كـل عـبد مصل
أنت مركز كـل عز وشان
أنت سر في كل أرض وعرض
أنت زهرة كل بـاق وفـان
أنت نور في كل نـور منـير
أنت كاشف كل هـم شجاني
يا إمام الهـدى أغثني فإنـي
لا أنادي سواك عند هواني#

ويتفق الشعراء الناصريون مع غيرهم من صوفية المغرب في القول بالحقيقة المحمدية، لأنها غدت أصلا كبيرا في تصورهم واعتقادهم. وهكذا نجد أصداء هذه النظرية في الصلاة المشيشية# التي يرددها الصوفية في الزوايا والأضرحة والمساجد في المغرب والمشرق. ومنها "اللهم صل على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وتنزلت علوم آدم بأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه سابق ولا لاحق. فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة. ولا شيء إلا وهو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط"#.

والحقيقة أن هذه النظرية وهذه التصورات الوجودية جعلت الصوفية عامة، وأصحاب المدائح النبوية خاصة يحلقون في أجواء شعرية، ويركبون صهوة الخيال، ويمارسون لعبة الغموض والترميز في لغتهم الشعرية، مما جعل قصائدهم نخبوية غارقة في الخيال. وقد كان الشاعر الناصري حاضرا ومشاركا في هذا المضمار، يردد ما يقول القوم، ويعتنق ما يؤمنون به، ويوظف شعره للتعبير عن مدى حبه وتعلقه وهيامه في ذات الرسول باعتدال حينا، وبتطرف أحيانا كثيرة.

ويتمثل اليوسي، بدوره، نظرية الحقيقة المحمدية، فيرسم في مدائحه صورة نموذجية للنبي، تقترب من الصورة النمطية التي عبرت عنها أغلب المديحيات. فالرسول هو مصدر النور، ومصدر الوجود، وبفضله جاء الدين وأرسل الرسل، ومن علمه كان اللوح المحفوظ والقلم :[الكامل]

من نوره كل البرية كونـت
وبه بـدا للدين حسن تمام
وبنوره الرسل الكرام تأيدت
بدلائل للعــالمين جسـام
وعلومه ديم هواطل جمـة
منها علوم اللوح والأقلام#

بل إن اليوسي يذهب إلى أبعد من هذا المدى، فيعتبر أن النبي عاش الأزمنة كلها، وعايش الأنبياء والرسل. فبالنبي محمد استجار آدم حين خطيئته، وباسمه هتف نوح حين علا الطوفان بمركبه، وبذكره تحرر يونس من بطن قبره:[البسيط]

بك استجار صـفي الله آدم في
توبـته وابنه نوح بمـلتطم
ويونس في حشا حوت وسيرهم
من كل ذي شر فعال وذي عظم#

وفي تمثله للحقيقة المحمدية يصل اليوسي إلى الاقتناع بأن النبي هو إنسان بالاسم فقط، وبأنه سر الله الذي علا كل المخلوقات الطينية والنورانية :[الطويل]

وأحمد إنسـان وبالاسـم إنه
ليعلو على الأملاك فضلا ويكبر
وأحمد سر الله في الخلق صانه
فلم يره أعــمى ولا متـبصر#

وبعد استعراضه لمختلف التجليات النورانية للحقيقة المحمدية، ينتهي اليوسي ـ كما انتهى غيره من الشعراء المادحين ـ إلى حقيقة متفق عليها، وهي أن شخصية النبي تبقى فوق الوصف وأسمى من المدح مهما امتلك الشعراء من عبقرية إبداعية أو ملكة شعرية.لأن الشاعر عاجز عن الإحاطة بالشخصية النبوية. ولذلك تبقى كل محاولة لمقاربة هذا المطلق قاصرة، وما الذي يمكن أن يقوله الشعراء بعدما أثنى عليه الخلاق؟ :[الطويل]

وما يبـلغ المـداح منه وقـد أتى
عليه ثناء في الكتاب مكــثر
أبعد ثناء الرب يرجى لــواصف
ثناء وإن جاء البليغ المكـثر#

ويؤكد هذا الشعور في نبوية أخرى بقوله :[الكامل]

ما يبلغ المداح في وصف الذي
أثنى الإله عليه بالإعظــام#

وقد سلك اليوسي- في هذا الشعور بالعجز والتقصير- مسلك العديد من الشعراء، وهكذا نجد أشعاره قد تحاورت مع بعض النصوص، و تناصت فيما بينها بشكل واضح وجلي، بحيث تتداعى إلينا أبيات وقصائد كثيرة تحمل المعنى نفسه، منها ما قاله ابن الخطيب :[الكامل]

يا مصطفى من قبل نشأة آدم
والكون لم يفتح له أغـلاق
أيروم مخلوق ثناك بعدمــا
أثنى على أخلاقك الخـلاق#

وقال شاعر آخر:

أرى كل مدح في النبي مقصـر
وإن بالغ المثنى عليه وأكثـرا
إذا الله أثنى بالذي هو أهـــله
عليه فما مقدار ما يمدح الورى#

و يعترف اليوسي بعجزه وتقصيره في مدحه للنبي (ص) لأن الشعر وعبقرية الشعراء وكل الوسائل تضعف أمام عظمة الممدوح ومهابته ومقامه السني :[الطويل]

محاسنه فوق الذي يعرف الورى
فمن رامه بالمدح فهو مقصر
إذا رام مدح المصطفى قعدت بـه
مهابته العظمى فيعيى ويحسر#

وهو بهذا الاعتراف يلتقي مع الشاعر أبي بكر التطيلي الغرناطي في قوله :[الطويل]
إذا رمت مدح المصطفى شغفا به تبـلد ذهني هيبة لمـقامه#

وهكذا تكون هذه الخطرات الصوفية وهذه الومضات الإشراقية قد أعطت صورة جديدة للتجربة الصوفية الناصرية التي اعتصمت بالخط الصوفي السني، وتبنته في تعاليمها. فكل ما تحدث عنه الشعراء الناصريون بخصوص التجليات القدسية للحقيقة المحمدية، يعد استثناء في التصورات المرجعية للطريقة الناصرية، وتجاوزا للمنطلق السني في التعامل مع شخصية النبي. وقد جاءت هذه الانزياحات التصورية نتيجة للاحتكاك المتواصل بالمصادر الصوفية والمدائح النبوية التي تسربت إليها الشطحات الصوفية المتأثرة بالتصورات الغنوصية والفلسفية.

السيرة النبوية :

شكلت السيرة النبوية أهم المكونات البنيوية في المدائح النبوية. فشعراء المديح يستعرضون قبسات من سيرة النبي(ص) ويسردون شذرات من معجزاته ومواقفه الخالدة التي تميزت بها حياته قبل البعثة وبعدها. فتتحول مدائحهم إلى مسرد للأخبار والأحداث، تعج بالموروث النبوي، مما يعطيها أكثر من وظيفة، ويجعلها تؤدي أكثر من دور.

والحقيقة أن العودة إلى السيرة النبوية هو استدعاء مقصود للذاكرة التي تمثل النموذج. فلم يكن الشاعر يقصد التاريخ والسرد الإخباري للأحداث والمواقف، بقدر ما كان يعرض الماضي على الحاضر، ويستحضر حياة النموذج وسيرته لاستعادة التوازن إلى النفس واليقين إلى القلب. ففي الفترات التي يفقد فيها الإنسان القدوة الصالحة، وتقذف به الحياة في دوامة الحيرة والانتظار، بحثا عن المخلص والمنقذ، فحينئذ يحتمي الناس بالسيرة النبوية، ويدغدغون مشاعرهم بذكر المنقذ النموذج الذي لم يأت الزمان بمثله. يحنون إلى تاريخه وحياته المليئة بالأنوار والأسرار، يحلقون بخيالهم، فيعيشون حياة وهمية افتراضية مع جمال الرسول وكماله وأفعاله. هكذا يستطيع هذا الاسترجاع للزمن الماضي أن يمحو عن الإنسان جزءا من الكآبة، وينسيه بعضا من معاناته وصراعاته. يستطيع الزمن النبوي أن يعيد الطمأنينة إلى النفس المتمزقة، وإلى القلوب المكلومة التي تحمل آثار الواقع وأعباء الحياة. لأن الانبهار بشخصية الرسول والتعلق بأهدابه والتبرك بذكر سيرته العطرة، دواء نفسي فاعل وعلاج روحي يعيد التوازن إلى الذات، ويرد الثقة إليها.

لقد مهدت البيئة الصوفية الناصرية السبل للشعراء المادحين، ويسرت لهم المادة العلمية التي يرفدون منها ويغذون بها تجاربهم الشعرية. فدروس السيرة كانت من المواد الدراسية المقررة في البرنامج التربوي للزاوية، وبذلك كان تلامذتها على دراية واسعة بكل جوانب التاريخ النبوي، وعلى علم كبير بأهم الأحداث والمعجزات التي رافقت مسيرة النبي منذ ولادته إلى قيام دولته والتحاقه بالرفيق الأعلى. كانت حياته صاخبة غنية بالدرر والنفائس، تغري كل عاشق للجناب النبوي، وتدفعه إلى الاقتداء به والتأسي بسيرته وصفاته. وهكذا شارك الشعراء في كتابة السيرة الشعرية للنبي (ص) بنصوص تعيد إنتاج المادة التاريخية في قالب شعري، وقد جمعت بين ثناياها مختلف الإشارات الواردة في كتب السيرة النبوية الشريفة.
حاولت المدائح النبوية أن تكون موازية للنص التاريخي، متبنية الخط الكرونولوجي لسيرة الرسول (ص)، فسجلت أهم المحطات، وذكرت المواقف المشرقة التي رصعت حياة النبي(ص). فها هو أبو سالم العياشي(ت1090) يصوغ قصة الميلاد النبوي في قالب شعري، تتفاعل فيها الكلمة الشعرية بالنصوص التاريخية : [البسيط]

كم آية ظهرت ليلـة مولــده
كرؤية الشهب تدنو منه بالمقـل
وخفة الحمل حتى لم يحس بـه
ولم تجد أمه أذى من الحــبـل
وشاهدت أمه نورا أضاء لهـا
فعاد منه ظلام الليل كالطــفـل
وفارس خمدت نيرانهم وهوت
من صرحهم شرفات عد من سيل#

وغير خفي أن أدبية النص تتضاءل حينما يطغى السرد التاريخي وتكثر الوقائع وتتراكم الأحداث، ويتم عرضها بتقريرية جافة وبأسلوب خطابي مباشر، بحيث يفقد الشعر رواءه وجماله، ويتحول إلى مجرد وثيقة تاريخية منظومة.

تنقلنا المدائح الناصرية إلى عالم المعجزات النبوية التي رافقت سيرة النبي وواكبت دعوته، وتقدم بعض الأحداث المتفرقة بشكل سريع وانتقائي. يقول ابن الزاوية وأديبها محمد المكي بن ناصر(توفي بعد1184) ساردا معجزات النبي (ص) :[الطويل]

ألست الذي اختار المهمين من بني
قصي ومن فـهر بن مالك والنضر
ألست الذي أسـرى به الله للسمـا
إلى العرش والكرسي مرقى ذوي البر
فصافحت أملاك السمـا وسلـمت
عليك كما الأنباء لقــوك بالبـشر
ألست الذي اختـار الإله لوحــيه
وخصه بالوجه المنيـر وبالذكـر#

ويزيد في مديحية أخرى من سرد باقي المعجزات النبوية التي يحار فيها العقل ويسلم بها القلب المؤمن الذي أدرك منزلة النبي وشأنه عند رب السماء:[الكامل]

أنت الذي شق المـنير لأمـــره
وحمته في الغار الحمامة من يرى
وتكلمت حصب الفلاة بكـفـــه
لما روى منها الجيوش الكوثــرا
وسريت من حرم إلى الأقصى إلى
أعلى الطباق مناجيا رب الــورى
وتفلت في عيـني علي بعــدما
رمدت فأضحى كالعقـاب إذ يـرى
ورددت عين قـتادة من بعـدمـا
قلعت وأعوز جبرها من أغـبــرا
والظبـي والضب إليـه تكلـمـا
والدوح أومت بالسجود كما جرى#

لقد وجد الشعراء الناصريون الباب مفتوحا لولوج عالم المديحيات، فاستوعبوا النمط، وجاروا رواد هذا الفن، وأعادوا إنتاج النصوص المديحية، وكرروا التجارب السابقة حتى طغى عليهم التقليد في الشكل والمضمون والصياغة. فقد كانت بردة البوصيري حاضرة دائما وأبدا، وكأنها المنار الذي يهتدي به كل من يركب سفينة المديح النبوي. ويبدو أن البوصيري قد مارس ضغطه الفني على شعراء المديحيات، فجاءت أغلب القصائد حاملة لصدى البردة ولبعض نفحاتها.
أما صفات النبي وشمائله، فقد استأثرت باهتمام شعراء المديح، وجعلوا لها مساحة مهمة في صدر قصائدهم، تعبيرا منهم عن مدى تعلقهم بذات النبي ، تلك الذات التي وصلت منزلة الكمال البشري، وسطعت أنوارها في السماء، وعم جمالها الكون، فلا ترى جمالا إلا وقد تجاوزه النبي وتفوق عليه. وهذا ما نجده في هذه المديحية لأحد كبار أتباع الزاوية، وأحد شعراء المديح الأديب أحمد بن عبد الحي الحلبي(ت1120)، يقول مادحا صفات النبي وشمائله، وقد بدأ النص متغزلا :[الوافر]

كريم الوصل ما أحلاك وصلا
إذا أوصلت من بالحب وصـلا
فما أحلى صدودك والتجــني
إذا لم تبغ بالهــجران فصـلا

ومنها مادحا النبي :

وقالوا في السماء البدر قـلنا
فأنت البدر بل أزهى وأعـلـى
فللقمـرين حجب واختـفـاء
ووجهك منها في الكونين أجلا
وقالوا الغصن حلو في اهتزاز
فقلـنا قدك الميـاس أحـلـى
وقالوا للظـبا حـور مليـح
لعينك ما دروا شكلا وشــكلا
فعينك لا تبارى في جـمـال
وقد جمعت لكل الحسن شـملا
وقالوا الصبـح وضاح فقلـنا
جبينك عن صبـاح ما تخـلى
وقالــوا البرق مبتسم فقـلنا
لثغرك برق أنس ما تــولـى#

وهكذا يمضي الحلبي في ذكر محاسن النبي وصفاته جزءا جزءا، متبنيا الطريقة الحوارية، ومصطنعا أسلوب الحجاج، وقد طالت قصيدته بهذه التكرارية التي أضفت على النص تشويقا وإثارة خاصة.

و كل من كانت هذه صفاته وهذه مزاياه، فإنه أحق بأن يهيم الناس في حبه وغرامه، ولذلك صرح أغلب شعراء المديح بحبهم للنبي وبعشقهم لجنابه .وحول ذلك يقول محمد المكي بن ناصر :[الكامل]

يا من كلفت بحسنه وغرامـــه
هل لي إلى لقيا خيالك في الكرى
أنت الذي عذل العذول لحبـــه
كفر العذول وما درى لو أبصرا#

ونلاحظ أن الشاعر قد اصطنع لغة العذريين الوالهين الذين يتطلعون إلى الوصل ويكتفون بالحلم والطيف والخيال، وينتظرون رؤية المحبوب على أحر من الجمر. وما الألفاظ : (كلف ـ حسن ـ غرام ـ لقيا ـ خيال ـ العذول ـ حب) إلا دليل على أن التجربة الصوفية في بعض أبعادها هي تجربة حب حقيقي صادق بين طرف منكسر ضعيف عاشق، وطرف آخر تمثلت فيه كل صفات السمو والكمال والجمال.

وحينما يحس الشاعر المادح بالتفاوت الكبير بين الطرفين، وبأن منزلة المحبوب أسمى من الأقمار والنجوم، وأن الوصل به غاية لا تدرك ، فإنه يكتفي بالاستنجاد به وطلب الشفاعة منه، والاعتراف بين يديه بالتقصير. فتتغير نبرات صوته وجرس ألفاظه، ويلجأ إلى معجم التذلل والانكسار والتضرع، مخاطبا الرسول وطالبا الشفاعة منه،يقول محمد المكي :[الطويل]

ألا يا رسول الله جلت جرائــمي
فكن لي حفيظا يوم أدخل في قبري
وكن لي شفيعا يوم لا ينفع الورى
سوى صالح الأعمال من علم الخير
فأنت ملاذي يا عمادي وموئلـي
وأنت لي الحصن المنيع من الذعر#

وهذه النبرات المتضرعة عادة ما كانت تختتم بها المديحيات، لأن الشاعر بعد فراغه من مدح محبوبه، يجد نفسه غير مؤهلة لأن تحظى بوصال أو بقرب، لما علق بها من الأوزار والآثام. ولهذا يلجأ الشعراء إلى الختم بطلب الشفاعة والاعتذار والاعتراف بالتقصير. وكأن نفس الشاعر المنهزمة المنكسرة الغارقة في مهاوي الغفلة تجد في الجناب النبوي طوق النجاة ، فتنساب عبارات التضرع باستكانة وخشوع، لتعلن عن اختتام المديحية بالمقصد الخفي والغاية المتوارية وراء عبارات الثناء والتبجيل.

ولا يمكن أن ندعي بأن شعراء المديح كانوا نفعيين في مدحهم للنبي(ص)، أو بأن ما قدموه من أمداح لم يكن صادرا عن عاطفة صادقة. لأن القول بهذا الرأي يجعل المدائح تلتقي مع شعر التكسب الذي يغلفه النفاق والتزلف والمجاملة. والحقيقة أن المدائح النبوية أبعد ما تكون عن هذه المنطلقات البرغماتية الفاسدة.وذلك لأن حب النبي والتعلق به جزء من مقتضيات العقيدة و من شروط الانتماء للإسلام كدين وحضارة.

إن الشعراء الناصريين، في مدحهم للنبي (ص)، صدروا عن مشاعر صادقة فياضة بحبه (ص). لأن التربية الصوفية التي تشربوها وتربوا عليها علمتهم كيف يتنكرون لذواتهم في علاقتهم بغيرهم. فكيف إذا كانوا يخاطبون الحبيب الذي غمرتهم أنواره القدسية، واهتزت بذكره قلوبهم وتحركت له مشاعرهم العاطفية. ولذلك جاءت مدائحهم، في أغلبها، معتدلة ليس فيها غلو أو تطرف، تكشف عما في أعماق النفس العاشقة من عشق وهيام، بعيدا كل البعد عن الشطحات الصوفية الفلسفية والعرفانيات المغالية، لأن الناصريين تعلموا التصوف السلوكي والتربوي، ولم يحتفوا بالتصوف الفلسفي الوجودي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى