الأربعاء ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

المرأة المصرية كما صورتها رواية "عمارة يعقوبيان"

إن من المؤكد أن رواية "عمارة يعقوبيان" تحمل بين طياتها رسائل ونداءات ضمنية مختلفة موجهة أولا إلى جمهور القراء من مختلف الطبقات، وثانيًا إلى المسؤولين في جميع مواقعهم دون استثناء.. هذه الرسائل الضمنية جاءت على شكل صور فنية بذل الأسواني جهودا عظيمة من أجل جعلها صورا دقيقة ومتكاملة لا يشوبها غبار وحتى لا تحوم حولها الشكوك من مختلف الأطراف.. هي صور متقابلة بالرأس انتقاها من المجتمع المصري لتمثل كل منها شريحة معينة.. فنراه تارة يعرض لنا صورة للرجل المؤمن تقابلها صورة للرجل الفاجر الْمُنْحَلِّ.. وصورة لرجل الدين المتطرف تقابلها صورة أخرى لعلماء السلطة.. وصورة للغني وأخرى للفقير.. وهكذا.. لكن الراوي تعمّد، أو ربما نسي، أن يعرض الصورة الوسطى للسواد الأعظم من المجتمع المصري.. ومن بين الصور التي عرضها أمام جمهور القراء والتي لفتت الأنظار والانتباه صورة المرأة التي غالى في تصويرها مغالاة شديدة لسببين: الأول من أجل التجديد والتحبيب وجلب أكبر عدد ممكن من القراء من خلال وصف مفاتنها والخوض في أدق الأمور الجنسية والثاني من أجل أن تمثل الشريحة الحقيقية التي تنتمي إليها المرأة.. ولعله عرض تلك الصور وهو في غفلة من الدور الحقيقي الذي تمثله في مجتمعها.. ولقد عرض الراوي المرأة في بداية روايته من خلال ما تنطق وما تفكر به إحدى الشخصيات التي صنعتها وهي شخصية كمال الدسوقي الذي رأى على أن المرأة " ليست بالنسبة إليه شهوة تشتعل حينًا فتخبو وإنما عالم كامل من الغواية التي تتجدد في صور لا نهاية لتنوعها الفتان" (الرواية ص 12) فها هي صور المرأة تتكشف لنا في أربع حالات مختلفة تمام الاختلاف:

الأولى: صورة للمرأة الفقيرة الانحلالية خلقيًا واجتماعيًا - وهي صورة قبيحة- تبحث عن لقمة العيش لتعيل نفسها وأهلها فتتاجر في عرضها من أجل تحقيق هذا الهدف وهو الحصول على المال.. وهذه الصورة هي الصورة نفسها التي تتطابق مع الصورة النسائية التي عرضها علينا الدكتور يوسف إدريس في روايته "العيب".. ولربما أخذت نفس الفكرة منها أو أن هناك تأثر ما من الكاتب الراحل.. وتتمثل الصورة في شخصية بثينة الفتاة التي أحبها طه الشاذلي ابن البواب البسيط الذي لم يفلح في الانتساب إلى كلية الشرطة.. بثينة العفيفة الطاهرة التي دعت له ذات يوم بحنان صادق:

"يا رب يوفقك يا طه.. (الرواية ص 34) ثم تحوّلت من العفاف والطهارة تحت ظروف صعبة وضغوط من هنا وهناك إلى فتاة تبحث عن عمل لتسد الفراغ الذي تركه والدها بعد وفاته ولمّا يبلغ الخمسين من عمره. ولم يحدث التحوّل الحقيقي إلا بعد أن وجدت نفسها تسير وأهلها في طريق وعرة تدعو إلى العمل وزيادة في الدخل: " إخوتك في حاجة إلى كل قرش من عملك والبنت الشاطرة تحافظ على نفسها وشغلها" (الرواية ص 62) ولكن كيف تحافظ على نفسها أمام صاحب شغل يفتح سرواله؟! ثم تجد دفعة قوية أخرى من فيفي جارتهم على السطح ابنة صابر الكواء. هذه الدفعة جعلتها تقف أمام اختبار صعب كي تتحرر من المبادئ والقيم ثم لتزول من نفسها تلك التخوفات: "انت عبيطة يا بت؟! وأكدت لها فيفي أن أكثر من 90 في المائة من أصحاب العمل يفعلون ذلك مع البنات العاملات. وأكدت لها أن مسايرة صاحب العمل في حدود تعتبر شطارة.. وأكدت لها أنها من عامين مرتبها مائة جنيه ولكنها تكسب ثلاثة أضعاف هذا المبلغ من "شطارتها" بخلاف الهدايا. (الرواية ص 63).. ثم سقطت تلك القيم نهائيًا فأصبحت النظرة مادية بحتة وتجلّت لنا بوضوح عندما رُفض الطلب الذي قدمه طه الشاذلي من أجل الدخول إلى كلية الشرطة- وصاحت بثينة بوضوح: " وإيه يعني ضابط بوليس؟... الضباط أكثر من الهم على القلب.. يا فرحتي بالبدلة الميري وأنت بتقبض ملاليم.." (الرواية ص 83)

ثم تتطور الأزمة شيئًا فشيئًا فأخذت تدافع عما تفعله من أعمال لا يقبلها الدين ولا المجتمع فيحاول طه الشاذلي أن يقدم لها النصيحة فيقول: "زكي الدسوقي سمعته وحشة" فتجيبه بإصرار:

"أيوه سمعته وحشة وبتاع ستات لكن بيدفعلي 600 جنيه في الشهر.. وحيث إني بأصرف على علية وحيث إن حضرتك ما تقدرش تدفع لي مصاريف المدارس والأكل والشرب يبقى سيادتك مالكش دعوة". (الرواية ص 164) ثم تذهب أبعد من ذلك فتفصح لزكي كمال عن كراهيتها لبلدها التي لم تقدم لمواطنيها شيئًا حتى يتخلصوا من الفقر الذي هم فيه:

 أنت بتكرهي مصر..؟!

 طبعًا..

 معقول!.. حد يكره بلده؟!

 أنا ما شفتش منها حاجة عشان أحبها." (الرواية ص 192)

ثم تفقد الفتاة إشفاقها على الناس وتكوّنت حول مشاعرها قشرة سميكة من اللامبالاة، وقد نجحت بعد محاولات متكررة في التخلص من شعورها بتأنيب الضمير، دفنت إلى الأبد الإحساس بالإثم الذي ينتابها وهي تتعرى أمام رجل غريب وتغسل عن ثيابها نجاسته ثم تمد إليه يدها لتقبض عشرة جنيهات، وصارت أكثر قسوة ومرارة وجرأة ولم تعد تبالي حتى ما يردده سكان السطح حول سمعتها.. ثم تقضي مع زكي الدسوقي كبير السن ساعات عاريين تماما وقد تخلصا تماما من إحساسهما بخصوصية جسديهما تصنع له القهوة وتعد له كؤوس الويسكي والمزة ومن حين لحين ينامان معا.

وتعبر عما تشعر به من نقص وعن أسباب وصولها إلى هذه النقطة الحرجة قائلة: " نفسي أعيش مرتاحة ويبقى عندي أسرة.. زوج يحبني وأولاد أربيهم وبيت صغير جميل ومريح بدل السكن فوق السطح، نفسي أروح بلد نظيفة، ما فيهاش وساخة ولا فقر ولا ظلم.. (الرواية ص 284)

ثم تحدث الكارثة التي لم تتوقعها بثينة أبدا حين يضيء ويلقى القبض عليهما وهما عاريين تماما بأمر من "دولت" شقيقة زكي ويتم نقلهما إلى مركز البوليس ثم تنتهي قصتها أخيرًا بزواجها من ذلك العجوز الذي كان طوال حيته يطارد النساء..

الصورة الثانية: صورة المرأة المتدينة المتشددة التي تعصي المخلوق من أجل إرضاء الخالق.. وهي غاية سعت من أجل تحقيقها عن طريق إقامة الفرائض الدينية والانتماء إلى الجماعات الدينية المتشددة.. وتتمثل في شخصية رضوى أبو العلا زوجة الشهيد حسن نور الدين من أسيوط.. امرأة متدينة تقدم للزواج منها مهندس ثري بعد استشهاد زوجها فترفضه لسبب واحد لأنه تارك للصلاة ورغم محاولات الأهل إقناعها بأنه سيلتزم بعد الزواج إلا أنها رفضته.. ولا تريد الارتباط إلا بالرجل المتدين الصالح.. ولقد تبيّن لنا من خلال هذه الشخصية أن الفكر التكفيري الذي تنتمي إليه هذه المرأة، وهي مقتنعة بالمسلك الذي تسير فيه، ما زال قائمًا في مصر ولا يزال أبناؤه يكفّرون الأمة وأبناء الأمة من العصاة وتاركي الصلاة: "شرحت لهم أن تارك الصلاة كافر شرعًا ولا يجوز أن يتزوج مسلمة"... "المشكلة أن أهلي غير ملتزمين، هم ناس طيبون لكنهم للأسف لا زالوا على جاهلية وقد خفت على نفسي من الفتنة في ديني وأردت لعبد الرحمن ابني أن ينشأ في طاعة الله فاتصلت بالشيخ بلال ورجوته أن يسمح لي بالمعيشة في المعسكر".. (الرواية ص 308)

ثم ترتبط رضوى بالشاب طه الشاذلي فيزفّ العروسان وفقًا للطريقة الإسلامية.. إلا أن هذا الارتباط لم يدم طويلا فسرعان ما أوكلت إلى طه الشاذلي عملية تصفية العقيد صالح رضوان الذي كان يتلذذ بالإشراف على تعذيب الإسلاميين. لكن طه الذي خالف الخطة ظل واقفًا حتى يرى الضابط بعينيه وهو يموت فأطلقت عليه النيران من الدور الأول وقُتل في الحال..

الصورة الثالثة تتمثل في شخصية سعاد جابر، البائعة في محلات هانو بالإسكندرية مطلقة ولها ولد واحد. كانت متزوجة من نقاش أنجبها الولد ثم تركها وسافر إلى العراق وانقطعت أخباره وحكمت لها المحكمة بالطلاق خوفًا عليها من الفتنة.. وتمثل طبقة الفقراء أيضًا الذين يبحثون عن المال بالطرق الشرعية الملتوية لكن بشروط مسبقة.. إلا أنها تفضي بهم إلى غاية لا تحمد عقباها لأن الشروط تقف عائقًا أمام تحقيق رغبات أخرى. وهكذا تتزوج سعاد جابر الحاج عزام الرجل المشبوه مبيض الأموال فتتخلى وفقًا لشروطه عن ولدها تامر لتعيش معه في القاهرة ويظل زواجهما سرًّا.. وقد شدد الحاج عزام في العقد الذي وقع عليه الطرفان أنه لا يرغب في الإنجاب إطلاقًا..

لكنها لم تلتزم بالاتفاق وحاول الحاج على مدى أسبوعين كاملين إقناعها بالإجهاض مستعملا طرق الإقناع والإغراء والتهديد والعنف.. "كان ينطق لفظ الطلاق بنبرة فارغة زائفة لأنه في أعماقه كان يريد الاحتفاظ بها لكن فكرة إنجابه لطفل وهو في هذه السن مستحيلة ولو سمح هو بذلك فإن أولاده الرجال لن يسمحوا وإذا كانت الحاجة صالحة زوجته الأولى لم تعرف بزواجه الثاني فكيف يخفي الأمر عنها إذا أنجب طفلاً؟!" (الرواية ص 241) واستخدم الحاج معها طريقة جديدة فأحضر لها الشيخ السمان (أحد علماء السلطة) وحاول إقناعها بالإجهاض مؤكدا لها أن التخلص من الحمل خلال أول شهرين لا يعتبر إجهاضًا لأن الروح تنبعث في الجنين في بداية الشهر الثالث.

"- من قال الكلام ده؟!

 فتاوى موثقة لكبار علماء الدين..

ضحكت سعاد ساخرة وقالت بمرارة:

 دول لازم مشايخ أمريكان.." (الرواية ص 245)

ثم تطرده سعاد وتلحقه بالشتائم واللعنات

لم يدم زواجها من الحاج عزام طويلا إذ دبّر لها مكيدة فأرسل إلى بيتها أربعة أو خمسة رجال انقضوا عليها وكتم أحدهم فمها بالوسادة وأمسك الآخرون بيديها وقدميها حتى أوثقوها بقوة وشلوا حركتها تماما وكشف أحدهم كُم البيجامة التي ترتديها وغرزوا في ذراعها إبرة مخدرة لم تستفق من مفعولها إلا في المستشفى:

" – أنا كنت حامل وأنتم سقطتوني غصبًا عني

وابتسم الطبيب فبان أنه كاذب وخائف وقال بصوت مرتبك:

 حضرتك كان عندك نزيف يا مدام.. هدّي أعصابك لأن الانفعال ممكن يؤذيك.." (الرواية ص 274)

وبما أن الحاج عزام يخشى الله فقد طلقها وأعطاها أكثر من حقوقها. "المؤخر والنفقة حسبناهم بما يرضي الله وعليهم زيادة من عندنا وأخوك حميدو معه شيك بعشرين ألف.. وحساب المستشفى مدفوع وكل حاجاتك أخذناها من البيت وهنبعتها لك إسكندرية " (الرواية ص 275)..

الصورة الرابعة وتتمثل في شخصية دولت شقيقة زكي الدسوقي المرأة الغنية المتسلطة التي تحولت من أخت حبيبة إلى عجوز كريهة وشرسة.. "كانت متزوجة من اليوزباشي طيار حسن شوكت وأنجبت ولدًا وبنتًا ثم قامت الثورة فأحيل شوكت إلى التقاعد لعلاقته الوطيدة بالأسرة المالكة ولم يلبث أن مات فجأة ولما يتجاوز الخامسة والأربعين، وتزوجت دولت بعده مرتين ولم تنجب، زيجتان فاشلتان أورثتاها المرارة والعصبية وإدمان التدخين" (الرواية ص 94) ابنتها كبرت وتزوجت وسافرت مع زوجها إلى كندا ثم أصبح ابنها طبيبًا وهاجر من مصر.. وكان وجودها مع أخيها زكي الدسوقي يمنعه دائمًا من استضافة عشيقاته في البيت وزاد من معاناته تدخلها السافر في أدق شؤونه ومحاولتها الدائمة للتسلط عليه.. وبلغ الحد ذروته حين تركها زكي وأقام في شقته في عمارة يعقوبيان التي كانت مكتبًا له دبّرت خطة لاقتحام مع مجموعة من المخبرين في وقت يكون فيه مع بثينة عاريين على أساس أنها أخته ومقيمة معه فتقدمت ببلاغ ضده لأنه يمارس الفحشاء في بيتها وطلبت إثبات الحالة لأنها رفعت عليه قضية حجْر.. "وتقدمت من بينهم دولت وعلى وجهها ابتسامة شامتة خبيثة وسرعان ما علا صوتها حادا كريهًا كالموت: مسخرة وقلة حيا.. كل يوم جايب مومس وبايت معها.. كفاية نجاسة يا أخي حرام عليك" (الرواية ص 285). بل ذهبت أبعد من ذلك فقد استطاعت بالواسطة والرشوة أن تجذب الضباط جميعا إلى صفها فعاملوا زكي الدسوقي بمنتهى الفظاظة والوقاحة ومنعوه من استعمال التليفون وتبادلوا التعليقات الهازئة به.

ثم يعرض الأسواني بعض الصور النسائية من غير تفصيل أو مشاركة فعالة تُذكر في أحداث الرواية أولها للمرأة القبطية سناء فانوس الأرملة من أصل صعيدي، ثرية ولها ولدان تفرغت لتربيتهما بعد وفاة زوجها وكانت تستجيب لنزوات جسدها من وقت لآخر فتعرفت على زكي الدسوقي ورافقها لفترة وبقدر استمتاعها بالعلاقة ظل ضميرها الديني يؤرقها وكثيرًا ما يجعلها تنخرط في بكاء مؤلم وهي مستلقية في أحضان زكي بعد انقضاء اللذة وراحت تهديء من إحساسها بالذنب بالإكثار من عمل الخير عن طريق الكنيسة..

وصورة لرباب حبيبة زكي الني منحته جسدها من أجل الوصول إلى ماله فسرقت منه مبلغًا كبيرًا من الذهب والمال وفرّت هاربة دون أن يشعر بذلك.

وكذلك زوجة عبده التي أدركت أخيرًا أن موت طفلها ما هو إلا عقاب من الله بسبب الرذيلة التي يمارسها زوجها مع حاتم مقابل مبلغ من المال فكان لا بد لها من إقناعه بالعدول عن الفاحشة والتخلي عن الأموال التي لا تأتي من مصدر حلال والعودة إلى الريف المصري..
ويبقى السؤال مطروحًا أمام القراء وجمهور النقاد: إذا كانت هذه صور النساء قد شاركت في صنع أحداث الرواية فهل أنصف الكاتب علاء الدين الأسواني المرأة؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى