الاثنين ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
الروائي الفلسطيني توفيق فياض في حوار سابق مع الكاتب حسن حميد

الوطن بعيد ودروب الطفولة صارت تاريخا وذاكرة

في مسرحيتي (بيت الجنون) تنبأت بالانتفاضة التي لابديل عنها

أن تلتقي الروائي توفيق فياض يعني ان تلتقي المناضل الكاتب , او الكاتب المناضل . كتب اكثر من رواية ومسرحية وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره حيث كان يعيش في مدينة حيفا، يشارك في المشهد الثقافي , كتابة وفاعلية، يكتب المقالة ويشارك في المظاهرات الى ان اودع السجن بسبب تهمته بالتحريض والمقاومة. وكان ان افرج عنه مع العديد من السجناء المصريين .. فأخذته المنافي بعيدا عن الوطن .. يتجر الحنين كتابة وحضورا.

التقيناه وكان هذا الحوار:

 اذا ماعدنا الى الوراء كثيرا او قليلا , كيف تعيد لنا عملية خروجك من فلسطين المحتلة اثر تبادل الاسرى مابين مصر والكيان الصهيوني عام 1974.

 بالفعل , خرجت من وطني فلسطين سنة 1974 ضمن عملية تبادل لأسرى الحرب بين مصر والكيان الصهيوني , وكنت انذاك في السجن , وقد كان خروجي إبعادا قسريا , وليس مجرد خروج فحسب , وقد عرفت ذلك وأنا ماأزال داخل السجن , حيث اكتشفت بعد اقتيادي من سجن ( شطة ) في منتصف الليل مقيدا , ومعصوب العينين , ليقطعوا بي الصحراء باتجاه مصر لتسليمي للجيش المصري , ولكن رفضي كان دون جدوى , وحين استل الضابط المصري سكينه , وهو يبعد الضابط الصهيوني الذي كان يقودني بحركة متعالية , وراح يقطع قيدي البلاستيكي المنغرس في معصمي , غصصت بالدمع , وتيبس لساني ففقدت القدرة على الكلام , كانت لحظة من اصعب لحظات حياتي .. فقد عرفت انني اصبحت بعيدا عن وطني , وانه صار ورائي , وان هذه اللحظة هي اللحظة التي ستغير تاريخ حياتي ومجراه .. ايضا.

 هل يمكن ان تحدثنا عن بداياتك الادبية داخل الوطن الفلسطيني المحتل , وكيف كتبت رواية ( المشوهون ) , ولماذا كانت بمنزلة الفضيحة ؟

 (المشوهون) رواية كتبتها ونشرتها عام 1963 , وقد خصصت بها احداثا جرت في مدينة الناصرة التي تعد العاصمة الثقافية السياسية والاقتصادية للاراضي الفلسطينية وسكانها الذين بقوا تحت نير الاحتلال. الرواية تناولت سلبيات المجتمع العربي داخل فلسطين , رسمت معالم ومسارات للشخصيات المشوهة التي تؤذي المجتمع وتفسده , كما تناولت حالات الاحباط والخنوع بالنقد العنيف , وكادت الرواية ان تسمي بعض الشخصيات الحية بأسمائها , لذلك كان من اليسير ان تكتشف الاسقاطات المرادة والمقصودة , ومن هنا جاء انتقاد الرواية وانتقادي شخصيا لان الرواية ركزت على السلبيات الموجودة وتجاهلت الامل والمستقبل المنشود , لذلك كانت رؤيتهاسلبية وسوداوية.

والمدهش ان هذه الرواية (المشوهون) هي التي اوجدت لي معروفية وشهرة في المنطقة العربية وداخل وطننا المحتل , وقد طبع منها اكثر من خمسة الاف نسخة ونفدت خلال وقت قصير جدا , قيل لي انني افضح المجتمع , وارسم صورة سوداوية ، الان اعترف انني كنت متشائما ومحبطا , ولكن الرواية ادت وظيفتها حين سلطت الضوء على السلبيات وكشفت ابعادها , وبينت النماذج الانسانية المشوهة ودفعتها الى الزاوية المعتمة بدلا من ان تتسلم المواقع والمسؤوليات المنارة.

 وهل تعتبر ان مسرحيتك (بيت الجنون) جاءت ردا على ذلك الاحباط والتشاؤم .. حين تنبأت بانطلاق الكفاح المسلح ؟

 (بيت الجنون ) صارت في منتصف عام 1964 , وهي انشغال مسرحي على ارضية وطنية , تدفع معطيات الواقع الى الامام لتبدو كأنها عقبة حقيقية امام المواطن والتاريخ , وانه لابد من الثورة , ولابد من الكفاح المسلح.

وقد ضمنت هذه المسرحية كل مايجول في ذهني من رغبة حقيقية في الانعتاق من هذا الاحتلال والتبشير بالثورة القادمة , ولذلك قال عنها المرحوم غسان كنفاني : انها حملت النبوءة الحقيقية بالثورة . وقد قام بإخراج هذه المسرحية المرحوم انطوان صالح بعد ان انهى دراسته في باريس.

 اعود الى ظروف السجن لاسألك : ماآثار السجن في نصك الادبي , وفي حياتك الشخصية ؟

 لايوجد في الحياة من هول أو فجيعة تعادل فجيعة الانسان حين يصبح سجينا , الحياة تغيب عنه وهي موجودة , السجن موت حقيقي للناس الاحياء , اقتطاع سنوات من اعمارهم التي يجب ان تعاش مع الناس لا مع المخاوف والقلق والتعذيب والتشويه واللامستقبل !! السجن هو القتل المعنوي للانسان جسديا وروحيا وفكريا , ولاحياة للسجين الا بشعور الانتصار على سجانه حين يمثل بين يديه حيا للتعذيب او التحقيق او الضرب.

ومن عجائب السجن الفلسطيني ان السجناء كانوا يؤلفون مجتمعا نضاليا مهما , فيه الكثير من المحبة , والتعاون , والعمل السري , وفيه ايضا معاني البحث عن الحرية , والاستقلال , سجناء السجون الاسرائيلية يعيشون في بيئة هي اشبه بالاكاديمية النضالية التي تزيدهم قوة , ومضاء , وعزة , هذا بالضبط ماشعرت به كسجين بينهم , كما ان السجن مد نصي الادبي بالكثير من البطولات , والمآثر والقصص التي صارت من عيون الادب المقاوم محليا , وعربيا , وعالميا.

صحيح ان سنوات من اعمارنا اقتطعت داخل السجون الاسرائيلية , صحيح ان دمارا جسديا لحق بنا جميعا , لكن الضعف الذي اصاب الاجساد عزز ارواحنا , وملأها بالقوة والايمان.

 من يقرأ اعمالك يشعر انك مهموم بالتفاصيل اليومية والاحداث النضالية داخل الوطن المحتل التي تنسج منها قصة كفاح الشعب الفلسطيني ؟

 هذا صحيح لأن حياتي هي جزء من هذه التفاصيل , ولان التاريخ الذي يكتب هو جزء مشتق من الجغرافيا , والذاكرة . ومن المدهش ان التفاصيل في كثير من الاحيان تغدو جمرة الحياة وعدتها , لا بل قد تغدو موثباتها نحو الغايات.

 كنت قد كتبت رواية تسجيلية , ربما هي اول رواية تسجيلية فلسطينية معنية تماما بهذه التسمية وتجلوها ايضا , هي رواية المجموعة (877) , هل الرواية تسجيلية حقيقية , ام انها تنحو نحو التسجيلية فقط ؟ !

 هذه الرواية قصة حقيقية , بطلها (النمر) معروف جدا , وهو احد ابطال غزة , دوري كان تأريخ اسطورة هذا البطل , وتسجيل تفاصيل عملياته المذهلة التي ستظل صفحة من انصع صفحات النضال الفلسطيني , وهذه العملية تحاكي وتضاهي اهم العمليات البطولية التي عرفها العالم في ابرز المواقع النضالية عبر رحلة الانسانية الباحثة عن الحرية والاستقلال والمجد معا , اعتقد ان هذه الرواية هي التي قدمتني الى المشهد الابداعي العربي , وهنا استثمر هذه الفرصة لاقول : كان لي الشرف ان اكون اديب فلسطين الذي كتب وسجل احدى بطولات ( النمر ) الذي صار مثالا يحتذى في البطولة والجرأة , والنضال الوطني.

 لك مبادرة اخرى غير هذه الرواية التسجيلية , تمثلت في البدء بنشر نماذج من الادب الاسرائيلي الذي تضمن نوعا من عذاب الضمير (او تبكيت الضمير) لجرائم اقترفتها الصهيونية , وذلك عندما ترجمت رواية (خربة خزعة) للكاتب يزهار سميلانسكي ؟

 يزهار سميلانسكي هو احد الكتاب اليهود الذين خدموا في الجيش الاسرائيلي , وقد اقترف مع مجموعته الكثير من الجرائم ضد ابناء شعبنا , أي انه كان شاهد عيان لتلك الجرائم , وهذا لايمنع من القول انه كتب عن (خربة خزعة) احدى القرى الفلسطينية التي دمرت وشرد اهلها .. كتابة من يعترف بجريمته تحت وقع عذاب الضمير , او من يعترف بذنب اقترفه , ولهذا الكاتب رواية قصيرة اخرى عنوانها (الاسير) تتحدث ايضا عن تهجير قرية وتشريد اهلها عبر النهر , وقد لاقت هذه الرواية انتقادات حادة من قبل الصهاينة , وقد ترجمت الرواية الى اللغة العربية من باب تعريف القاريء العربي انماطا جديدة من الكتابة الصهيونية التي تعترف باقتراف الذنب , والجرائم , واود ان اشير الى انه توجد حركات مناهضة للكيان الصهيوني من قبل اليهود انفسهم الا انها حركات ضعيفة وتأثيرها هش وغير فاعل , ولكن علينا الا نتحمس لها كثيرا لان انقلابات اليهود وتغيير مواقفهم يحدث بين وقت واخر . كما ان مواقفهم عرضة للمناورات أيضا.

 ثمة من يقول ان الشعر الفلسطيني شغل مساحة اكبر من المساحة التي شغلتها الرواية والقصة الفلسطينيتان , مارأيك ؟

 هذا رأي لايرى الحال الثقافية بعمق , انه يكتفي بالنظرة السطحية , وذلك لان الابداع الشعري الفلسطيني لم يأخذ حظه من الشهرة على حساب الرواية والقصة , والرواية والقصة لم تتوار نصوصهما بسبب الشعر.

الشعر الفلسطيني اخذ حضوره من جمالية نصوصه وإبداعه , والرواية والقصة موجودتان بحضور كبير داخل الوطن الفلسطيني المحتل وخارجه , وما من عاقل يعرف محمود درويش او معين بسيسو او سميح القاسم ولايعرف اميل حبيبي , ومحمد علي طه , وجبرا ابراهيم جبرا , ورشاد ابو شاور و وغسان كنفاني .. الا اذا كان العماء مهنته.

 منذ خروجك من الوطن الفلسطيني سجينا محررا الى يومنا الراهن , وانت طي المنفى , كيف تنظر الى الوراء زمنيا , وكيف ترى المنفى؟

 ما اقسى ان يفقد الانسان وطنه فجأة , وان يجوب المنافي , حين انظر الى الوراء زمنيا اشعر ان السجن استلبني وهيمن عليًّ في البداية , لكنني نهضت بوجود رفاق لي داخل السجن , وحين ارى واقع المنفى احس بالالم والفقدان , الوطن بعيد , ودروب الطفولة صارت تاريخا وذاكرة , دائما ابحث , وانا في المنفى , عن الاخبار , والطرائق , والوسائل , والعنوانين التي توصلني بالوطن , عشت في مصر فترة اتسمت بالتعاطف , والدفء , والحنو , ثم مضيت الى لبنان وعشت في بيروت ثم دمشق , ثم البحرين ثم استقر بي المنفى في تونس حيث اعيش هذه الايام بانتظار العودة المشرفة قبل انتهاء العمر.

 ومن موقعك الادبي كيف تنظر الى الانتفاضة الفلسطينية ؟ وما آلية التعامل مع احداثها ادبيا وابداعيا ؟!

 لقد ادخلت الانتفاضة عناصر جديدة الى الحياة الفلسطينية، وهذا ماغير المسار في طبيعة المقاومة ودورها النضالي , وفتح الابواب جميعا على الاحتمالات المختلفة , وتلتها الاحتمالات التي تصب في مصلحة الشعب الفلسطيني عموما , لقد اغلقت الانتفاضة دروب عواصم الثلج , ومبادرات الاستسلام , وشرعنة الاحتلال وتبريره , وعادت بالمواطن العربي , والفلسطيني بالطبع , الى الثوابت الاساسية , اعني المقاومة التي لابديل عنها , واستمرارية المقاومة وتفعيلها دائما , الانتفاضة هي امل الشعب الفلسطيني , امل الاحرار في العالم كله .. وغاية الشرفاء الذين لايؤمنون بالهيمنة , والاستعمار , والاحتلال .. والعدو الصهيوني يشكل اخر اشكال الاستعمار في العالم , والانتفاضة تريد ازالته , ورفع ظلمه وبطشه , وانا ككاتب واديب اتعلق بالانتفاضة وبانجازاتها وتوجهاتها واجدها هي الخيار الوحيد لاستعادة الوطن والكرامة والحرية

في مسرحيتي (بيت الجنون) تنبأت بالانتفاضة التي لابديل عنها

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى