السبت ٢١ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم صبحي غندور

تساؤلات عن المجتمع والحركات الدينية

لِمَ يتواصل استهلاك الجهود والطاقات الفكرية في العالم الإسلامي عموماً بالعودة المتزمّتة والمتعصّبة إلى اجتهاداتٍ وتفسيرات كانت خاضعةً لزمنٍ معيّن في مكانٍ محدّد؟ ولماذا هذا الإنحباس في "كيفيّة العبادات" بدلاً من التركيز على "ماهيّة وكيفيّة المعاملات" بين الناس أجمعين؟ ألم يقل الحديث النبوي الشريف إنّ "الدين هو المعاملة"؟. ولِمَ لا يتمّ استخلاص مجموعة من القواعد والقيم والمفاهيم لوضعها بشكل إعلانات مبادئ (مثل إعلان مبادئ حقوق الإنسان) لتشمل مواضيع: الشورى والديمقراطية، العدالة الاجتماعية، مواصفات الدعاة والعمل الصالح، واجبات أولي الأمر والحكّام وعن كرامة الإنسان وحقوقه، بحيث تصبح مرجعيةً لكلّ المسلمين وأيضاً منارةً لغير المسلمين لفهمٍ أفضل للإسلام؟ ففي ذلك مرجعية هامة لمحاسبة الحاكم والمحكوم معاً، ولبناء أي وطن وكل مواطن، وفي ذلك أيضاً دعوة لكل الدول الإسلامية للاستناد إلى هذه المرجعية من القيم والمبادئ بدل التوقّف حصراً على موضوع إجتهادات الفقهاء السابقين في التفسير والشريعة.

أيضاً، لِمَ لا يتحقّق الاتفاق على أنّ الدعوة للفكر الإسلامي في المنطقة العربية هي في أحد جوانبها دعوة لإعادة تصحيح خطيئة تاريخية استهدفت عزل هذه المنطقة عن هويّتها الحضارية وعن دورها العالمي .. وعلى أنّ الدعوة للفكر القومي العربي هي أصلاً لإعادة تصحيح خطيئة جغرافية استهدفت تجزئة المنطقة وإزالة هويّتها الثقافية الواحدة.

في الحالتين، لا تعارض على الإطلاق بين العمل من أجل خدمة الإسلام والعمل من أجل العروبة وأنّ كلاً منهما يخدم الآخر ويساهم في رسالته. وأيضاً بأن لا تعارض بين مشروع سياسي قومي يستهدف تكامل المنطقة العربية لصالح كلّ أبنائها، وبين أي مشروع سياسي قائم على القيم الدينية يستهدف صالح الإنسان وتقدّمه.

فهل، مثلاً، يجد المسلمون في أوروبا تناقضاً بين مضمون دينهم وبين الوحدة بين الدول الأوروبية؟، وهل يتضرّر المسلمون في أميركا من الاتحاد بين ولاياتها؟.

أجد الفارق بين دعاة الدين في المنطقة العربية وبين دعاة العروبة مثل الفرق بين دور القطاعات المختلفة للجيش الواحد، قد تثور بينها حساسيات ومنافسات، لكنّها كلّها مستهدفة في المعارك، وعليها كلّها واجب التكامل والدفاع عن الأمّة.

فكيف يمكن أن تُصان وحدة الثقافة ووحدة الحضارة إذا لم تُصَن وحدة الأرض ووحدة الشعب؟.

أيضاً، إنّ الإسلام يربط بين الإيمان والعمل الصالح، أي بين النظرية والتطبيق، بين الشعار والممارسة. فهل يفعل حقّاً المسلمون ذلك حينما يتحدّثون عن العلاقة مع الآخر وعن التعدّدية والتسامح واحترام حقوق الآخرين؟. إنّ حال الكثيرين من أبناء هذه الأمّة العربية، على المستوى الشخصي، هو كحال الجماعة ككل. فأمَّتنا تقوم ثقافتها الدينية وحضارتها على الحوار مع الآخر بينما لا يفعل ناسها ذلك. أمَّتنا هي مهبط كل الرسل والرسالات، وفي أمّتنا ظهرت حضارات كثيرة ورسالات سماوية قبل الإسلام، وفي الدين الإسلامي دعوة صريحة لعدم التفريق بين بني آدم وبين الرسل والشعوب. إذن هي أمَّة حوارية قائمة على التعدّدية والعلاقة مع الآخر، بينما ينهج ناسها في معظمهم سلوكاً معاكساً.

إنّ المنطقة العربية تقوم روحياً على تعدّد الرسل والرسالات، وتقوم ديموغرافياً على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضارياً على تجارب وآثار أهم الحضارات الإنسانية، بينما الواقع السائد الآن في الأمَّة العربية هو حال التخلف والتفرقة والفئوية والتعصّب.

أيضاً، أيّهما يجب تغييره أو إصلاحه أولاً: الدولة أم المجتمع؟ وهل إصلاح الدولة (أي نظام الحكم) سيؤدّي حتماً إلى إصلاح المجتمع؟ العلاقة بين المسألتين هي طبعاً جدلية، لكن من المحتّم أنّ إصلاح المجتمع أولاً هو السبيل إلى إصلاح الدولة ونظام الحكم. فالحركات السياسية الدينية، حينما تعطي الأولوية لتغيير أنظمة الحكم، فذلك يعني بالنسبة لها بناء أطر حزبية فئوية ثم عملاً سياسياً يومياً وصراعاتٍ لاحقة على السلطة والمناصب.. بينما إصلاح المجتمع أولاً يعني بناءً سليماً للدعوة والدعاة، ويوجب حسن الأسلوب والتعامل مع الآخر في المجتمع، واستخدام التأثير الإيجابي في الناس من خلال العمل الثقافي والفكري البعيد عن التحزّب والمصالح الخاصة.

هنا أهمّية دور "الآخر" في المجتمع العربي التعدّدي، وهذا "الآخر" قد يكون على أساسٍ مذهبي أو طائفي أو أثني أو حتى عقائدي وحزبي. لكن المعيار ليس فقط بإقرار حق وجود "الآخر" بل بحقّه في دوره كشريك طبيعي في المجتمع وبضمان صيانة حقوقه الكاملة.

يؤكّد الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية قرآنية أنّ الحساب للناس هو على أعمالهم بشكل فردي: "يومَ تأتي كلُّ نفسٍ تجادِلُ عن نفسِها .." (سورة النحل/الآية 111)، "مَنْ عمِلَ صالحاً فلنفسِه ومَنْ أساءَ فعليها .." (سورة فُصِّلت/الآية 46)، "كلُّ نفسٍ بما كسبَتْ رهينة .." (سورة المدّثر/الآية 38) الخ .. لكن معظم الناس يتجاهلون الحكمة في هذه الآيات وغيرها، بأنّ الله عزّ وجلّ يقاضي الناس ويحاسبهم على أعمالهم بشكل فردي فلا تُظلَم جماعة لا ذنب لها بأسرها، إن كانت عائلة أو قبيلة أو طائفة، لأنّ فرداً منها أساء، وبأنّه لا يجوز أن ينظر الناس إلى بعضهم البعض من مواقع عائلية أو قبلية أو طائفية، فيتمّ تكريم أشخاص أو ظلمهم تبعاً لانتمائهم وليس بسبب كفاءتهم أو أعمالهم.

وقد كانت هذه الحكمة الإلهية جليّة واضحة في قوله تعالى" "ولا تزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى".
فهل العادات والتقاليد السائدة الآن في معظم البلدان الإسلامية متماثلة مع مغزى هذه الآيات الكريمة؟!. فكثيرٌ من الناس يحاسبون بعضهم البعض على أساس جماعي لا فردي، بل يقتلون أحياناً أنفساً بريئة لأنّها تنتمي فقط لجماعة أخرى، كما هو الحال في جرائم الثأر أو ما يحدث في الحروب الأهلية، وفي بعض ممارسات النظم والحركات السياسية.

إنّ حال الأوطان العربية والإسلامية الآن ينطبق عليه وصف مرض "ازدواجية الشخصية". ففي معظم هذه البلدان تزداد ظاهرة "التديّن" واهتمام الناس بالعبادات الدينية على المستوى الفردي، لكن مع ابتعادٍ كبير لهذه المجتمعات عن مبادئ الدين وقيَمه وفروضه الاجتماعية.

إنّ المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً بحكم دور ثقافتهم ولغتهم واحتضان أرضهم للمقدّسات الإسلامية، مدعوون إلى مراجعة هذا الانفصام الحاصل في شخصية مجتمعاتهم، وإلى التساؤل عن مدى تطبيق الغايات النبيلة فيما هو منصوص عليه من مفاهيم وواجبات دينية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى