السبت ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠٢٢
بقلم أحمد الخميسي

حــجــرة ثـالـثـة داخــل الــقــلــب

يولد القلب وبه حجرتان، واحدة للأمل، والثانية لأشواق الحياة وأفراحها. ثم يظهر الحزن. يطرق باب القلب ويدخل، ويشرع ببطء واصرار في بناء حجرة أخرى ثالثة، بالألم يشيد منها جدارا، وبالدموع يشيد الجدار الثاني، إلى أن يكتمل بناؤها بنافذة واحدة مفتوحة على حديقة ذكريات تهتز مشاعرها في صمت وسكون. كان أبي أول من سكن تلك الحجرة، ببدنه الضخم، وصوته الجهوري، وعينيه الضاحكتين، مع أنه كان يقول لنا قبل موته بسنوات: "إذا مت ووجدتكم تحزنون وتبكون فسوف أنهض من نعشي وألعنكم. استمتعوا بالحياة، ولا تحزنوا، الحياة مبهجة وجميلة عيشوا افراحها بكل قوة". ثم توفيت أمي، فأفسح الحزن لها مكانا بجوار والدي، وأفرد لها سريرا ووضع بجواره مقعدا ومنضدة صغيرة. ثم فارقنا أخي عبد الملك أحب أخوتي إلي، وصديق مغامرات الطفولة الساذجة، فدخل الحزن مجددا إلى القلب، وأعاد ترتيب الحجرة لتتسع للجميع، وحين ألقيت نظرة عليهم وجدتهم يتبادلون الحديث بحيوية ونشاط ويلوحون بأياديهم يؤكدون شيئا أو آخر. وبمرور الوقت دخل إلى حجرة الأحزان صديقي وأخي أبو بكر يوسف، وأعقبه آخرون، واحدا بعد الآخر، حتى أصبح الذين داخل الحزن أكبر من عدد الذين خارجه، وتقلصت مساحة الأمل، ومساحة الشوق إلى الحياة، وصرت كثير التردد على الحجرة الثالثة أقضى فيها أوقاتا طويلة، وأجدها يوما بعد يوم وقد اتسعت، وارتفعت جدرانها، وصارت رائحة الذكريات فيها أقوى. ومؤخرا توفي أخي فتحي، وكان عندي أقرب إلى منزلة الابن، إذ كنا نذهب للمدرسة الابتدائية، فاتجه في الفسحة بين الحصص إلى الفصل الذي يدرس به، اسأل عنه لأطمئن إلى ان أحدا لم يضربه، وقد بدأ اهتمامه الغريزي بالموسيقا مبكرا، حتى أنه كان وهو في سن السادسة يحبس نفسه في صوان صغير ويغلق الباب عليه ويصيح : هنا القاهرة. تسمعون الآن عبد الحليم حافظ. ويبدأ في الغناء، لنفسه، ثم تجلى ذلك الاهتمام عن موهبة فلحن العديد من الأغنيات، وكتب سيمفونية تسمى غضب النيل، وقمنا معا بوضع عدد من الأوبريتات التي لم تشهد النور منها "أحمد عرابي"، ومسرحية "الجبل"، وغيرها. وانشغل فترة بنشر الوعي الموسيقي في صالون ثقافي قام بتأسيسه، ثم فارقنا، اختفى في لحظة، ودخل ليقيم في حجرة الأحزان، مع والدي وأصدقائي وجدتي خديجة وخالي عبد الرازق، لكني أراه لا يكف هناك عن شرح أهمية مسرح سيد درويش، وضرورة تطوير الأغنية الجماعية، والدور الرائد لمحمد عبد الوهاب، اراه يواصل الحياة في تلك الحجرة، حيث يزداد عطر الذكريات كثافة، ويتقطر الزمن، ويبدو الماضي كأنه الحاضر، ويلوح المستقبل تكرارا للنغمة نفسها، بكل ما فيها من فرح وأسى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى