الأحد ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠٢٣
بقلم رامز محيي الدين علي

حكمةُ الّلهِ في الكون

لا شيءَ في الكون يتحرّكُ لذاتِه، ويكوّن عالماً خاصّاً به دونَ وشائجَ وعللٍ تربطُه بالأشياءِ الأخرى من حولِه، فلكلِّ كوكبٍ عالمُه الخاصُّ الّذي يتماهى في عوالمِ الكواكبِ الأخرى.

فالشّمسُ لا تشرقُ لذاتِها تباهياً بالشّروق، ولا تغربُ لنفسِها خجلاً من الظُّهور، ولا تدورُ لعينِها ألفةً ومحبّةً بالدّوران.. وأنا أخالفُ النّظريّةَ العلميّة الّتي تقولُ بأنَّ الشّمسَ ثابتةٌ والكواكبَ الأُخرى تدورُ حولَها من غيرِ أن تنبسَ ببنتِ شفةٍ في الحركةِ والدّوران.. فليس في الكونِ كوكبٌ إلّا وله حركةُ دورانٍ حول نفسِه وحول الكواكبِ الأخرى!

والقمرُ لا يضيءُ لنفسِه عشقاً بوجهِه، ولا يتلوّى لذاتِه بين بدرٍ وهلالٍ ومُحاقٍ حبّاً بالكمالِ أو النّقصان، ولا يتهادَى في أنوائِه إعجاباً منه بالتّهادي.. وهو لا يدورُ حول الأرضِ هياماً بالدّوران..

والأرضُ لا تدورُ حول نفسِها وحولَ الشّمسِ دون علّةٍ ودون هدفٍ، وهي لم تكتَسِ حلَلَ البحار والمحيطاتِ وأرديةَ الغاباتِ والصّحارى والجبالِ والسّهولِ والوديانِ والوِهاد دونَ أن يكونَ لذلكَ ألفُ علّةٍ وعلّة، ولم تحتضِنْ في أحشائِها ثرواتٍ وثرواتٍ دون أن يكونَ لذلكَ أهدافٌ وأهداف..

وهكذا جميعُ كواكبِ المجرّاتِ في الفضاءِ كلٌّ يسيرُ بسببٍ وغايةٍ، وكلُّ فيه من الأسرارِ ما لا يدركُهُ إلّا الخالقُ العظيم، ويعجزُ عن إدراكِه الإنسانُ مهما بلغ من العلمِ والقوّة والإدراك!

كم من الكواكبِ والنُّجوم يُولَد ثمَّ يتَوارى إلى أجلٍ غير مسمّى.. لكنّنا عاجزُون عن إدراكِ ذلكَ.. وكلُّ ما يستطيعُ أن يُقرَّ به الإنسانُ هو بضعةُ اكتشافاتٍ لا تُساوي نقطةً في بحرِ علومِ الفضاء وأسرارِه الظَّلماء!

وكذا الأمرُ في الطّبيعةِ والعالمِ من حولِنا.. لا شيءَ في الطّبيعةِ والعالم يعيشُ لذاتِه. فالنَّهرُ لا يشربُ مياهَه، والأشجارُ لا تأكلُ ثمارَها، والزَّهرة لا تمتصُّ رحيقَها، والطَّير لا تغرّدُ عشقاً بصوتِها.. والينابيعُ لا تفيضُ إلى صدر الطّبيعةِ لتروي نفسَها، والبحارُ لا تبتلعُ في أعماقِها كائناتٍ وكائناتٍ دون أن يكونَ لوجودِها غاياتٌ وغاياتٌ..

وهكذا البشريّةُ منذُ أن خلقَها اللهُ على سطحِ الأرض.. وهكذا المخلوقاتُ الأخرى في عمقِ الفضاء الّتي لم يستطعِ العقلُ البشريُّ حتّى اليوم أن يكتشفَ عالماً واحداً يماثلُه.. وربّما ثمّةَ عوالمُ أخْرى تشبهُنا أو تفوقُنا قدرةً وذكاءً وجمالاً وحكمةً وعدلاً وإنسانيّةً.. فمَن منّا يستطيعُ أن يدركَ غير ما تراهُ أعينُنا ويعجزُ عنه خيالُنا!

وهكذا العالمُ بأسرِه أجزاءٌ وجُزيئاتٌ يكمِّلُ بعضُها بعضَها الآخرَ، ولكلِّ شلوٍ في جسدِ الكون وظائفُ تتمّمُ وظائفَ الأشلاءِ الأخرى، وهذا ما سمّاهُ الفلاسفةُ وحدةَ الوجودِ أو وحدةَ الكون، وأنا أسمّيهِ وحدةَ الخَلْقِ، فلا يُمكنُ لأيِّ كوكبٍ من كواكبِ السّماء أن يتقاعسَ عن وظيفتِه هُنيهةً دون أن يكونَ لذلك أثرُه في خللِ الكون، فلو أهملَتِ الشَّمسُ وظيفَها ساعةً لحدثَ ما حدثَ من دمارٍ في جسدِ الكون كلِّه، ولو خرجَ القمرُ عن أنوائِه تيهاً وكبرياءَ، لرأيتَ الكونَ برمّتِه في أَتُونِ الضّياعِ والهلاك..
كما أنّ الجسدَ البشريَّ يتعاضدُ بأجزائِه، ويتعاونُ بأشلائِه كي يقومَ الإنسانُ بوظائفِه في العيشِ والعمل والعبادةِ والتَّفكير.. وأيُّ خللٍ في جزءٍ أو عضوٍ من أعضائِه ترى الجسدَ بأكملِه في تخبُّط وحيرةٍ وتقهقُر.. وهذا لا يَعني أنّ مَن حرمَهم الخالقُ نعمةً من نعمِ الجوارحِ عاجزُون عن القيامِ بمهمّاتِهم على أكملِ وجهٍ، وإنّما نجدُ بين هؤلاءِ عباقرةً قدّموا للبشريّةِ من العلومِ والاكتشافاتِ والدّراسات ما يعجزُ عنه ملايينُ الخلقِ من الّذين يتمتَّعُون بكلِّ نعمِ الخلقِ البشريِّ، فإنْ حُرِم مخلوقٌ بشريٌّ من نعمةٍ، عوّضهُ اللهُ بنعمٍ أُخرى تقومُ مقامَ ذلكَ العضوِ المعتلِّ بل وتزيدُ، ومن هُنا نستطيعُ القولَ: ليس المُقْعدُ الأشلُّ هو ذلكَ المخلوقُ المحرومُ من إحدى النّعمِ الأساسيّةِ في الجسدِ، وإنّما هو ذلكَ المخلوقُ الّذي لم يُحسِنْ توظيفَ ما لديهِ من نعمٍ كي تنهضَ بإنسانيّتِه إلى ذرا المجدِ والعلْياء.

وليس في الجسدِ البشريِّ عضوٌ يعملُ لنفسِه دون أن يأمرَ أو يُؤمَر بكلِّ حركةٍ أو فعلٍ حركيّ أو ذهنيّ بالتّآزرِ مع الأجزاءِ الأخرى، فليس في الجسمِ البشريِّ كُريّةٌ حمراءُ أو بيضاءُ تقوم بعملِها دون أن تُؤازِرَها الكريّاتُ الأخرى.. وليس في كيانِ الإنسانِ شريانٌ ينبضُ بالحياةِ إلّا بتدفُّقِ الدّمِ إليه من الشّرايين الأُخَر، وليس في الذّاتِ الإنسانيّة خليّةٌ من الخلايا تتمرّدُ على وظائفِها إلّا وترى الجسدَ برمّتِه في ثورةٍ على ذلكَ التّمرُّدِ الّذي قد يُهلكُ الجسدَ بكلّيَّتِه.. وليس في الضّميرِ الإنسانيِّ الحيِّ عاصفةٌ من الشّرِّ والبُغضِ والنُّزوعِ إلى الحربِ إلّا وتقابلُها نسائمُ من الخيرِ والحبِّ والسَّلام.. وليس في الضّميرِ البشريِّ النَّقيِّ أشواكٌ من النّقائصِ والعيوبِ إلّا وترى من بينِ أشواكِه تتفتَّحُ أزاهيرُ من الجمالِ وأفانينُ من الخِصال..
ليس في الجسدِ الإنسانيِّ عضوٌ يخونُ إخوتَه من الأعضاءِ.. وليس فيه شلوٌ من اللّصوصِ ينهبُ خيراتِ غيرِه من الأشلاء.. وليس فيه عضوٌ وطنيٌّ والآخرُ عميلٌ للأجسادِ الأخرى إلّا بما يحقّقُ الأمنَ والرّاحةَ وسيرورةَ الحياة وناموسَ البقاء.. وليس فيه شلوٌ منافقٌ كذّاب يحتالُ على غيرِه كي يظفرَ بمنصبٍ رفيعٍ في مملكةِ الجسد.. وليس فيه كريّةٌ عميلةٌ تبيع شرياناً واحداً من الدّم لتعتليَ دورةَ القيادة في الجسدِ دون أن يكشفَها ذكاءُ الجسدِ برمَّتِه..

لا يمكنُ للعقلِ الّذي يقود الجسدَ برمّتِه أن يكونَ خائناً ومرتزقاً، والجسدُ يعيشُ في أمن وراحةٍ وسلام..

لا يمكنُ للعقلِ البشريِّ صاحبِ السِّيادةِ العُظمى في الجسدِ أن يكونَ أنانيّاً، فيسلبَ مواطنيه من أعضاءِ الجسدِ ما قسمَه اللهُ لكلٍّ منها نصيباً من الغذاءِ والشَّرابِ والمناعةِ والدَّواء، فيعيشَ الجسدُ بخيرٍ وصحّةٍ طبيعيّة..

لا يمكنُ للعقلِ البشريّ أن يكونَ سويّاً فيَسكرَ على دماءِ الأشلاءِ الأخْرى في الجسدِ دونَ أن يُصابَ هو بالجنونِ، فينهارَ التَّوازنُ الطّبيعيُّ للجسدِ بكلِّ ما فيه..

لا يمكنُ للعقلِ البشريّ أن يَخدعَ جميعَ أعضاءِ الجسدِ الّذي يسكنُ فيه أن يجلسَ هانئاً على عرشِه، دونَ أن تثورَ عليه بقيّةُ أعضاءِ الجسد، فتشُلَّ حركةَ الوعيِ والتّفكير في بنيانِه..

لا يمكنُ لأيِّ عضوٍ من أعضاءِ الجسد أن يظلَّ جباناً خامداً من غيرِ ثورةٍ على عقلٍ أبلَهَ يدمّرُ الجسدَ بملذّاتِه وشهواتِه، فيستَدعي جيوشاً من الأمراضِ والأوبئةِ تنهشُ بكلِّ أحشائِه وأطرافِه، وهو لاهٍ مطمئِنٌّ في عرشِ القيادةِ في جمجمةِ الرّأس!

لا يمكنُ للعقل البشريِّ أن يظلَّ ملكاً على عرشِ الجسد، وهو يدمّرُ معالمَ الحياةِ في كيانِه بعربدتِه وخلاعتِه دونَ أن يُصيبَه موتٌ زؤامٌ يجعلُه عِبرةً لمن لا يَعتبرُ من بُلهاءِ العالم!

لا يمكنُ لعقلٍ بشريّ أن يعيشَ في طمأنينةٍ وسلامٍ، وقد أمرَ الكريّاتِ الحمراءَ بأن تطْغى على الكريّاتِ البيضاء، أو شرياناً يستبدُّ ببقيَّةِ الشّرايين الأخْرى، فيحرمُها حرارةَ الدَّمِ وغذاءَ الحياة!

لا يمكنُ لعقلٍ بشريٍّ سويّ أن يأمرَ القلبَ بضخِّ جميعِ ما في الجسدِ من دماءٍ ليحتكِرَها لذاتِه دون أن يموتَ الجسدُ، فيُدفنَ فيه دفنَ الفضلاتِ في التّرابِ أو في أنابيبِ الصّرفِ الصّحيّ!

لا يمكنُ لعقلٍ بشريٍّ سويّ أن يأمرَ يديهِ الباطِشتينِ بتشويهِ جسدِه أو بترِ عضوٍ من أعضائِه حتّى ولو تمرّدَ على أوامرِه هنيهةً من هنيهاتِ الحياة، فيعيشَ هو في برجٍ عاجيّ في جمجمةِ الرّأس!

لقد استطاعَ العالمُ المتحضّرُ أن يسخِّرَ العقلَ البشريّ كي يكونَ خادماً وفيّاً يسهرُ على سلامةِ الجسدِ بكلِّ كيانِه حتّى يعيشَ الإنسانُ بكلِّ ما فيهِ في خيرٍ وسلام!

لكنَّ الشَّرقَ الّذي فاضَت منه ينابيعُ الحكمةِ والهدايةِ الإلهيّةِ لم يستطِعْ حتّى اليوم أن يُقنِعَ عقلَه المتردّي العابثِ اللّاهي بأنّ بقيّةَ أعضاءِ الجسد ليسَتْ مُلكاً له، وليسَت خدماً وحاشيةً كي ترفعَه إلى مقامِ الألوهيَّةِ المريضة!

ودعائي للجميعِ أن يجنِّبَكم اللهُ عقلاً أبلهَ يستبدُّ بكلِّ أعضاءِ أجسادِكم، فيحرمَكم سعادةَ الحياةِ، ويدفنَكم أحياءً، وهو في غيبوبةِ السّكارَى وأحلامِهم لا يدري أنّهُ يُحتَضرُ منذُ زمنٍ بعيد!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى