الجمعة ٢٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم نور الدين علوش

حوار في الفلسفة والدين والسياسة

الدكتور علي المحمداوي: باحث وأكاديمي عراقي، مهتم ومشتغل في الفلسفة. من مواليد بغداد في عام 1981، مدرس الفلسفة السياسية في كلية الآداب– جامعة بغداد. متحصل على دكتوراه في الفلسفة المعاصرة. لي دراسات وكتابات في موضوعات الحداثة وما بعدها، وقضايا الفلسفة الغربية الراهنة، والإسلاميات المعاصرة. صدر له: الفكر الشيعي المعاصر، رؤية في التجديد والإبداع الفلسفي- دار صفحات. ومقاربات في الديمقراطية والمجتمع المدني (مشترك)– دار صفحات. والإصلاح الديني والسياسي، إعادة قراءة النص الديني والممارسة السياسية (مشترك)– مكتبة عدنان. والإشكالية السياسية للحداثة من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل– منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم. وخطاب الهويات الحضارية- دار ابن النديم والروافد الثقافية. أحاول اليوم أن أنتج وأعيد قراءة وإنتاج الفكر النقدي في فضاء زمكاني وثقافي مثقل بالرواسب الأسطورية والأزمات السياسية والاجتماعية ومنخور الوعاء الثقافي، انه حالنا العربي. لذلك قد يفشل المرء في حال تسارع الأحداث وسكون المجتمع من أن يكون مبدعاً أو قادراً على التغيير. أصف عملنا بالمحاولات الحريصة، لكن لا أقول ذلك لمجرد تشكيل هوية خاصة بنا بقدر ما إنني انشغل بجدية كغيري من المهتمين والمتخصصين بأسئلة المجتمع والفكر اليوم. ولذلك عملنا على شد أزر الأفراد باتجاه جمعنته التعددية في الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة والتي أشارك الدكتور إسماعيل مهنانة عبء رئاسة تحريرها وأمانتها العامة، وباستشارة مجموعة ونخبة من المفكرين والاكاديمين العرب المتخصصين في الفلسفة، لنحول تلك الهموم المعاشة والفكرية إلى خطاب تحرري ولنربط ذلك الخطاب بالواقع وإمكانات التغيير.

 الملاحظ على كتاباتكم تنوعها بين الفلسفة والسياسة والفكر الإسلامي .كيف توفقون بين هذه الاهتمامات؟
 كل ما اكتبه ولاازال اكتبه هو رهين لحظات وعي خاصة قابلة لان تسود برهة من الزمن وان ارفضها واتبرئ منها في لحظات مغايرة. وذلك لا يعني اعتباطية أو لا جدية و تخبطات. بل إن مسارات الحقيقة ليست واحدة كما أن بيئتها الزمنية تخلق شروطا مغايرة لامساك تلك المسارات. وعليه تصبح فكرة الايديولوجيا أو الحقائق المطلقة عدونا الأول. فكل ما في الكون هو احتمالية تتراوح بين قيم كبرى وأخرى ضعيفة نستطيع من خلال ذواتنا والشروط الزمانية والموضوعية أن نتيح فرصة لتحويلها إلى رواسخ و يقينيات على المستوى النفسي.

بالنسبة للتنوع في الكتابة فما شغلني هو خاضع لفترات الوعي كما ذكرت آنفاً ذلك الوعي ليس القصد منه ما اجمعه واراكم به على عقلي من قراءات وغيرها من مكتسبات ثقافية فعلاوة على ذلك هناك ما ينتج الوعي من خلال الأزمات والمخاطرات وصراع الرغبات ومحاولات الشفاء المستمرة من أمراض القناعات. كل ذلك يشكل لبنات لصب قوالب الوعي.

وبالنسبة للاهتمام بالإسلاميات فذلك ليس لمنهجنا أو قناعاتنا الاسلاموية بل لان الإسلام هو بيئتنا الموضوعية والتاريخية والثقافية (وان كانت ليست خالصة) وعليه يقتضي أن نفهم ما ساهم في إنتاج مستويات تفكر مجتمعاتنا وهويتها والحفر في إمكانيات التحرر داخلها. أما الفلسفة والسياسية بقدر ماهي حقول تخصص أكاديمية لدي فإنها تمثل أداة أو وسيلة للتغيير والخلاص في مجتمعات اليوم التي كانت ولاتزال تفتقر إلى أدنى منهجيات جادة في الحرية. فالفلسفة محاولات بحث عن هويتنا الضائعة من خلال محاولات أخرى لانوجادنا في عوالمنا وأزمنتنا الخاصة والمشتركة. إنها محاولة لفهم الذات والآخر في حلقة لايمكن لعراها أن تنفصم. والسياسة هي موضوع الشغل الشاغل للفكر الإنساني منذ القدم. إنها هم التدبير. كيف يمكن أن ندبر شؤوننا؟ ذلك سؤال اليوم. سؤال الأحداث التي نمر بها. سؤال التاريخ والخروج منه.

 سيدي الكريم في الجانب الفلسفي نلاحظ اهتمامكم الكبير بالفيلسوف الألماني هابرماس. ما أسباب هذا الاهتمام؟.
 سبق أن أشرت لك إن شغلنا الفلسفي اليوم هو محاولات للتحرر والانوجاد. وهابرماس يتيح نظريا كثير من طرق الإجابة على أسئلة مانشتغل عليه. بالرغم من تفارقنا معه في الكثير من دعواته. فنحن لا نعتقد بإمكانية استعادة الأنوار كما تتصور في وقتها كما لايمكن أن نؤسس الحداثة عليها لان الحداثة بحد ذاتها مشروع ينقض التقليد والسكون ويذهب باتجاه الصيرورة والسيلان. والأنوار تقليد ولحظة زمنية بحد ذاته. كما إن هابرماس لم يجر مع آخرين مخالفين (الآخر) أي محاجات عقلانية وبرهانية لتقبل أو اتفاق أو إجماع على أن التنوير هو الحقيقة التي يمكن استعادتها من التاريخ بعد تخليصها من الشوائب التي لحقت بها بأثر التشويهات السياسية والايديولوجية. كما اختلف معه بمعية فريق فكري آخر يرى أن الحالة الكلامية المثالية التي تمثل شرطا ايتيقيا هي حالة يتوبية ولا يمكن أن تتحول إلى واقع وذلك يستدعي استحالة تحقق إجماع بل وخلو والحجاج من الاستراتيجيات. ومع اختلافنا ذلك فنحن لا نزال نؤمن بان مسائل كالديمقراطية المعتمدة على الفضاء العام والمحاججات التي تشبه أغورا القرن الواحد والعشرين هي أمور يتطلبها العقل الإنساني اليوم بل وهي منفذه نحو سياسة شفافة وعقلانية. كما يمكن أن نشيد في حلوله لازمة العلوم الإنسانية والتطبيقية (العلمية) في تصنيفه للعوالم الثلاث: الطبيعي والاجتماعي والذاتي. فقد خلق مجالا أوسع للحل ووزع في ذلك العلم والفهم والفن؛ وفعل الإنسان اداتيا وتواصليا وتحرريا. ذلك كله يجعل هابرماس يحضر كموضوع اهتمام لدينا، وتجلى ذلك في كتابتنا عنه أطروحة الدكتوراه وطباعتها ككتاب صدر مؤخرا.

 يطرح هابرماس فكرة الديمقراطية التشاورية. ونحن لم نطبق بعد الديمقراطية التمثيلية فكيف نستفيد من أفكاره السياسية في عالمنا العربي؟
 صديقي: التشاورية هي ضرب مطور من التمثيلية المحلاة بالمباشرة. واقصد بذلك أنها من خلال الانتخاب فهي تشير إلى التمثيل. ومن خلال الفضاءات العامة التي أسميناها بـ«أغورا المعاصرة» ستصبح مباشرة . فهي مفهوم مطاط يراد له التحقق بصورة فعالة لكن ليس بمطلقيات ويوتوبيات هابرماس في النقاش والإجماع. بل من الممكن الإبقاء على الاختلاف في الجدل. والاتفاق بصورة التصويت. وذلك ماطرحته في مقال لي بعنوان: «الديمقراطية التفاعلية.. مقال في أزمة أنظمة الحكم» نشر في صحيفة الصباح العراقية. وأقول انه يمكن أن نفعل التشاور وليس الإجماع. وانه يمكن أن نفعل الممارسة الديمقراطية من خلال فضاءات الاغورا والرأي العام والمطالب الأصل والناتجة بالتغذية الاسترجاعية من المجتمع باتجاه النظام السياسي. وبذلك نتيح نوع من الديناميكية داخل العمل السياسة يكون الشريك الأكبر هو المواطن وليس السلطة. وذلك كله يمكن تطبيقه عربيا عبر سلسلة إصلاحات بنيوية تبدأ من التعليم إلى البراكسيس السياسي.

 هل الفكر الإسلامي المعاصر قادر على تقديم أجوبة للتحديات التي تعيشها الأمة العربية الإسلامية؟
 لايمكن الادعاء بأن ذلك غير ممكن. لكن السؤال الأدق هو: هل إن مايقدمه الفكر الإسلامي من إجابات لتحديات الأمة اليوم قادر على إخراجها من أزماتها؟ هل يقدر أن ينور الفكر والمجتمع بعد أن عمل الأخير بفوضويته الفيسبوكية والافتراضية ولوحده على التثوير؟
هنا تبرز أهمية الفلسفة في تصفية المقولات والنتاج الديني في تبني ودعم أو نقد ونقض المنتوج النظري للحل. وأود أن أشير إلى أن الفكر الإسلامي للان لم يبدع الجديد مع الثورة وبعدها فهو لايزال مكروراً في طروحاته القروسطية أو المعدلة نحو الإصلاح. ولعل الوقت لايزال مبكراً على ذلك المطلب. وذلك لايجعلنا قادرون على التقييم إن لم تنكشف صورة أكثر تمفصلاً ودقية. كما إننا في الوقت نفسه لانستطيع أن نبدع مقولاً من الداخل لأننا في خارج الدائرة الإسلامية على مستوى سلطة التنظير.

 اسمح لي أن انتقل بكم إلى سياق الربيع العربي. ما قراءتكم له؟
 الربيع العربي هو محاولات تحرر. وهذه المحاولات هي الأخرى نقضت مقول الهيمنة التقنية بوصفها طرفاً من أطراف الاستلاب فأصبحت فيه أداة للتحرر! أي أدوات الإعلام والتواصل التقني – المعلوماتي. واعتقد انه لم يلتفت لهذا الأمر كثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين أو العرب المعاصرين. واقصد أن تكون التقنية أداة للخلاص والثورة لا أداة للتسلط والتشييء.

الربيع العربي اليوم هو نتيجة مخاضات طويلة لايمكن أن نختزله بحادثة بوعزيزي أو إسقاط أنظمة واهتزاز قرارة الأخرى. بل هو نتيجة مخاض عسير لا يراد له الولادة بصورة طبيعية فترانا نشهد عمليات عنف وضديات سلطوية سياسية للقضاء على العمل الثوري السلمي الذي نلحظه في تونس ومصر ودول أخرى.

لكن هل من الممكن أن نتصور الأمر بأنه منطلق بدافع خالص (عربيا أو إسلاميا)؟ اعتقد أن الأمر ليس بهذه البساطة فكثير من الدمى احترقت أوراقها في الكرسي وحان وقت استبدالها (وقت قطافها) انه منطق أمريكي واضح في رسم الخارطة الجديدة للعالم الشرق أوسطي. وهنا يتحالف الشعب مع الخارج من اجل الخلاص من حكم الداخل. ليس بصورة عمالة بل باتحاد مصالح. وليس بقصدية عقدية من طرفين يتعاقدون بينهما بل بعفوية طرف واقتماص حال من طرف آخر. تبقى كلمتنا دائما في الحث على الحاجة إلى أن تقنن الثورات العربية بتدخل النخبوية العقلانية وألا فلن نتخلص من الغوغائية الشعبوية.

  كما هو معلوم في كل الثورات هناك الرابح والخاسر فمن هم الرابحون والخاسرون في هذه الثورات العربية؟
  لايمكن الجزم بأن الرابح هو الشعب إلا إننا بالتأكيد نستطيع القول أن الخاسر هو السلطة السياسية الاستبدادية الجاثمة على صدر وعقل الإنسان العربي. فالشعب للان لم يذق حلاوة التغيير والثورة.

 ما تصوركم لمستقبل الديمقراطية في العالم العربي بعد الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية؟
  بدأ التحول ووضعت القدم الثاني في الخطوة الثانية للطريق نحو الديمقراطية في العالم العربي. ولايمكن الحديث عن طبيعة واحد للديمقراطية وإمكانية تطبيقها في دول العالم العربي. فما تتاح له من شروط ومناخ في تونس قد لايمكن أن نجده في مصر وليبيا في مابعد. ذلك لان طبيعة المجتمع هو من سيحكم على مستقبل النظام السياسي وللان فان النظام الديمقراطي هو العنوان الأوسع للبديل لكن لم تحدد ملامحه ولايمكن التنبؤ بفشله ونجاحه إلا بدارسة واقع المجتمعات/ بيئة التغيير. فمجتمع الأمة والتجانس ينتج وبسرعة نظاما اقل عنفا في حال تبنيه خيار الديمقراطية. بينما المجتمعات غير المتجانسة وذات الأقليات والتغايرات الاثنية والقومية والدينية ستتأخر في مسارها الديمقراطي بل وقد تعلن فشله في يوم ما وتعود لفكرة الكاريزما في القيادة فينقلب النظام نحو الاستبداد. وهنا المخاطرة. لذلك أقول أن على المجتمعات العربية التي استطاعت أن تبدأ مسارات التحول أن تنجز تلك البداية بتأسيس مشروع مواز هو خلق هوية الأمة الوطنية وان كان هذا الكلام قد يبدو غير مواكب لتطور مفهوم الديمقراطية وعبورها الحيز الوطني، لكن الحقيقة إن المجتمعات العربية للان لم تصل واقع دولة الأمة وتقعيد مفاهيم المواطنة فكيف يمكن أو يراد لها أن تحرق مراحل تاريخية وثقافية. ولايمكن أن تلعب الفجأة والحدث غير المتوقع (على الأقل سلطويا كما في التمردات الثوروية الفيسبوكية) دورا مشابهاً في التأسيس لمبتنيات المواطنة والهوية القومية. فهنا لابد من برامج وتخطيط سالف. وهنا يبرز من جديد دور النخبة والفلسفة في إعادة إنتاج الوعي العربي بمهامه ومشكلاته وتبييء الميدان لإنجاح مشاريع الديمقراطية.

 الكثير من الدول العربية انخرطت في هذا الربيع العربي فهل سيبقى العراق في منأى عن هذه التحولات السياسية والثقافية الهامة ؟
 بين الربيع والتحول ليس من فرق كبير، على اقله في النتيجة. فالتحول بدأ في العراق قبل انفجارات الربيع. انه التحول الذي بدأ بالتصدير الأمريكي للديمقراطية واستهلاك ورقة اسبق من غيرها هي نظام صدام. لذلك فالعراق بدأ مسار الديمقراطية ومطلب التحول (الذي تشير إليه في سؤالك) لايمكن أن يقبل أو يتحقق على أساس النظام السياسي اليوم، بل هو انجاز المهمة التي ألمحت لها إجابتي على تساؤلك السابق في تنشئة وتقعيد بيئة مواطنية وحقوقية للإنسان العراقي لتخريجه من أزمات التغيير والماضي.

وهي ليست في منأى عن التحول لكن التغيير صعب جدا وهو ليس مطمح جماهيري أو نخبوي إلا على أساس الشخوص أما أن يتغير نظام سياسي بأكمله فذلك لم يظهر لليوم في دعوات واحتجاجات المعارضين والناقدين من النخبة والجمهور. بل وهو مطلب يحمل من الوضاعة ما يجعل المواطن يحن لاختناقات الاستبداد واستقالة العقل العراقي. لذلك يبقى الموقف من النظام السياسي في العراق مشروع إصلاحي أكثر من كونه مشروع ثوروي راديكالي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى