الخميس ١٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم بوشعيب الساوري

حوار مع عز الدين جلاوجي

عزالدين جلاوجي: من مواليد فجر الاستقلال بعين ولمان جنوب سطيف درس القانون والأدب واشتغل أستاذا للأدب العربي، بدأ نشاطه الأدبي في سن مبكرة ونشر أعماله الأولى في بداية الثمانينيات، ساهم في الحركة الثقافية والإبداعية وطنيا وعربيا، صدرت له في النقد: النص المسرحي في الأدب الجزائري، شطحات في عرس عازف الناي، الأمثال الشعبية الجزائرية، وفي الرواية: سرادق الحلم والفجيعة، الفراشات والغيلان، راس المحنه1+1=0، الرماد الذي غسل الماء، وفي القصة: لمن تهتف الحناجر؟

  كيف كانت انتماءاتك الأولى في الكتابة ؟
 سكنتني الكتابة مذ كنت طفلا صغيرا..
لقد بدأت حفظ القرآن على يد والدي وعمري أربع سنوات.. وكان هذا النص يسكنني ويثير في نفسي هواجس غريبة لدرجة أن آيات كنت أتصورها جبلا وأخرى سهلا ممتدا وأخرى إنسانا مريضا أو سويا، لماذا لست أدري رغم أن المعنى الحقيقي للآيات بعيد كل البعد عما كنت أتصور بعقلي الصغير.
نشأت في أحضان جدي لأمي يرحمه الله وكان شلالا للحكايا في النهار أو في الليل، في البيت أو في الحقل، كان يغرف لي من القصص الشعبي.. حديدوان، بقرة اليتامى، عجوب، ذياب لهلالي والجازية..
وظلت أمي أيضا تحكي وتقص وكانت مرتبطة أكثر بثورة التحرير وما فيها من بطولات، فهي قد فقدت عمين وأخا شهداء في معركة التحرير.
وكنت وأنا صغير أرتاد الأسواق مساء الأربعاء وصباح الخميس، نجلس منبهرين أمام الكبار نستمع لقصص القوال، هكذا كنا نسميه وربما سمي المداح، يوقع على إيقاع بنديره (دفه) قصصا فيها كثير من السحري والعجائبي، وكثير من الخرافات والأساطير، كقصص مكر النساء والسيد علي ورأس الغول وعظمة الأنبياء وهكذا...

وربما كان المداح مغربيا ينطق بعربية مغربية وهو في العادة ليس قوالا بقدر ماهو ساحر، يأتي بالقردة والثعابين، يعالج السحر والعين ومكر النساء ويأتي بالخوارق.
مارست كل الفنون صغيرا على مقاعد المدرسة منذ الابتدائي، حيث شكلنا مجموعة صوتية، وكنت ممثلا في فرقة الإعدادية والثانوية، ومارست الرسم والنحت وتربية الحيوانات والزواحف والحشرات، وكل النشاطات الأخرى، حتى كاد فناء البيت يتحول إلى معرض كبير، وكانت العائلة تفاجأ في ليالي الصيف حين تستيقظ صباحا فترى كل شيء متغيرا.

وانفتحت على قراءة عيون الأدب فقرأت بنهم كبير كل ما وقع بين يدي، من سيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة إلى كريستي وإحسان عبد القدوس فغنطسني سحر اللغة وسحر الحكايا وسحر الأدب شعره ونثره، عربيه وغربيه.

  بدأتم مشواركم الإبداعي بكتابة القصة القصيرة ثم المسرح ثم تحولتم إلى الرواية هل يمكن ذلك تعددا في مجالات الإبداع أم أن الأمر يتعلق بمراحل في مساركم الإبداعي مرحلة تقود إلى أخرى؟
 الحقيقة أني بدأت بكتابة الشعر وأنا في بداية الإعدادي، وأذكر أني كتبت أولى قصائدي وسلمتها لأحد معلمي الذين درسوني في الابتدائي، وشرحت له أني أقمت الوزن على حساب عدد الحروف في كل شطر، ومازالت ابتسامته مرسومة أمامي عيني إلى اليوم، وراح يشرح لي أمورا لم أفهمها حينها، وواصلت كتابة الشعر وإلى جانبه رحت أكتب القصة وأنا في التعليم الثانوي، وقد كتبت واحدة في ثلاثين صفحة وأنا الثانية ثانوي مازلت أحتفظ بها إلى اليوم، وأذكر أن الأستاذ قد اختارني لقراءة نصي فلما شعر بطوله أوقفني معلقا "هذه رواية يا عزالدين وليست قصة"، وفي المرحلة الثانوية قرأت عددا كبيرا من الروايات أجاثا كريستي ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم وطه حسين وفيكتور هيكو وغيرهم، وفي العشرين من عمري نشرت أول قصصي في جريدة يومية وطنية هي المساء بعنوان "الحزن يقتل أيضا".
ومع محاولتي القصصية الناجحة اتجهت فجأة للمسرح، وكنت أمارس المسرح المدرسي في الإعدادي والثانوي، فقرأت شكسبير وتوفيق الحكيم وعزالدين المدني والمسعدي وشوقي وبرخت وغيرهم، وكان اتجاهي إلى المسرح الاجتماعي والتاريخي، وطبعا لم تكن أعمالي ناضجة في البداية حتى أن بعضها مازال مخطوطا، ولم أرض بطبعه، وكان أول عمل صدر لي هو لمن تهتف الحناجر؟ وهو مجموعة قصصية قدم لها الدكتور الناقد عبد الله ركيبي وهو أحد رواد الأدب بالجزائر بكثير من الحفاوة، اتجهت بعدها للمسرح فأصدرت مسرحيات متتابعة، ونشرت بعضها في الصحف الوطنية، ومثلت بعضها الآخر مع طلبتي، وبقدر ما كنت أحس أن كتابة المسرحية كانت مطلبا داخليا في نفسي كما القصة، كان كلاهما طريقا ضروريا لكتابة الرواية، كأن الرواية هي الهدف في نهاية المطاف، رغم أني مازلت أكتب القصة والمسرحية، وقد أشار كثير من النقاد أني استفدت من تجاربي القصصية والمسرحية كثيرا، كما أشار بعضهم أن قصصي تحمل نفسا روائيا.
من كل ما ذكرت آنفا أعتبر تنوع إبداعاتي تعددا في مجالات الإبداع من جهة، كما أنه مراحل في مساري الإبداعي، أسلمت كل مرحلة لأخرى، حتى استقر بي الأمر على ما أنا فيه.

  ما هو الجنس الأدبي الذي أبرز عزالدين جلاوجي وعرّف به؟ هل القصة أم الرواية أم المسرح؟
 رغم أن قصصي قد تناولتها بعض الأقلام النقدية، غير أن ما لفت انتباه القراء والنقاد إلى أعمالي هو رواياتي، لقد كتبوا كثيرا عن الفراشات والغيلان، وأكثر عن سرادق الحلم والفجيعة، وراس المحنه 1+1=0، والرماد الذي غسل الماء، بمعنى أن تأثير كل رواية تالية كان أكبر من السابقة، وكنت حريصا دائما على هذه الجودة في كل نص، حتى لا أقع في الانتكاسة، وأذكر أن الفترة كانت قصيرة بين راس المحنة والرماد، وبمجرد أن أعلنت لزملائي النقاد أني سأكتب رواية تالية تخوفوا، وراحوا يحذرونني من الوقوع في تكرار نفسي، منهم على الخصوص الروائي محمد مفلاح، والأديب الناقد فيلالي حسين والناقد الدكتور عبد الحميد هيمة وغيرهم، ولكني ركبت رأسي وراهنت على كتابة نص أجود وفعلا كانت الرماد الذي غسل الماء كما توقعتها، فلم أخيب ظن زملائي النقاد، وأصدقائي القراء.
لقد جمعت حتى الآن عشرات المقالات لنقاد، وعشرات الدراسات الجامعية في شتى المستويات، عن أعمالي الروائية، ولعلك تلاحظ أن لا اهتمام نقدي بمسرحياتي لغياب النقد المسرحي في أدبنا الجزائري، ولم تقدم عنها رغم كثرتها إلا دراسة واحدة ورسالة جامعية واحدة أيضا.

  نلاحظ عنايتك الكبيرة بالعنوان هل تفكّر بالعنوان قبل كتابة الرواية أو أثناء كتابتها أو بعد الانتهاء منها ؟ ما أهمية هذه العتبة النصية عندك؟
 للعنوان أهمية قصوى إذ تقوم استراتيجية بناء العنوان في أي عمل أدبي على مقاصد دلالية يسعى الكاتب لتحقيقها، ولذلك يشكل العنوان فاتحة دلالية مهمة، وقد انتبه النقد الحديث لقيمته وتناوله بالدراسة، مما دفع بالدراسات السيميائية للتركيز على أهمية العنوان ووظيفته، فهو مفتاح ونافذة من دون المرور بعتباته لا يمكن ولوج النص.
ولذلك فأنا أولي أهمية قصوى لعناوين رواياتي التي يجب أن تكون مثيرة مستفزة خارقة لأفق المتلقي مغرية بالكشف، وانظر مثلا: الرماد الذي غسل الماء، سرادق الحلم والفجيعة، راس المحنه 1+1=0.

ولا يمكن أن أحدد العنوان قبل إكمال النص فالعنوان آخر ما أفكر فيه رغم أن عناوين كثيرة تتنافس للفوز بعتبة النص في بداية الطريق أو في منتصفه، لكني أستقر على العنوان أخيرا ولا أذكر أني وضعت عنوانا لروايتي قبل كتابتها.
وبالمناسبة لا بأس أن أؤكد أن اهتمامي لا ينصب على العنوان بحسب بل على كل العتبات والنصوص المجاورة الأخرى.

  كيف تضع عملك؟ هل تضع مخططا لروايتك قبل الشروع في تبييضها ؟ هل تنجح في الالتزام دائما بالمخطط؟ وبصيغة أخرى ما هي طقوس الكتابة لديك؟
 لابد من وضع مخطط، الرواية بناء، وإذا أردت أن تقيم بناء مشمخرا فلابد من تخطيط أولي بالأساس، تخطيط للأحداث والشخصيات والمكان والزمان، كاتب الرواية كالقائد الحربي لابد أن يخطط للمعركة بدقة، ولكن ميدان المعركة وسيرها قد يفرض عليك تغييرا أثناءها، لذا أنا لا ألتزم بكل المخطط، لا بد من التغيير فيه إنقاصا وزيادة.

لأكتب رواية لا بد أن أمرَّ بأشهر من التحضير والمخاض، وتتبع الشخصيات ورسمها ورسم المكان والزمان، وتسجيل الشوارد التي تغيب عن الملاحظ العادي، ولابد من قراءة الفكر والاجتماع وعلم النفس والتاريخ والشعر والنقد، فكتابة رواية يعني كتابة الإنسان، فأنت تخلق فنيا، والخلق عملية معقدة جدا، ولذلك يلاحظ النقاد أن رواياتي زاخرة، ويمكن للنقاد أن يدرسوا فيها كل شيء، وحين يقترب موعد الكتابة تتغير تصرفاتي وسلوكاتي فأصير أشد غضبا وقلقا وحساسية، وكثيرا ما أثور في وجه أفراد العائلة حين يقطعون علي سبحاتي، وهم يقدرون ذلك ويتفهمونه.

  تتميز نصوصك بنزعة غرائبية في معالجة قضايا اجتماعية. من أين يستمد هذا الملمح مرجعيته؟
 فعلا أحاول استثمار كل الوسائل الفنية للتعبير عن الفكرة، أحاول دائما أن تكون نصوصي مشعة بما يرتقي بأدبيتها، لا أحب أن يقدح القارئ في ذلك، قد أختلف معه في الخطاب والرؤية، لكني أرفض أن يقدح في المستوى الإبداعي، أنا أحترم قارئي كثيرا وأؤمن بكفاءته وقدرته على فك النص، والكتابة عندي ليست رحلة استجمام، هي جهد كبير يبذله الكاتب ويضع فيه كل طاقته ليرتفع فنيا بقارئه وأدبه وليقدم إضافة للإبداع العربي والإنساني، فهو رسالة إنسانية نبيلة.

الأساس في المرجعية الغرائبية هي الثقافة الشعبية الشفوية، لكني كثيرا ما أخلق هذه العوالم، وقليلا ما أستفيد من المرجعية الغربية لأن الفنون ذاتية وترتبط عادة بالعقائد والتاريخ، وإحضار الغائب في النص الحاضر يحتاج إلى خلفية معرفية يتكئ عليها القارئ، ومن الصعب أن نجد مرجعية غير عربية لدى العربي، للأسباب التي أسلفت ذكرها، وقد فشل الشعراء الذي ارتموا في أحضان الأسطورة الغربية، وبالغوا في إحضارها كما فعل السياب والبياتي مثلا.

  نلاحظ هيمنة هاجس أساسي في رواياتك وفي كثير من النصوص الروائية الجزائرية وهو المفارقة بين الماضي والحاضر، بين جزائر الثورة ومابعدها. هل يمكن أن نعتبر ذلك قدر الرواية الجزائرية يصعب عليها التخلص منه؟
 لا يمكن للإنسان أينما كان أن يتخلص من ماضيه، فهو حاضر عنده بشكل أو بآخر، وفي الكتابات العربية المعاصرة نجد حضور الماضي البعيد والماضي القريب، الشعر العربي حافل بحضور أبي ذر وخالد والأندلس وزرقاء اليمامة وطارق والمتنبي وصلاح الدين وقرطبة وهارون الرشيد، كما يحضر جمال عبد الناصر وجميلة بوحيرد والقسام وغيرهم، واقرأ نزار والبياتي وعبد الصبور والفيتوري والبردوني والسياب ونازك.
نحن أمة مجروحة في حاضرها بما فعل فيها الغرب ومافعل بها بعض أبنائها رغم تاريخها الحافل بالأمجاد، ماذا تنتظر من أديب يرى الإنسان العربي والمسلم يذبح في فلسطين والعراق والبوسنة وكوسوفو ولا ذنب له، وهو يرى حكاما يعيثون بثرواته الضخمة وهو يموت جوعا سوى أن يكتب عن حاضره مرتبطا بماضيه.

تعلمنا في المدرسة وسمعنا من آبائنا وأمهاتنا عن عظمة الثورة التحريرية وعن شراسة فرنسا وعن الثمن الغالي الذي دفعه أبناء الجزائر إلى درجة الأسطورة، ثم ترى انتكاسة كبرى بعد التحرر فماذا سيفعل الكاتب؟
لابد للأديب أن يكتب عن المجد الذاهب حتى وهو يكتب عن الحاضر، فالمجتمع في صيرورته غير منفصل عن الماضي القريب والبعيد، ولا عجب فالأوربيون ما زالوا يسمون اكتشافاتهم ومخترعاتهم بأسماء آلهتهم، ومازالوا يعلقون الصليب على رقابهم في مناسباتهم العظيمة، ومازال بوش وهو رئيس أعظم دولة عصرية في كل مناسبة يذكر بالتاريخ وبالكتاب المقدس وبالمسيح المخلص.

  ليس العيب في استحضار الماضي بل العيب هو اجتراره في الكثير من النصوص التي تصبح صدى لغيرها. ألا يصبح ذلك عائقا أمام التنويع في العوالم المتخيلة؟
  المبدع حر في طريقة الكتابة مادام مقتنعا بها والقارئ له الحق في أن يقبل أو يرفض، والنص الغائب قد يأتي اجترارا أحيانا لغرض يريده الأديب كما قد يلصق قصاصات من الجرائد أو ينقل آراء غيره من الكتاب والمؤرخين والفقهاء والفلاسفة على أن لا يتحول النص كله نقلا أمينا فيتحول إلى مجرد تاريخ.

تاريخنا وموروثنا الثقافي وفي تصوري حتى القرآن الكريم مخزون إبداعي كبير يمكن أن نغرف منه أشكالا وسبلا وطرقا للكتابة والإبداع.
ولا أعرف حتى الآن مبدعا قام باجترار التاريخ وكتبه كما هو لا كما يتخيله الأديب الروائي ويريده ولا أعرفه أديبا يجتر تاريخا ما في كتاباته كلها، بالنسبة لنصوصي التاريخ تاريخ الثورة حاضر في رواية راس المحنة 1+1=0 حيث أن إحدى شخصياتها الرئيسية وهي صالح عاش زمن الثورة حيث كان مجاهدا في صفوفها وزمن الاستقلال حيث لاحظ انتكاسة الآمال وخيبتها مما جعله يرفض الانسجام مع الوضع الجديد ويعتبر السير في هذا التيار الجديد خيانة للثورة.
  أقصد اجترار ما قاله الكتاب. وليس إعادة كتابة التاريخ لأن ما كتبه جورجي زيدان على الرغم من روحه التاريخية فهو ليس تاريخا.
 الكاتب في نهاية المطاف لا يكتب إلا نصا واحدا، ولذا فعلا فهو يجتر في كثير من الأحيان خطابه، والعيب في أن يجتر قوالبه وطرق تعبيره الإبداعية، إذ كثيرا ما يقف الأديب عند لوحة واحدة لا يرغب في تجاوزها أو لا يستطيع ذلك، لكن الأدباء الكبار هم الذين يشكلون الباقة كل مرة بشكل معين.

  ما هي الرواية الأقرب إليك؟ ولماذا؟
 سئلت أعرابية قديما من أحب أبنائك إليك، فقالت: الغريب حتى يعود، والصغير حتى يكبر، والمريض حتى يشفى، ونصوصي كلها بنات أفكاري، يستحيل أن أفضل عملا تفضيلا كليا على غيره، ولكني أفضل في كل عمل ميزة، ما ولاشك أن راس المحبة 1+1=0 تختلف عن الرماد الذي غسل الماء وكلاهما يختلف عن سرادق الحلم والفجيعة وأيضا عن الفراشات والغيلان وهكذا.

  نعلم أن رواياتك قد حفلت بتلق واسع داخل الجزائر. هل استطاع النقاد أن يقفوا على خباياها؟
 هذا السؤال يفترض أن يوجه إلى النقاد ليجيبوا عنه فهم أدرى به، لكني أقول: لا، كل الدراسات والبحوث التي قدمت مشكورة حفرت في جوانب من نصوصي لا كل الجوانب، فما كتبته مازال بكرا، مازالت حمولته لم تكتشف بعد، مازالت فيه مساحات مظلمة تحتاج إلى تسليط الضوء عليها. فأنا حريص جدا أن أهتم بكل جوانب النص، وأتعمق ذلك، الكتابة الروائية ليست نزهة على شاطئ البحر، وكذلك يجب أن تكون القراءة الناقدة.

  ما موقفك ممن يطلق على تجربتك الروائية بالتجريب؟ هل تعتقد أن هذا المفهوم قادر على استيعاب تجربتك؟
 التجريب هو غزو المجهول، هو محاولة اكتشاف ظواهر جديدة عن وعي، وبالتالي فهو تعبير عن رفض الاجترار والإصرار على الإتيان بالجديد، لأن الأدب حرية وتمرد وثورة.

في كتاباتي الروائية أحرص كل الحرص أن لا أكرر نفسي، إذ أن كل نص هو بالضرورة مختلف عن غيره من النصوص التي أنتجتها، كما أحرص في كتاباتي أن لا تكون نصوصي استنساخا لنصوص أخرى، إلا إذا كان ذلك صدفة، أحاول دائما أن تكون أعمالي من بنات إبداعي لا من بنات أفكار غيري.
وأنا حريص أن تكون نصوصي القادمة مخالفة لما أنتجت ومخالفة لما أنتج غيري، ولعل ذلك عائد لنفسي القلقة المتوترة الرافضة للثبات، الباحثة عن التحول، المتطلعة إلى ارتياد آفاق جديدة.
وفعلا انتبه النقاد لذلك واعتبروه ظاهرة مميزة لكتاباتي الروائية والقصصية وحتى المسرحية، وراحوا يتابعون ذلك من خلال دراساتهم، بل إن بعضهم حذرني من مزالقها مثل الدكتور الروائي محمد ساري الذي كتب مقالة بعنوان "عزالدين جلاوجي ومغامرة التجريب" وبعد استعراضه تجربتي حذرني من الوقوع فيما لا تحمد عقباه.

  كيف تقيم المشهد الروائي الجزائري اليوم؟ ما هي الأصوات المسموعة فيه والأسماء الفاعلة؟ هل يمكن الحديث عن خصوصية روائية في الجزائر؟ كيف تقيمون الكتابة الروائية الجزائرية؟ وأين تضعون أنفسكم؟
 الحقيقة هي أن جنس الرواية مازال غريبا على المجتمع العربي خاصة في السنوات الأخيرة حيث فسج المجال فيه للتهافت على الكتاب الديني الاجتراري التقليدي دلالة على انهيار قيم المعرفة في مجتمعاتنا، بل كثيرا ما سمعنا أصواتا تنفر من هذه الفنون على اعتبار أنها وافدة واقرأ أنور الجندي مثلا.

إذا كان الغربيون يحجزون نسخهم وهي في المطبعة، فنحن لا يقرأنا حتى من نهديه إبداعاتنا للأسف الشديد،
ورغم ذلك استطيع أن أقول أن المشهد الروائي الجزائري قد أفرز أصواتا متميزة لها حضور قوي ليس على مستوى الجزائر فحسب بل الوطن العربي والعالم، ومثال ذلك ما كتبه عبدالحميد بن هدوقة والطاهر وطار وبوجدرة وواسيني ومحمد ذيب وأحلام مستغانمي. ومحمد مفلاح وغيرهم.
ومازال جيلنا على الدرب يحاول أن يكون استمرارا لجهد السابقين، مفتي بشير والخير شوار وإبراهيم سعدي ومحمد ساري وإن كان الإخيران ينتميان زمنيا إلى جيل سبقنا.
ولا يمكن أن أقيم التجربة الجزائرية، ولا أن أحدد لها خصوصية فهذه وظيفة النقاد أولا، ولست ممن قرأ ما كتبته الأقلام العربية من المحيط إلى الخليج. غير أني لا أتصور هذه الخصوصية وهذا التفرد لأن ذلك يتطلب خصوصية ثقافية وتاريخية ومعرفية، كل ذلك عندنا قاسم مشترك مع الإخوة المغاربة والمشارقة.
  ماهي القضايا التي تشغل جلاوجي ولم يهتم بها بعد في رواياته؟
 أكبر ما يشغلني هو المستوى الرديء التي وصلت إليه البشرية، كأن الزمان فكريا وحضاريا يرجع إلى الخلف في الوقت الذي يزحف فيه ماديا إلى الأمام، لم نقتل بعضنا بعضا من أجل قطرة بترول أو حبة قمح أو معتقد لسنا ندري صدقه من زيفه؟
يشغلني التدني الرهيب للإنسان العربي حتى غدا كقطيع من السائمة في يد الجزارين، لم يستطع أن يفيد من موروثه ولا من ثقافة الغرب ما ينهض به، مازال منذ مابعد الموحدين يجتر عبادات صارت طقوسا، ويختلف في تفاهات يسندها بأدلة يرويها فلان وعلان، يتزاحمون في بناء المساجد والطواف حول الكعبة ودماؤهم تزهق وأرضهم تستباح وخيراتهم قسمة للصوص، ولو نزع منهم الغرب حضارته وأنا أدعوه إلى ذلك، لعادوا لعصر الأحمرة، أحيانا أقول هذه أمة تستحق اللعنة عن بكرة أبيها.

يقلقني تهافت الأنسان عندنا على مايملأ جيبه وبطنه، قاتلا بذلك كل حس بالفن و بالجمال، نحن لا نحسن سماع موسيقى ولا العناية بحديقة ولا قراءة نص جميل، حولنا حدائقنا إلى كهوف مظلمة نتنة ننحجر فيها كالديدان التي لا ترى، لم يستطع العربي اليوم أن يشيد مدينة لها معايير المدن، في الوقت الذي يشيد فيه رئيس فرنسا أكبر مكتبة في العالم مازال حكامنا وشعوبنا يناقشون ندرة البطاطا وغلاء سعر الدقيق كأننا لسنا أحفاد بناة الأندلس.
كل هذه القضايا -أقصد قضية الإنسان عموما والعربي على الخصوص- ظهرت في كتاباتي غير أنها مازالت هاجسي المركزي.

  ما هو جديد عزالدين جلاوجي؟ وبماذا يشتغل الآن؟
 لقد خططت لكتابة ملحمة روائية بدأت الجزء الأول منها غير أن كتابتها ليس بالأمر اليسير لسببين
الأول هو انشغالي بهموم الحياة مما يأخذ شطرا مهما من عمري في أمور تضر الكاتب أكثر مما تنفعه.
والثاني أني لا أحب أن أكتب أي شيء، لا أحب أن أسرد حكاية ليس فيها الإنسان بهمومه وهواجسه وماضيه وحاضره ومستقبله، الإنسان بابتسامته ودمعته بخيره وشره، الإنسان بمركزه وهامشه.
أرجو أن أفرغ من هذا العمل قريبا وأن يكون متميزا فيه إضافة جميلة للأدب الجزائري والعربي، وقبل ذلك فيه إضافة لأعمالي السالفة.

 كيف تقيم العلاقات الثقافية بين المغرب والجزائر؟
 ضعيفة للأسف الشديد كما بيننا وبين الدول العربية الأخرى، رغم تنقل المثقفين من البلدين لحضور نشاطات علمية وأدبية, ورغم تبادل البعثات الجامعية، في المغرب حركة ثقافية نقدية ومسرحية، وفي الجزائر حركة ثقافية وإبداعية مهمة، والواجب يقتضي الاستفادة من تجارب الطرفين.

 ما هي الأسماء الروائية المغربية الأكثر مقروئية في الجزائر؟
 أنا قرأت لعبد الله العروي كما قرأت دراسات نقدية عن أعماله، وقرأنا فكريا للجابري، ولعل كتبهم تأتينا من المشرق لا المغرب، دون ذلك نحن لا نعرف أدباء آخرين سوى بالأسماء, لكننا لم نقرأ لأحد منهم هذا على الأقل بالنسبة إلي، كما أن العلاقات الثقافية بين كل دول المغرب العربي تكاد تكون متشابهة، لا نعرف في ليبيا غير إبراهيم الكوني، وقرأت من موريتانيا رواية مدينة الريح، أما من تونس فنعرف مجموعة محترمة ولكن من الأسماء القديمة كالشابي والمسعدي وعزالدين المدني وابن عاشور وغيرهم.

  ماذا تقرأ الآن؟
 لا.. لا شيء سوى أنني أحضر لبحث في المسرح الجزائري، وقد قرأت مجموعة كبيرة من المراجع، منها كتابي النص المسرحي في الأدب الجزائري، إضافة إلى مواصلة جمعي ما يساعدني في كتابة ملحمتي الروائية.

  كلمة أخيرة
 ما يمور في نفسي لا يختصر في كلمة أخيرة، غير أني أحلم أن أكتب نصا متميزا، نصا يتيما يقف ندا للنصوص الكبيرة التي وصلت قلوب ملايين القراء مبشرة بالجمال، أحلم بعودة الشعوب العربية يوما إلى حضن الشعب الواحد فلا حواجز ولا مخافر ولا كلاب على حد قول نزار، أحلم بعالم تسوده المحبة الإنسانية يرتقي فيه البشر بنفوسهم وإنسانيتهم قبل أجسادهم ومادياتهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى