الخميس ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
هدنة غير معلنة
بقلم بوشعيب الساوري

دهشة التلقي من غرابة الواقع

1- اللامفكر فيه القصصي

هدنة غير معلنة، هي المجموعة القصصية الخامسة في التراكم الإبداعي القصصي لمحمد غرناط، بعد مجاميعه: سفر في أودية ملغومة(1978)، الصابة والجراد(1988)، داء الذئب(1996)، الحزام الكبير(2003)، ليواصل مراكمة تجربته القصصية، وذلك وفق منحى يروم البحث المتواصل عن إمكانات جديدة للكتابة القصصية في إطار تجديده المتأني للقص. وذلك وفق براديغم رسّخه وهو الاشتغال على الواقع والمرجع وجعلهما عنصرين أساسيين في بناء عالمه القصصي، وعدم التخلي عنهما، من خلال التقاط المثير من أحداث وانفعالات شخوصه، تبرز أعطاب ومعوقات هذا الواقع بحس نقدي بعيد كل البعد عن السقوط في النقد المباشر، وبعيد عن التأنق اللغوي الزائد، مع حرصه الدائم على لغة قصصية ناتجة عن تهذيب لغة اليومي وتحويلها إلى لغة أدبية لا تقطع الصلة مع الواقع الذي تعبر عنه ولا مع حمولاتها الدلالية الأصلية. ومن ثمة يصير الواقع موضوعا للكتابة القصصية ووسيلة اشتغال محمد غرناط القصصي وبناء نصوصه القصصية.

وتبعا لذلك، نلاحظ أن مجموعة هدنة غير معلنة لا تخرج عن خصوصيات الكتابة القصصية التي رسختها تجربته القصصية، المخلصة للواقع والمنصتة لنبضه والملتقطة لإشكالاته بلغة قصصية لا تقطع الصلة مع رحم الواقع الذي تنبع منه، بالتركيز على ما يعتري هذا الواقع من تحولات عميقة لا تظهر في السطح، يلتقطها محمد غرناط بحاسته الإبداعية.

وما يميز مجموعة هدنة غير معلنة هو قدرتها على التقاط المبهم والملتبس في الواقع، أو القبض على ما يسير إليه الواقع من السقوط في اللافهم واللامعنى، على مستوى البنية الناظمة، بالتفات القاص إلى بعض الأحداث والانفعالات التي تبدو عادية من فرط التصاقنا بها، لكننا لا نعيرها اهتماما، فيجعلها محمد غرناط موضوعات ومحفزات وأنوية لقصص مجموعته الاثنتا عشر. الأمر الذي يقود إلى خلق دهشة لدى القارئ ويدفعه إلى الالتفات والتفكير في ما هو قريب منه ومحيط به ولا مفكر فيه. تلك هي الغرابة التي تحققها نصوص مجموعة هدنة غير معلنة.

2- في البناء القصصي

سنحاول في هذه القراءة رصد البنيات الناظمة لقصص المجموعة من خلال التركيز على بنية الاتهام وبنية التعلق بالأشياء، البنيتين الناظمتين لقصص المجموعة. كما سنرصد فعل الإغراب الذي يميز العالم للقصصي وأثره على المتلقي انطلاقا من فعل الدهشة الذي يطال قارئ قصص المجموعة.

2-1- بنية الاتهام

يقوم جزء كبير من قصص المجموعة على بنية الحدث الذي يشكل نواة القصص، وهذه التقنية واحدة من أسس القصة القصيرة باعتبارها جنسا أدبيا، بالتركيز على حدث مثير يشكل نواة السرد. ويظهر ذلك في القصص الخمسة الأولى(من لحظة وصول القطار إلى الجارية عادت إلى البحر)؛ الحدث الذي يغير مسار الشخصية ويلفت الانتباه إليها. وقد يرتبط الحدث بالاتهام عندما تجد الشخصيات نفسها موضع اتهام، أو في ورطة. يقول:"سنوات طويلة وأنا أشتغل عند هؤلاء الناس. خدمتهم كما لو أنهم أهلي. وأخيرا أغادر بيتهم لصا."(ص.35.) وما يميز تلك الأحداث هو طابعها الإغرابي:"أنا لا أصدق ما حدث يا سارة. أحس دائما انني في حلم."(ص.7.) فيبدو الواقعي اليومي موسوما بطابع إغرابي، وتظهر أفعال الشخصيات وتصرفاتها مفعمة بالإغراب بالنسبة لبعضها البعض يقول في قصة "الخادم والتفاحة":"حدث اليوم ما لم أكن أتخيل حدوثه اليوم."(ص.32.)

2-2- بنية التعلق بالأشياء

من خصوصيات الجنس القصصي قدرته على استبطان ما يصطرع في الأعماق من مشاعر(2) بالتركيز على قوة الانفعال. وفي هدنة غير معلنة الانفعال هو نواة السرد؛ وذلك ابتداء من القصة السابعة إلى آخر قصة(من الفرس الذهبي إلى عسل) يتم التركيز في هذه القصص على انفعالات الشخصيات، بل تصير الانفعالات هي موضوع القصة، إذ يبئر القاص الانفعال ويجعله هو بطل القصة، وموضوع الانفعال غالبا هو الأشياء ويتجلى أساسا في علاقة الشخصيات بالأشياء التي تصل إلى مستوى التعلق بها، الذي يولد علاقة عاطفية من نوع خاص (بالإبريق بالفرس بالقطة،...) والاهتمام بمثل هذه الانفعالات، التي تبدو عادية يالنسبة للقارئ، يضفي عليها غرابة لما تدخل إلى النص القصصي. فتُحدث للقارئ غرابة في كونه قد يعيش تلك الانفعالات ولكنه لا يعيرها اهتماما، إذن سر الإغراب ليس في الابتعاد عن الواقع بل بالالتصاق به وجعل بعض المواضيع اليومية اللامفكر فيها محط اهتمام القصة، وتلك هي الدهشة التي يجدها القارئ لهذا الصنف الثاني من القصص. وهو أمر مستقى من الواقع اليومي.

فهناك طبقتان للقص: القصة المعلنة والقصة الخفية يتم استدعاؤها نتيجة الحدث المثير أو الانفعال المثير كذلك، حكاية تسترجع او تستدعى أثناء القصة، فمثلا في قصة الإبريق التركي انفعال الرجل مع الإبريق وتاثره لتكسره، دفع بالإبن إلى الاستفسار الذي قاده إلى كون الإبريق له علاقة مع امراة. فالتركيز على بعض الانفعالات والسلوكات المثيرة للإغراب والدهشة تكون هي الدافع إلى السرد وتقود إلى الاسترجاع.

3- في دهشة التلقي

ما يميز الفلسفة هو اهتمامها بالأمور العادية التي لا يلتفت إليه الناس عادة، لذلك كانت الدهشة هي الدافع الأول إلى التفلسف كما أكد ذلك أرسطو. وقصص مجموعة هدنة غير معلنة بدورها تراهن، من خلال بنائها الإغرابي القائم على بنيتي الاتهام والتعلق بالأشياء، على شد انتباه القارئ، عبر بناء محبوك يجعل الواقعي، على بساطته الظاهرة، موسوما بغرائبية، وجعله أكثر يقظة، لتنطلي عليه حيلة القصة ومتعتها لتحقق فعل الإغراب الذي ليس سوى دفع القارئ إلى الانتباه لما هو مألوف وغير منتبه إليه في واقعه اليومي.

تلتقط قصص المجموعة اليومي (الهجرة، التسول، البطالة،) لتسلط الضوء على مجموعة من المشاكل والقضايا الاجتماعية كالبطالة والهجرة والبحث عن الاستقرار الاجتماعي بعيدا عن التناول الاطروحي المباشر، ليس تخليا عن الواقعية بل يصبح الواقع في تحولاته المتسارعة عاملا مؤسسا للقصة.

إننا أمام قالب قصصي موسوم بغرائبية ناتجة عن تفاعل الكتابة وطريقة القص بغرابة الواقع التي هي في الحقيقة ليست مألوفة، كما قد يعتقد القارئ قبل شروعه في عملية القراءة، بل تنطوي على غرائبية بفعل تحول القيم، وحساسية الأديب هي التي تستطيع أن تجس نبض الواقع وترصد تحولاته المتسارعة في العمق والبطيئة في الظاهر.
يتم تقديم الواقع وتأثيثه بطابع غرائبي من خلال نظرة الشخصيات إليه:"هؤلاء النساء يحملن في بطونهم ناسا أخرين هم الذين سيحلون مكاننا ويسكنون هذه الأرض. ولكن الله وحده يعلم كيف سيكونون. غير أنني أخاف أن تطاردهم اللعنة مثلما طاردتنا أنت وأنا."(ص.19.) كما تتميز أفعال الشخصيات وسلوكاتها بطابع غرائبي ناتج عن فقدان الثقة في الواقع والخيبة التي تعري الشخصيات منه فيقودها ذلك إلى توقع الأسوأ. وكذا اللامعنى الذي يسير إليه واقعنا.

لتكون بذلك قصص المجموعة قراءة للمهمل والهامشي وما في حكمهما وإعادة الاعتبار للأشياء التي ترتبط وجوديا بالإنسان، وخصوصا الحيوانات والأواني، والتي لا نعيرها اهتماما بحكم تعودنا عليها، لتغدو في المجموعة شخصيات فاعلة من خلال التقاط القصص للإنفعالات التي تخلقها لدى الإنسان، وجعل ذلك الانفعال هو نواة القص والدافع إليه. وتخلق لدى القارئ دهشة تدفعه إلى الانتباه إلى ما يعتمل حواليه من تحول في القيم والعلاقات الإنسانية.

 [1]


[1الهوامش
1- محمد غرناط، هدنة غير معلنة، منشورات جذور، الرباط، 2007.
2- محمد برادة، لغة الطفولة والحلم قراءة في ذاكرة القصة المغربية، منشورات الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، 1986، ص.6-7.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى