الجمعة ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم علي القاسمي

رسالة إلى مُنظِّر سياسي أمريكي حول العدوان الإسرائيلي على لبنان

نحن بحاجة إلى مفكِّرين مخلصين يشيّدون الجسور بين الشعوب لا إلى عسكر متغطرسين ينسفون جميع الجسور والطرقات

ي
(منذ أن بدأ العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان، والكاتب العراقي المقيم في المغرب على القاسمي ما فتئ يوجّه رسائل عبر البريد الإلكتروني إلى أصدقائه ومعارفه في أوربا وأمريكا شارحاً لهم الوضع. وفيما يلي ترجمة رسالة وجهها إلى الكاتب السياسي الأمريكي اليهودي الدكتور جشوا مورافشيك، أبرز منظّري المحافظين الجدد ومؤلِّف كتاب " تصدير الديمقراطية" وكتاب " الجنة على الأرض: بزوغ الاشتراكية وأفولها" وغيرهما، والذي تُنشر مقالاته أسبوعياً في أشهر الصحف الأمريكية مثل " نيويورك تايمز" و " وول ستريت جيرنل"، وهو باحث مقيم في معهد المشروع الأمريكي "امريكان إنتربرايز إنستيتيوت" بواشنطن، الذي تعتمد الإدارة الأمريكية الحالية دراساته في كثير من سياساتها الشرق أوسطية).

عزيزي جشوا
_ قبل دقائق كنتُ أشاهد على التلفزيون سيدة عجوزاً إسرائيلية تبكي بيتها في حيفا، فغمرني شعور بالأسى مثل شعوري وأنا أشاهد الفلسطينيات واللبنانيات الثكالى والمفجوعات؛ ذلك لأنني أعتقد صادقاً أن الناس جميعاً ـ على اختلاف أعراقهم وأديانهم وألوانهم ـ نظراء في الخَلق، وأخوة في الإنسانية، ويشتركون في المشاعر والأحاسيس البشرية ذاتها.

وجاشت نفسي ـ وأنا أشاهد التلفزيون ـ بأفكار وهواجس أردت أن أُشركك بها، لأنك مفكّر سياسي أمريكي؛ وغاية المفكِّر المخلص هو إيجاد الحلول العادلة للمشاكل السياسية من أجل الحدّ من المعاناة الإنسانية وتوفير المتطلَّبات اللازمة للعيش بسلام واطمئنان ما يؤدي إلى تحسين الظروف المعيشية وترقية الحياة.
منذ إقامة إسرائيل قبل 58 عاماً، وجميع شعوب المنطقة تعاني من ويلات الصراع، بمن في ذلك الإسرائيليون الذين ـ إضافة إلى خساراتهم بالأرواح ـ لا يشعرون بالأمان والاطمئنان، ولن يشعروا بهما ما لم يوجد حل عادل للقضية الفلسطينية.

واسمح لي بأن ألقي باللائمة على الإدارات الأمريكية المتعاقبة (وخاصة الجمهورية منها) وعلى المفكرين السياسيين من أمثالك الذين تتخذ الإدارة الأمريكية من دراساتهم وبحوثهم أساساً لسياساتها في الشرق الأوسط. فهذه الإدارة لم تسعَ بجدّ ـ خلال نصف قرن من الصراع ـ إلى إيجاد حلّ جذري عادل للقضية الفلسطينية. بل، على العكس، دعمت الإدارةُ الأمريكية المتطرفين الإسرائيليين (وليس أنصار السلام الإسرائيليين) وشجعتهم على التمادي في احتلال أراض عربية أوسع، وتهجير أصحابها لبناء مزيد من المستوطنات، واستخدمت حق الفيتو منفردة مراراً في مجلس الأمن الدولي للحيلولة دون اتخاذ قرارات عادلة أو تنفيذ قرارات سابقة لحل النزاع.

وماذا كانت النتيجة؟ لنأخذ مثالين:

1ـ احتلت إسرائيل جنوب لبنان حوالي عشرين عاماً، وبعد خسائر فادحة في الأرواح في أوساط الإسرائيليين واللبنانيين معاً، قررت الحكومة الإسرائيلية الانسحاب سنة 2000 (طبعاً بناء على دراسات الباحثين الأمريكيين والإسرائيليين). ولكنها انسحبت واحتفظت بأسرى لبنانيين، وتركت خلفها حوالي مئتي ألف لاجئ فلسطيني في مخيّمات في جنوب لبنان دون وضع حدّ لمأساتهم.

2 ـ احتلت إسرائيل غزة حوالي أربعين عاماً. وبعد تضحيات كبيرة في الأرواح البشرية الإسرائيلية والفلسطينية، قررت الحكومة الإسرائيلية سنة 2005 الانسحاب من غزة، وذاق آلاف المستوطنين الإسرائيليين مرارة فقدان منازلهم كالفلسطينيين الذين اغتُصبت منهم الأراضي التي شُيّدت عليها تلك المنازل (طبعاً كان الانسحاب بناء على دراسات كذلك تشجّع إسرائيل على ترك غزّة ذات الكثافة السكانية والاحتفاظ بما تريد من أراضي الضفة الغربية وبناء جدران عازلة). ولكن هل أنهى الانسحاب الإسرائيلي العنف؟ طبعاً لا، لأن الإسرائيليين احتفظوا بعشرة الآف أسير فلسطيني، وتركوا خلفهم بنية تحتية مدمرة وعشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في ظروف مؤلمة لا تتفق والكرامة الإنسانية.

العبرة واضحة: لن تنفع الجدران التي تسجن إسرائيل نفسها بها، ولن ينفع الدمار الذي تنزله الآلة الحربية الإسرائيلية بالشعوب العربية لتخويفها وإسكاتها، ولن تنفع الخطط الأمريكية لتقسيم الأقطار العربية وإضعافها. فلن يعود الأمن والطمأنينة للإسرائيليين ما لم تنسحب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة وتُحلّ القضية الفلسطينية بصورة عادلة دائمة طبقاً للشرعية الدولية. فالحلول الترقيعية المؤقتة لا تجدي فتيلاً، والتبسيطات الحالية التي تؤدي إلى تعقيدات مستقبلية لا تُعدّ سهولة حقيقية. والأمة العربية ليست قبائل الهنود الحمر، وأنت تعلم أن المقارنة غير جائزة في التاريخ.
ولا بدّ أن الباحثين السياسيين الأمريكيين ورجال الإدارة الأمريكية يعرفون تلك الحقيقة ويعزز معرفتَهم تجاربُ أكثر من نصف قرن، فلماذا الاستمرار في المجازر والدمار؟ يراودني هاجسان آمل أنهما خاطئان:

1 ـ إما أن بعض رجال الإدارة الأمريكية لهم حقد دفين على اليهود والعرب معاً، فلا يساعدونهم على حل القضية لاستمرار معاناتهم،

2ـ وإما أن الإدارة الأمريكية تُبقي المشكلة قائمة لعرقلة استقرار المنطقة والحيلولة دون تنميتها، من أجل المحافظة على تفوق الغرب ورفاهيته على حساب الشعوب النامية. (وردَ ما يدعم هذا الرأي في المحادثة التي جرت بين مارجريت ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا والرئيس السوفيتي غورباتشيف، وذكرها الأخير في كتابه " برسترويكا"، وكذلك في كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون " نصر بلا حرب").

عزيزي جشوا،
_ طلبتَ مني قبل مدة أن أقترح عليك بعض الكتب عن الإسلام لقراءتها (وأنا أعرف موقفك الإيجابي من الإسلام، وترجمتُ لك مقالاً في الموضوع). واليوم وبمناسبة تدمير لبنان وقتل المدنيين فيه، أود أن أقترح عليك كتاب " الحرب والسلام في شريعةِ الإسلام" المنشور في أمريكا للدكتور مجيد خدوري وهو عراقي مسيحي كان أستاذا في جامعة جون هوبكنز الأمريكية. ستجد فيه أن الشريعة تحرّم على المقاتلين أن يؤذوا طفلاً أو امرأة أو شيخاً، أو يقلعوا شجرة، أو يدمروا منزلاً، أو يغتصبوا أرضاً أو مالاً، أو يتعرضوا للرهبان في صوامعهم.

وأخيراً، يؤسفني، يا جشوا، أن التاريخ سيذكر أن الشعب الأمريكي الذي حقّق تقدّماً علمياً كبيراً وابتكر تكنولوجيات باهرة، صنعت حكوماته المتعاقبة أكبر عدد من القنابل الذرية والنووية، وأنها أهدرت إيرادات ضخمة على التصنيع العسكري، وخلّفت أكبر دمار حول العالم، ودعمت المتطرفين في حليفتها الإستراتيجية، إسرائيل، لقتل أكبر عدد من المدنيين، وتدمير أضخم عدد من المنازل والمدارس والمستشفيات ودور العبادة، وجرّفت أوسع مساحات من المزارع والبساتين.
إننا بحاجة إلى مفكِّرين مخلصين يشيّدون الجسور بين الشعوب، لا إلى عسكريين متغطرسين ينسفون جميع الجسور والطرقات.

نحن بحاجة إلى مفكِّرين مخلصين يشيّدون الجسور بين الشعوب لا إلى عسكر متغطرسين ينسفون جميع الجسور والطرقات

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى