الثلاثاء ٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم هند فايز أبوالعينين

رسالة من الأعلى

مالذي يحدث؟ ... أين أنا؟

" .... "

وماذا عساي أفعل الآن؟

" ...."

لكنهم لايستطيعون سماعي

"...."

آه ... حسنٌ ، سأخبرهم بكلّ شيء إذن

** ** ** ** ** ** ** ** ** ** ** **

مرحبا ..

أنا في الحقيقة لا أستطيع الكتابة إليكم، لأنني توقفت عن الذهاب إلى المدرسة قبل نحو ثلاثة أعوام. لم تعد الطريق إلى المدرسة آمنة كما كانت في السابق.

لكنه يقول أنكم تستطيعون قراءة ما أقول رغم ذلك.

يجب أن أخبركم بالذي حدث، حتى تتّعظوا . هو قال لي ذلك.

اسمي عبير، وسيصبح عمري خمس عشرة عاما في ... في الحقيقة أنا لا أعرف متى، لكن في وقت ما من العام القادم.
ما حصل هو أننا اضطررنا للرحيل من بيتنا على عجلة ففقدنا أوراقنا الرسمية كلها، ولهذا أنا لا أعرف متى يأتي عيد ميلادي.
في أي حال من الأحوال نحن الفقراء لا نحتفل بعيد الميلاد. لكن لا بأس، فأنا أفضّل البقاء في الرابع عشرة للأبد.

كنت أعيش في قريةٍ صغيرة مع عائلتي : أبي وأمي وأخويّ وأختي. كانت عندنا أبقارٌ ودجاجات.
كانت حياتنا جميلة إلى أن جاؤوا. ثم أصبحوا يملؤون المكان، في كل الشوارع والأحياء. وكانوا كلهم متشابهين. اعتقدتُ مرّة أنهم كلهم شخصٌ واحد ، وأنه يتردد أمام ناظري. عندما قلت هذا لأمي بدت قلقة.

ذات يومٍ مشمس خرجت إلى الحظيرة لأحلب البقرات وأجلب البيض، عندما عدتُ إلى البيت دخلوا من خلفي مباشرة. كانوا كثر، ستة تقريبا. وكان والداي وأختي هديل- ابنة الأعوام السبعة- في الداخل، أما أخواي فكانا في المدرسة.
بدأوا يصيحون بصوت عالٍ في وجوهنا ودفعونا إلى الداخل، قام اثنان منهم بشدّي بعيدا عن أهلي، واثنان آخران خرجا إلى الخارج. كنت خائفة جدا. لا زلت أذكر كيف كانت نظرة أمي إليّ في تلك اللحظة، كأنها تحاول أن تقول لي شيئا، لكن أوضح ما رأيته على وجهها كان الخوف الشديد. أبي كان يصيح في وجوههم، لكنهم لم يغادروا. أختي تعلقت بثوب أمي ودفنت وجهها فيه، ثم بدأت بالبكاء.

فجأة، رجعوا خطوات إلى الخلف بعيدا عن أسرتي وأمروهم بالالتصاق بالحائط ، وحينها بدأوا يطلقون النار عليهم.
نعم... لقد رشّوا أسرتي بالرصاص رشّا عشوائيا، كأنهم يسقون حديقةً بصنبور ماء.

رأيت ثقوبا حُفـرت في وجه أبي العزيز وجسده. وصار الدّم يتفجر من صدغيه. كان ذلك هو الوجه الذي ينظر إليّ بكل حنان الدنيا.

عينا أمي تعلّقت بي، وكأنني الحياة ذاتها وهي تودعها. الدم غطّى صدرها. تلك كانت العينان التي تقرآن أفكاري كلها، وذاك الصدر كان يوسّد رأسي عندما أمرض.

أما هديل الحبيبة فالتصق جسدها الصغير بأمي، فيما حاولت أمي أن تحميها من الرصاص. الألم الذي سبّبه الرصاص لوى جسدها الرقيق إلى زاوية غريبة، وغطّى الدّمُ وجهها الصغير، لكنه لم يغطِّ نظرة الخوف عليه.

طوال هذا الوقت كنت أصرخ بعلو صوتي، لكني لم أستطع سماع صرخاتي. وعندما انتهى الأمر خارت قواي ، وانهرتُ إلى الأرض.

لكن عندما شعرت بهم يسحبونني إلى الغرفة المجاورة استعدتُ وعيي، ولأول مرة في تلك الساعة بدأت أفكر: لماذا أنا لازلت حيّة؟ لـمَ لـْم يقتلوني مع أسرتي؟ هل هناك سبب ، أم أنهم يريدون أخذي رهينة؟

جرّوني جرّا إلى غرفة المعيشة. اثنان منهما قيّدا يديّ فوق رأسي، والآخران أخذا يمزقان ثيابي. كنت أصرخ وأرجوهم أن يتركوني، لكنهم لم يفهموا رجائي ولم يتوقفوا .

من شدّة ضعفي في تلك اللحظة تمنيت الموت خلاصا. كانوا يقَلـّبونني كأنني دميةُ قماشٍ خرقاء بين أيديهم. تداولوني الواحد بعد الآخر، وكان الألم فظيعا... لم أشعر بمثله من قبل. كانوا صمٌ وعميٌ عن صراخي وبكائي، حتّى أن أحدهم كان يبتسم لي.

للحظة قصيرة حمدتُ ربي أن والديّ توفيا قبل أن يشاهدا هذا يـُفعلُ بي.

عندما انتهوا أغمضتُ عينيّ كي لا أرى وجوهم القبيحة. لكن فاجأني ألم ٌ رهيبٌ في رأسي، وعندما فتحت عينيّ لآخر مرّة في حياتي، شاهدت عقب بندقية يهوي باتجاهي.... وكان هذا آخر ما رأيت.

أنا سعيدةٌ الآن. منذ ذلك الحين أصبح لديّ أصدقاء كثيرون. أناس طيبون أتوا ليسلموا عليّّ ويرحبوا بي، وكذلك ليخبروني بقصصهم هم.

هم يعرفون قصتي، وكأنهم كانوا يشاهدونها تحدث.

وأفضل ما في الأمر أني مع أسرتي الآن ، رغم أن سعادتنا لم تكتمل، لأننا قلقون على أخويّ.

أحيانا أشعر بالخجل مما حدث لي، لأن كلّ هؤلاء الناس رأوني حينها. لكن ربّي يعلم أني لم أرِد لذلك أن يحدث، ولم أرغبه. والبنات الأخريات هنا قلن لي أنهن يعلمن أيضا، فهنّ لم يرغبن أيضا.

ربي أمرني أن أكتب لكم قصّتي ... فاتّعظوا الآن.

أهدي قصتي هذه إلى روح الصبية عبير القاسم الطاهرة، التي اغتُصبت وقُتلت هي وأسرتها على أيدي الجنود الأمريكان في المحمودية قرب بغداد.

فليرحمهم الله جميعا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى