الأحد ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٧
جدل السيرة الشعبية والرواية في
بقلم بوشعيب الساوري

رواية كسبان حتة لفؤاد قنديل

تتأسس الكتابة في رواية كسبان حتة(منشورات الدار المصرية اللبنانية، 2006.) علي رصد المفارقات الوجودية بين السارد والبطل في صيغة جدل يتم من طرف واحد يصوغه السارد، متخذا من التجربة الوجودية الناجحة والمثيرة لابن خاله كسبان (البطل) حافزاً يدفعه إلي البوح بتجربته الحياتية الفاشلة، علي شكل مساءلة مزدوجة للبطل تروم تفسير سر نجاحه (البطل) والتصريح بفشل الذات (السارد)، ذلك الحوار الذي يتجاوز السارد والبطل إلي جدل غير معلن بين الرواية والسيرة الشعبية، وإلي إثارة مشكلة تداول وتلقي الرواية، مما جعل رواية كسبان حتة تضطلع بوظيفة ميتاروائية.جدل السارد والبطليتم السرد في رواية كسبان حتة لسببين موجِّهين:

 أولهما؛ مقارنة السارد بين تجربته الحياتية وتجربة ابن خاله كسبان بطل الرواية،
 وثانيهما؛ محاولة السارد فهم وتفسير بعض أفعال هذا البطل الغريبة.

من ثمة ستكون رواية كسبان حتة رواية مقارنة يجريها السارد بين تجربته الحياتية المليئة بالإحباطات والخيبات وبين تجربة بطل الرواية كسبان الحافلة بالانتصارات المتواصلة والمثيرة. يقدم من خلالها تمايزا بين حكايته وبين حكايات البطل العجيبة؛ وذلك علي عدة مستويات:

ـإلي المخيلة الجماعية، وأصبحت تُروي في قصائد شعبية لشاعر محلي، يقول السارد:"لم تغب سيرته تماما عن البلد ولا عن الناس، فقد ظهرت موهبة الشعر العامي والزجل لدي شاب من أبناء القرية اسمه رضوان الروبي، لفتت نظره مغامرات كسبان فكتب عنه قصيدة أعجبت سامعيه، ثم كتبت ثانية وثالثة، وأصبحت مادة من مواد السمر، وأمسي الناس جميعا يطلبونها [....] وانتقلت إلي قرية أخري .(ص.84 ـ 87.) أما حكاية السارد فلا تتجاوز إلا صفحات قليلة، ولا تستدعي أن تحكي، يقول السارد ملخصا حكايته: هكذا سافرتُ إلي البلاد العربية الخليجية للعمل، وهكذا تزوجت من الفتاة التي لم يكن من المناسب الزواج بها، هكذا وضعت أموالي لدي اللصوص الذين وعدونا بأكبر الأرباح [...] وهكذا انتهيت إلي إدمان الدروس الخصوصية.. حتي لقد اشتريت سيارة للمرور علي الطلبة، والحصول علي أجور عالية لقاء الدروس المنزلية. لكن الخسائر أيضا كثيرة، فأولادنا ليسوا كما نود، وبعضهم يرسب، ومنهم أولاد يعانون من التخلف الذهني، والخلافات كثيرة مع أمهاتهم.. الحمد لله.. أنا لا أشكو، ولكن حالتك دائما تعيد إشعال النار، الكامن .(ص171.).

بالنسبة لكسبان يمكن الحديث عن متوالية من الحكايات وليس حكاية واحدة، بينما بالنسبة للسارد يمكن الحديث عن حكاية واحدة هي حكاية الفشل رغم التعلم والهجرة إلي الخليج وإدمان الدروس الخصوصية.

 إن حكاية السارد حكاية فشل، يقول السارد: وهكذا انتهيت إلي إدمان الدروس الخصوصية.. حتي لقد اشتريت سيارة للمرور علي الطلبة، والحصول علي أجور عالية لقاء الدروس المنزلية. لكن الخسائر أيضا كثيرة، فأولادنا ليسوا كما نود، وبعضهم يرسب، ومنهم أولاد يعانون من التخلف الذهني، والخلافات كثيرة مع أمهاتهم .(ص. 171.) بينما حكاية البطل حكاية كسب، ويبدو ذلك من خلال الاسم الذي يحمله والذي جاء علي صيغة المبالغة فعلان، يقول السارد مقارنا بينه وبين البطل كسبان: كم هو رائع ذلك المقود الذي تمسك به جيدا وتقبض به علي فك حصانك، فلا ينطلق إلا حيث تريد، ولا يميل إلا تبعا لرغبتك، وإن كنت أثق أن ما بك من خصال ليس من صنعك، وطريقك ونهجك خطهما الله.. وأراد الله لي طريقا آخر..آه.. فهل جنيت من تعلمي ومؤهلي وأسفاري ودروسي ربع ما جنيت أنت؟.. أنت؟ (ص.171.)

 حكاية السارد حكاية عادية ومألوفة بينما حكايات البطل مليئة بالإثارة والتشويق، تتسم بالغرابة والعجائبية يقول السارد، محاولا تفسير غرابة كسبان: ربما كانت يوم مولدك حيث قيل إنك ضحكت ولم تبك ككل الأطفال حديثي الولادة.. وإنك بصقت الماء بالسكر الذي حاولت أن تقطره جدتك في فمك، وبحثت مغمض العينين عن الثدي، وهذا في العادة لا يكون... (ص.19.)

يعكس السرد إذن مفارقة صارخة بين تجربتين في الوجود أو بين واقعين إنسانيين، بلغة هايدجر، تجربة تأخذ الحياة ببساطة وتحقق كل ما تريد، وتجربة تعقلن هذه الحياة فلا تحصد سوي الإخفاقات والخيبات، تؤشر علي مفارقة بين بطل السيرة الشعبية(في شخصية البطل) وبين البطل الروائي الإشكالي(في شخصية السارد).جدل السيرة الشعبية والروايةإن قارئ الرواية ليلمس منذ البداية أن السارد ينهج أسلوبا تشويقيا يشد القارئ ويستميله ويرغمه علي متابعة القراءة، ويدفعه إلي البحث عن هذا السر العجيب الذي يميز شخصية كسبان، عبر انفتاح الرواية علي أساليب السرد التقليدية الشفوية، يقول:"هل رأي أحد منكم مثل هذه القطعة البشرية الخشنة؟.. هل التقاها... وتعرف عليها؟ وأستشعر الغرابة في كل ما يصدر عنها من سلوك، فاخضرت في روحه فجأة حقول الدهشة .(ص. 12).

وسرعان ما يندمج القارئ في الرواية وتتبع أخبار وحكايات وأفعال بطلها الغريبة يفاجئه السارد بتساؤلات واستفهامات وتعليقات استفهامية، تؤشر علي تقابل صارخ بين استفهامات السارد الإشكالية وتوتره مع واقعه، وبين البطل الذي تغيب عنده تعقيدات المثقف وأسئلته، يصل في بعض الأحيان إلي درجة المواجهة بين السارد والبطل، عبر أسئلة استفهامية يوجهها السارد إلي البطل الذي يعد المخاطب الرئيسي في الرواية، ولا يتم السرد بدونه، يقول السارد مثلا مخاطبا كسبان:"ما الذي دفع بك يا كسبان إلي عالم الأساطير والحكايات؟ (ص.18.) محاولا البحث عن الأسرار الكامنة وراء الأفعال الغريبة التي يقوم بها كسبان، يقول السارد مستغربا: تكسر بأسنانك عشرات المسامير، وتظل داخل شوال التبن مكتوم الأنفاس نصف يوم.. وتقلب سيارة وزنها أكثر من طن، وتعبر النار لتنقذ أهل الدار المحروقة دون أن تصاب غير ملابسك.. لا.. وألف لا... لا بد أن هناك سرا.. هل أنت أقوي حقاًّ، أم بالفطرة لا تزال.. أم أن يد الله عليك ومعك.. كيف يتحقق لك ذلك وتستجيب لك الأشياء .(ص 41). كما يضطلع الاستفهام برِهَان فهم وتفسير أفعال كسبان الغريبة:"ما زال السؤال هو كيف أصبحت ذلك المهرج والساحر، وتلك الشخصية اللافتة والغريبة؟ ( ص.45 .) غرابة أفعاله(البطل) جعلته ينتقل من الواقع إلي عالم الخرافة والحكاية. تلك الأفعال التي أربكت السارد ودفعته إلي التساؤل حول مدي حقيقتها أم أنها من نسج خيال الرواة. كسبان الذي يأخذ دائما الأمور ببساطة بعيدا عن تعقيدات المتعلم والمثقف، كما هي حال السارد الغارق في تساؤلاته.

إنه حوار غير معلن بين الرواية ببطلها الإشكالي الذي يعيش واقعه الإنساني بدون سند، (ويتمثل في السارد) والسيرة الشعبية ببطلها كسبان، يقول السارد: يندفع الجميع بالضحك، قاطعين الحبل المشدود لحماس كسبان، ويفرح الأطفال وهم يتصورونه عنترة . (ص 116). حوار يرصد المفارقة بين عالم الرواية وعالم السيرة الشعبية. فإذا كان بطل السيرة الشعبية يقوم بأفعال خارقة للعادة، ويصل إلي كل أهدافه، ويحقق الشهرة، فإن بطل الرواية إشكالي يعيش في عالم خال من المساندة، يعاني الفشل والخيبة رغم التعلم والهجرة إلي الكويت، وامتهان الدروس الخصوصية.

لقد استطاع كسبان أن يحقق كل ما كان يطمح إليه وما لم يكن يطمح إليه، وتمكن في الأخير من أن ينصب عمدة في قريته، وحقق الشهرة، بينما لم يحقق السارد أبسط متمنياته، وظل غارقا في تساؤلاته وعزلته بعيدا عن الأضواء. أليس في ذلك تلميح إلي تبرير انتشار السيرة الشعبية بين أوساط كبيرة من الجماهير و انحصار الرواية في جمهور محدود؟
يتعلق الأمر بوظيفة ميتاروائية تتواري وراء جدل السارد والبطل، تطرح مشكلة قراءة وتلقي الرواية وانتشارها.
يدفعنا ذلك إلي تأكيد الملاحظة التالية وهي أن فؤاد قنديل يسعي جاهدا من وراء الاشتغال علي الحكاية والعجائبي والواقعية السحرية، بإظهار اليومي في غرابته الملتصقة به، إلي إثارة القارئ وشده إلي قراءة رواياته، في إطار استراتيجية غير معلنة، لتوسيع قاعدة تلقي رواياته. ذلك هو الهم الذي تضطلع به روايات فؤاد قنديل، إذ تقدم رواية تستبطن وجهة نظر حول الكتابة الروائية.

أؤكد، في الختام، أن رواية كسبان حتة لا تخرج عن عالم فؤاد قنديل الروائي الذي يتأسس علي الواقعية السحرية والسرد الممتع الذي يشد انتباه القاريء بحكايات تمتح من معين شعبي محلي غرائبي. والجديد فيها هو أنها خلقت حوارا بين الرواية والتراث السردي المتمثل في السيرة الشعبية. ذلك الحوار الذي يخفي سؤالا يشغل فؤاد قنديل وغيره من الروائيين وهو: كيف نوسّع قاعدة تلقي الرواية؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى