الجمعة ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم جميل حمداوي

زهرة الجاهلية لبنسالم حميش

تندرج رواية (زهرة الجاهلية) لبنسالم حميش ضمن التخييل الأدبي؛ لأنها تستحضر العصر الجاهلي وبيئته الأدبية وأيام العرب والمعارك التي كانت تضرم لأتفه الأسباب مثل داحس والغبراء بين عبس وذبيان وحرب البسوس بين تغلب وبكر.

ويلاحظ على الرواية أنها صغيرة الحجم(93 صفحة من الحجم المتوسط)، ويحمل غلافها الخارجي صورة تشكيلية تراثية تحيل على الصراعات والإحن التافهة بين العرب، كما تشير كذلك إلى المنازلة التي وقعت بين زهرة البكرية والمتوحشة البدينة الهيجاء قذاف الدم. وقد تكلفت دار الآداب البيروتية بنشر الرواية وتوزيعها( الطبعة الأولى عام 2003)، بعد أن تولت بنشر مجموعة من نصوصه الروائية السابقة له مثل:مجنون الحكم، والعلامة، ومحن الفتى زين شامة، وفتنة الرؤوس والنسوة(ط1: 2000)، وهذا يعني أن حميش يبحث عن التميز العربي ويتخطى المنابر المغربية المحدودة إعلاميا على غرار الأصوات الغنائية، وهذا شيء طبيعي لمن أراد أن يفرض نفسه في الساحة العربية والأدبية وأن يكون معروفا إعلاميا في العالم العربي.ويصادفنا في الصفحة الداخلية الموالية الإهداء الأدبي الموجه إلى مبدع الرواية المغربية الواقعية: محمد زفزاف الذي رحل عنا بعد أن أثرى الخزانة الأدبية المغربية بالقصص والروايات ذات البعد الوجودي والإنساني. ويتأسس هذا الإهداء بين الروائيين: حميش وزفزاف على المحبة واسترجاع الذكريات الماضية" إلى روح محمد زفزاف محبة وتذكارا"، وبعد ذلك يوظف الكاتب مقتبسات صوفية( التوحيدي)، ومقتبسات فلسفية( نيتشه)، ومقتبسات أدبية( بورخيس) في بداية الرواية كنقط تمهيدية للولوج في عالم الرواية. وتنبني معمارية الرواية على تمهيد ومتن معنون بطريقة تراثية في شكل أبواب وفصول حتى وإن لم تذكر بهذه الأسماء، وتنتهي الرواية بالحاشية والفهرسة على غرار الكتب القديمة. وتلخص لنا كلمات الغلاف الخارجي بعض دلالات الرواية- قد تكون من وضع الناشر- وتتكلف بتعريف الكاتب ومكانته الأدبية في العالم العربي، والغرض من هذا هو إثارة انتباه القاريء إعلاميا، ودغدغته ذهنيا ووجدانيا قصد تسويق المنتوج وتوزيعه إشهاريا.

وتسرد هذه الرواية قصة زهرة البكرية التي عاشت في العصر الجاهلي وأدركت الإسلام شهرا قبل وفاتها. وقد عمرت كثيرا ونالت تجارب عديدة اكتسبتها من الواقع ومعايشة العرب الذين لاهم لهم إلا الحروب والتطاحن القبلي والاستنجاد بالفرس أو الروم لقتال إخوانهم لأسباب واهية. عاشت زهرة الجاهلية يتيمة لامعيل لها بعد وفاة خالها، وتزوجت رجلا أعرابيا فضا متوحشا وأد بنتها وتركها وحيدة معلقة بدون بعل يحميها أو يعاملها معاملة حسنة. وكانت جميلة الحسن والمنظر، ساحرة العينية، جذابة الوجه والقد. وعلى الرغم من ذلك لم تكن محظوظة مع زوجها المتغطرس الذميم، إذ اعتقدت أنه يشبه فارس أحلامها خالد النبي الذي كان يتهرب منها؛ لأن مهمته صعبة وجسيمة تتمثل في التغيير وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أحوال العرب الغارقين في الضلال والوثنية العمياء. وقد شهد الناس للبكرية بحسنها وجمالها وحاولوا التلذذ بها، وأصبحت عندهم بمثابة جنية ذكية. ولما عظم بلاؤها مع زوجها الذي غادرها وتركها وحيدة ضائعة شاردة البال قررت أن تتيه في سراديب الحياة وأن تعيش بجوار الشعراء بين لذة الشعر والمجون ولذة الخمر والسكر. فاقتربت من المهلهل وامرىء القيس وطرفة بن العبد والمتلمس وعنترة بن شداد، وجعلت من غارها مأوى للوحدة والعزلة وملجأ لاستقبال الشعراء المفلسين والعجزة منهم ( طرفة بن العبد وعنترة بن شداد).

وكانت زهرة البكرية ضيفة على زير النساء: المهلهل، وسمعت منه قصة امرىء القيس الماجنة التي كان يرويها لمراهقات تغلب افتخارا بأمجاد القبيلة وأيامها الضافرة على بكر. وقد تعجبت كثيرا بشخصية الملك الضليل ومغامراته الشبقية الماجنة؛ ولكنها كانت حازمة صارمة مع المهلهل الذي حاول استمالتها بدون جدوى. بيد أن ذا القروح هو الذي سيستمتع بحسن زهرة البكرية إلا أنه تركها ضائعة بعد أن غادرها إلى القسطنطينية لطلب النجدة؛ لاسترجاع ملك أبيه الذي فرط فيه بسبب مجونه وسكراته العابثة. ولما يئست من حدادها على الملك الشاعر التجأت إلى شاعر قبيلتها بكر: طرفة بن العبد الذي طرد من قبيلته كالبعير الأجرب. وكم تمنت زهرة لوكانت عبلة لنالت حب عنترة وهيامه الجنوني.

ولما لقي شعراؤها حتفهم النهائي بسبب المكائد والإحن والأحقاد انتفضت زهرة البكرية غاضبة على العرب، ونددت بتفرقتهم وعطشهم للدماء والغدر بمبدعيهم، فصبت عليهم جام غضبها، وتمنت لهم الزوال والهلاك، وسبت أوثانهم وأصنامهم البكماء ونفوسهم الضالة العمياء، حتى هلكت من شدة الألم والتقزز من هذا الوضع العربي المشين.

تنتمي هذه الرواية إلى الرواية التراثية ذات المنحى التخييلي الأدبي؛ لأنها تتناول سيرة الشعراء الضائعين والمهمشين في العصر الجاهلي من خلال حسناء معجبة بسيرهم وحياتهم الإنسانية المتميزة. وقد اشتغل حميش على عادته على مرويات المخطوطات والمصنفات القديمة؛ لتحبيك هذه القصة المليئة بالسخرية والباروديا والتهجين الأسلوبي.

ومن سمات هذه الرواية أنها توظف اللغة التراثية بمحسناتها البديعية وبلاغة البيان العربي القديم مع استعمال سجلات لغوية متباينة: الدارجة المغربية( اتفو)، واللغة المرسلة المعاصرة، واللغة الأدبية القحة، ولغة البديع والتصنع، ولغة الشعر الجاهلي، والغرض من هذا التهجين والتلاقح اللغوي إثارة السخرية والتهكم من الحاضر ولومه على ضوء صورة الماضي. وتجرب الرواية تعدد السراد ( السارد والحافظ)، وتعدد الأصوات على غرار الرواية الحوارية ( البوليفونية)، كما تستعمل عدة خطابات ومستنسخات تناصية كالخطاب الفانطاستيكي( تحول زهرة إلى جنية وتنين وحية)، والخطاب الحلمي" وفي ليلة وضاءة وافرة البهاء، رأت فيما يرى النائم ذلك الزاهد المعمم، أبو القرني، يكب عليها ويحن...ص:21"، وخطاب السخرية" لاياعرب الكر والفر والفروسية الهوجاء، ليس تاريخا هذا الذي تخطونه بتناحركم وأيامكم، بل خردلة على طرة تاريخ العظماء، ص:89". ويكثر الشاعر من التناص في إطار امتصاصي وحواري تفاعلي لإسقاط الماضي على الحاضر، ويبقى الشعر الجاهلي هو المتناص الحقيقي لهذه الرواية، ولاسيما معلقات الشعراء وأخبارهم التي وردها الرواة والحفاظ.ومن هذه النصوص التناصية المستنسخات : الشعرية والصوفية والدينية والخطابية والسردية والتاريخية والمرجعية والتراثية، كما يتناص حميش مع نفسه في رواياته السابقة : سماسرة السراب ومحن الفتى ومجنون الحكم والعلامة.... حتى إن الكاتب يعيد نفسه باستمرار إلى درجة قريبة من الاجترار على الرغم من تنويع تيماته ومواضيعه التخييلية. ويلاحظ كثيرا أن حميش يشتغل على الجنس بطريقة بارودية وكاريكاتورية. ولا ينظر إلى المرأة إلا من زاوية أبيقورية وشبقية، ولا يعتبرها سوى جسد جنسي يحتاج إلى الدلك والحرث والهتك بطريقة غير أخلاقية يفصح الكاتب فيها ولا يضمر.

ويتبين لنا مما سبق، أن رواية زهرة الجاهلية رواية تراثية ذات التخييل الأدبي يدين فيها حميش الفرقة العربية وتمزق الأمة العربية رقعا رقعا، وانشغالها بالحروب والمعارك الدونكيشوتية فيما بينهم والاستنجاد بأعدائهم ضد بعضهم البعض رغبة في زعامات طائشة وإمارات لاهية، ولو كان ذلك على حساب الشعوب المقهورة ومثقفيها الواعين وأبنائها المتنورين. وتذكرنا هذه الحروب والمعارك العابثة بالحروب الجاهلية التي كانت تشتعل لأتفه الأسباب رغبة في إقصاء الآخرين وتهميشهم ووأد الأحياء ليعلو السفه والجنون والحمق والاستبداد على العقل والمنطق والحق والعدالة واحترام الإنسان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى