الأحد ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم ذكرى لعيبي

صباحات حائرة

أشم عطركِ في الأوراق، كأنه صباح مساء الشوق والوله.

صباح الجوري .. أملكُ من حبي لكَ أكثر من صباحات العالم كله..

تذكرت الوجه الآخر لقمر أيامها، كانت في حيرة، لأنها طالبته بعيش مشترك، حين جف ضرع الأرض، لكنه لم يخدعها، قال لها:

لو كنت هنا ، لأمسكت بالنجوم وطوقت بها عنقكِ، لكني هنا أعيش غربتين، كيف لي أن أدلل حبيبتي وأنا خالي الوفاض؟ ذلك ليس عدلاً، المحبوبة تستحق ما يعادل رفعتها في القلب .. وأنت تستحقين الأجمل والأروع ..

أنت تتحدث عن (هناك) مبهم، هل هناك .. (هناك) حقاً ؟ أم أنه عكازة اعتذار للتملص من مسؤلية قلبك؟ يالجغرافية الهنا والهناك المزرية، كل من في الشتات يتعكز عليها!
ربما الحالين، معكِ حق أن مخاوفي وتقلبات الشتات تطغى على نعيم أية مغامرة أو شقائها، لا أمتلك الآن قدرة الإمساك بغدي، ولا أريد تضليل غدكِ، أو أن أترك أحلامك في متاهة ضياع وبرية غير آمنة، الفقر غربة أيتها المخلصة.

ودعتّه وقالت: أدع لي ولا تنساني!
وحلقت إلى جهة نائية، تمسكت بضفة رخوة فانزلقت، كاد النهر يضيعها لكنها قاومت فراغ الأيام وعبرت، واختارت، هل كان اختيارها مثل أحسن الراحتين؟.

ربما قبلت باليأس على حساب الموت!

وحين أرادت أن تحيا، وتستمر في الآخر زرعت بذرة عفاف في رحم الأرض، وانتظرت..
ذات صباح بارد، أومأ بالرحيل إلى مدن الإنتماء.. وغاب في الدجنة!

وقفت عند الضفة الأخرى من عمر الجغرافيا، ونظرت إلى بعيد الأمكنة الأليفة، بانت لها مشاهد من شريط طفولة نقية:

ذات صباح أعلن الطبيب موت والدة مجبل الساعدي، مدير مدرسة الفارس، المتكئة على نهر الكحلاء.

لم يبكِ، ولم يضرب كفاً بكف، ولم يستمطر شفقة المحيطين به، بل حمد الله، لأن أمه ماتت في بيتها بين أبنائها، وبحسب رأيه:
زمن صعب يموت فيه الإنسان بكرامته!
أم مجبل لم تمت بكرامتها حسب، بل بكرامات أجدادها!

كانت اختارت اسماً للمولود القادم، هيأت له المهد من جريد النخيل، ونسجت له ثوبين من خيوط القطن، برغم عينيها الكليلتين، ولم تأبه لوخزات الإبرة التي تركت خرائط على أصابعها ..
ذات صباح، رحلت أم مجبل والمولود لم يأت بعد، تقول جارتها:

إذا تأخرت ولادة طفل، فمعنى ذلك أنه يرفض عالمنا!
أمها تقول: فأل سيء تحضير ((المهد قبل الولد !))
الأرض ما زالت حبلى، والصباحات باردة ومجبل الساعدي ينتظر إطلالة ضناه ويبتسم.

2

(صباحكِ نخلة فراتية )

وصباحك حنين يدوم!

تجلس صديقتها نجلة حسين جوار مقعدها في الصف الدراسي، قصر قامتها يعطيها هذه الأفضلية، وتجلس هي خلفها بمقعدين، تضعان كتبهما في الدرج، تنتظران (الست صبرية) مدرسّة الجغرافيا، عينان محمرتان وشعر ذهبي مجعد ومبلول، قرطان يتدليان ليدغدغا نهديها النافرين، وشال صغير يلف أعلى عنقها، حذاء بلون الشال، تلك هي طلة الست، تكتشف الصبيتان بشقاوة طفولتهما إنها تخفي آثار ندبة قديمة بالشال الأزلي!

نجلة لا تحب هذه المادة مع إنها تحلم بالسفر، قرأت مرة في كتاب سحري: أن الجغرافيا ليست تلك الخرائط الخُرس، بل البشر، علاقات البشر وهي تحلم مثل صديقتها بعلاقات تتجاوز الخريطة الصماء إلى معدن إنسان يصفو حين يحب ويصدق حين يعد ويفعل حين يعزم الأمر ويتوكل.. لكن نجلة في تلك الحقبة لا تستجيب لشرح المعلمة صبرية، فتتشاغل بالرسم، ترسم وجوهاً بسحنات مختلفة، ومناظر من مخيلة مترعة، كانت تضع الوجوه التي ترسم على دوائر العواصم، تتخيل الأبيض والأسمر والأصفر والأسود من الأجناس كأنها تعيش معهم، أو ستكون على موعد معهم تالياً، لا يهمها العقوبات التي تتوالى عليها كلما ضبطتها مدرسة الجغرافيا ترسم بشر البلدان، قالت لها مرة:

هؤلاء هم الجغرافيا

كأنها حكيم يطلق مقولته بثقة

كانت نعجب كيف تنال نجلة أعلى الدرجات في الامتحانات وتحقق المعدل الأعلى، فسألتها مرة بلهفة:

بأية وسيلة تغشين؟

بهذه ...

تخرج من جعبتها لوحة صغيرة لامرأة جميلة، خصلات شعرها تداعب سنابل حقل فسيح وعيناها مثل وهج الفصول، حانية ترضع وليدها ، وفي أسفل اللوحة جملة قصيرة توحي بأن هذه المرأة هي الست صبرية !
تقول نجلة وهي تضحك:

هذا جواب فرع ب من السؤال الثاني!!
هل تعنين إنكِ رسمت هذه بدلاً من الخارطة؟
نعم .. مدن مدرستنّا مهجورة وتريد من يسكنها!.

3

ذات صباح، النهار يتدثر بالشمس، سعفات متيبسة استغاثت بجذع هرم، حمامة ملّت الرقاد على بيض فاسد، ومساحة واسعة من حديقة الدار كستها أوراق صفر، كأنها تعلن شحوباً مبكراً لخريف على وشك المجيء.
خصام بين البارحة وهذا الصباح، أثمر عاصفة كأنها القيامة، سقوف تنهار وجبال تدك، وأزمة صادحة بين الروح والجسد، تتشبث بالغطاء وتخفي رأسها.
يحدّث نفسه بشيء من يقظة مشتتة:
( قد أكون اقتحمت نفسي يوماً، ودخلت القصور بلا استئذان، أو شاغبت بتنقيط الظلال كأنما صعدت سلالم الأسرار، واستقطبت التواءات الريح وغنجها أو غضبها، هكذا يتوغل المغيب داخل نفسي متلصصا على النبض، أبصرتها ذات شوق، غافية على هدوء ليل اخترعته، وحلم راقص جفنيها، حاولت مساومتها على الأحلام، لأقطع الحبل الذي يربطني بالأمس، أو انتزعها من ذاتها المغموسة بذاكرة الطفولة، اقتربت منها مراراً لأخنق أنفاسها، لكن صرخاته دوت وهو يتوسل إلا أفعل:

باب .. لا تعذبها أكثر.. أنا أحبها
محمومة تستيقظ من غفلتها وغفوتها، تمتزج بداخلها غبطة فرح مرتعش وغصة ألم عتيق، كيف تجاوب الذات مع الذات؟

أنا مدفوع لملاقاة نبض قلبي، لكني أشعر في الوقت نفسه بأنني مقيد بشراييني وفي لحظة هدنة تقاسمت وإياها الأدوار، تأخذ الجبل المنخور وعصا الصلصال الباردة، أما أنا فآخذ البحر الجائع والقارب المصنوع من ألياف القلب، ونبدأ اللعبة، أحاول انتزاع القارب من لجة البحر، لأدفعه بالعصا المرتجفة نحو الجبل .. أسير والأمواج ترتفع، ينعكس اتجاه الريح تنكسر العصا ويبقى القارب تتقاذفه الأمواج، يمنة ويسرة، يتوجع القلب، يتغلغل الألم في تجاويف الذاكرة، أضحك لإنكسار العصا ، وأنا أصرخ في اللحظة ذاتها:

هل من منقذ لقاربي؟..

تنتبه ، تستقيم في وقتها، تغمض عينيها بباطن كفيها، ثم تفتحهما على سعة الحقيقة، ترنو إلى المكان الفسيح وإلى أفق البحر المتطامن وخلفها تمتد الرمال لصحراء لا نهاية لحدها.
الصباح لا زال يتدثر بالشمس، وهذيانها يعلو مثل غيمة من خيال، نجلة، المعلمة، الأم، الأب، الجرف المنهار، الكحلاء، وتلك المدن المائية، هناك وهنا، العبور الصعب، ثم العودة إلى طفولة ذات صباحات حائرة ...

إلى متى يأخذني الحلم إلى حافات المياه، والكلمات كالبذور من تيه إلى تيه؟ ها أنذا كنهر أزلي، أمني النفس بأن أوصل الضفة بالأخرى، وفي الوقت ذاته أفصل الضفة عن الأخرى ..
صباحاتي حيرتي،
متى أنعم بصباحات بلا حيرة !؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى