الجمعة ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
النص الأدبي الإيراني يسفّه الإسلام والعرب معاً

صورة العربي في الأدب الفارسي

د. فيصل درّاج

صدر حديثاً كتاب صادم للقارئ العربي عنوانه : (صورة العربي في الأدب الفارسي). وما يتوقعه القارئ العربي العادي من أديب فارسي هو صورة معقولة عادلة موضوعية، بسبب العلاقات الكثيرة، القديمة والراهنة، التي تجمع بين العرب والفرس. ومع أنّ القارئ قد يتحوّط، قليلاً أو كثيراً، بسبب صفة "الفارسي"، التي تحمل أطيافاً بعيدة، فإنّ تحوّطه لن يفيد كثيراً، ذلك أنّ "الأدب الفارسي" المفترض صنع صورة العربي من السلب الكامل المكتمل، كما لو كان العربي شراً مطلقاً، أدمن إدماناً لا تساهل فيه على كل أشكال الرذائل والموبقات. وواقع الأمر أنّ هذا الشعور، الذي يثير الأسف والخيبة، يطرح موضوعين يثيران القلق، قبل أن تصدر عنه تداعيات كثيرة . يرتبط الأدب، نظرياً، بمقولة الإنسان، متطلعاً إلى ما يرتقي بالمجتمع الإنساني ويحرّره من الغربة والاضطهاد والضياع. بل إنّ تاريخ الأدب، في نماذجه الراقية، هو تاريخ الدفاع عن القيم التي تعترف بإنسانية الإنسان وحقوقه، وهو تاريخ تأمل الإنسان في وَهْنه وضعفه وإحساسه الفاجع بالزمن. أكثر من ذلك، وكما يعرف المختصون في الأدب، أنّ الإبداع الأدبي يستبدل، ضمنياً، بالإنسان الضيّق المحدود "جوهر الإنسان"، أي الكائن البشري في نزوعاته وأحواله وأشواقه المختلفة، كما لو كان الأدب لا يعطي معناه الحقيقي، حتّى لو ارتبط بزمان ومكان محدّدين، إلاّ إذا تحدّث عن "الإنسان من حيث هو"، بعيداً عن العروق والأجناس والأديان، ودعا إلى خير الإنسان العام، ذلك أنّ أدب الحقد والضغينة والاحتقار، مهما كان شكله، معادْ للأدب الباحث، دائماً، عن مدينة فاضلة، تجمع البشر جميعاً بلا تمييز ولا مفاضلة. يربك كتاب "صورة العربي في الأدب الفارسي" القارئ العربي مرتيّن: مرة أولى بسبب قوله العنصري، والمقذع في عنصريته الذي يناقض وظيفة الأدب ورسالته، لأنّ الأدب المفعم بالحقد والكراهية والاحتقار يتنكّر للتقاليد الأدبية، هذا من ناحية، ولأنّ القارئ العربي العادي لا يتوقّع أن يصدر عن"الإيرانيين" أدب كهذا، من ناحية ثانية. وواقع الأمر أنّ العربي يرفض أن يرى في هذا الشكل من الأدب "تعبيراً حقيقياً" عن الأمة الإيرانية الإسلامية، وعليه أن يقنع نفسه بأنّه أدب يعبّر عن نخبة أدبية مغتربة لا تعترف بالإسلام، بسبب انجذابها الشديد إلى "القيم الاستشراقية" وتعلّقها بماضْ فارسي سبق صعود الدعوة الإسلامية. فهناك روابط كثيرة بين العرب والإيرانيين يجب الحفاظ عليها والدفاع عنها وعدم اختزالها إلى تصوّرات شوفينية انتقامية موتورة، إضافة إلى أنّ الثقافة الإيرانية تشكّل رافداً أساسياً من روافد الثقافة الإسلامية. وواقع الأمر أنّ التنكيل بصورة العربي من وجهة نظر فارسية، كما التنكيل بصورة الفارسي من وجهة نظر عربية، نزوع مريض لا يحمل الخير إلى الطرفين. و لعلّ السياق الراهن الذي يعصف بشعوب "الشرق الأوسط" يأمر، قبل أي شيء، بالحوار والتفاهم والاحترام المتبادل، بعيداً عن كل ما يفضي إلى نهوض العصبيات المريضة، شوفينية كانت أم طائفية. تُرجم إلى العربية، مؤخراً، كتاب عنوانه : "صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث"، للباحث جويا بلندل سعد.
درس الباحث موضوعه اعتماداً على نصوص خمسة أدباء وثلاث أديبات، ينتمون جميعاً إلى القرن العشرين، وتحديداً إلى الفترة التي سبقت "الثورة الإسلامية"، التي قبضت على السلطة بعد عام 1979 آثر الباحث، تطلّعاً إلى الموضوعية، التعامل مع نصوص مختلفة، ودراسة أعمال الأدباء الأكثر شهرة وتمثيلاً، حال صادق هدايت أشهر كتّاب إيران، في القرن العشرين. ومع أنّ البحث جعل من الأدب مرجعاً له، فإنّ للمرجع المختار أبعاداً تتجاوزه لسببين أساسيين على الأقل أولهما: أنّ الأدباء مثّلوا، في الفترة المشار إليها، نخبة اجتماعية ذات دور اجتماعي وسياسي وثقافي، وثانيهما : أنّ هؤلاء الأدباء عبّروا، في كتاباتهم، عن منظور اجتماعي، واسعاً كان أو محدود الاتساع، ذلك أنّ الأديب لا يستطيع أن يأتي بقوله من الفراغ. بهذا المعنى شكّل الأدب الإيراني الحديث، في علاقته بصورة العرب كما جاءت فيه، وثيقة ثقافية ــ تاريخية، كشفت عن "الصورة العربية" في المخيال الإيراني، ولو بقدر.
وما يثير الفضول هو الفرق بين صورة العربي في النص الأدبي النسائي، التي إنْ لم تكن موضوعية فهي قريبة من الموضوعية، والصورة ذاتها كما جاءت في "الأدب الذكوري"، ولدى صادق هدايت بخاصة، حيث العربي هو شرّ خالص وآية على القبح الكامل. يستطيع الناقد الأدبي، المطمئن إلى المعيار اللغوي، أن يقرأ صورة العربي في الأدب الإيراني الحديث، اعتماداً على الصفات والنعوت والمزايا التي أُلصقت به. فقد أعطت النصوص، في كتاباتها المختلفة، العربي الصفات التالية: الحافي، القذر، الموبوء، البشع، صاحب الجلد الأسود، المتعطّش للدماء، القاسي، المتوحش، الكريه، الشيطان، اللص، آكل النمور والسحالي، المغتصب، الجمل، وائد البنات، الخادع الجشع، الوحش، البغيض، الكاره للآخرين، البدائي، الهمجي، المثير للقرف والاشمئزاز. تعبّر هذه الصفات، وكثير غيرها، عن وعي متعصّب مهجوس بكراهية العرب والحط من قيمتهم، مؤكدة شوفينية معلنة، تضع بين العرب والإيرانيين مسافة لا متناهية. غير أنّ الموضوع لا يحيل إلى علم النفس، الذي قد يفسّر موقفاً عصابياً ومتعصّباً من العرب، بل يحيل إلى موضوع أكثر عمقاً عنوانه: صناعة الهوية الإيرانية، أو "الأيْرنة"، كما يقول مؤلف الكتاب. ذلك أنّ تحديد هوية "الآخر العربي" يمثّل، في الوقت ذاته، تحديداً لهوية "الأنا الإيرانية"، انطلاقاً من القاعدة النظرية ــ العملية التي تقول: لا هوية إلاّ قياساً بهوية أخرى. وعلى هذا فإنّ الحديث عن الشر العربي المطلق حديث عن الخير الإيراني المطلق، كما لو كان العربي إيرانياً مقلوباً، مثلما أنّ الإيراني عربي مقلوب.
يطرح موضوع نقض هوية شريرة بهوية خيّرة سؤالين: ما الذي جعل الوعي الأدبي الإيراني في القرن العشرين يطرح بحدّة موضوع الهويّة القومية؟ ولماذا اختار هذا الوعي "الآخر العربي" دون غيره؟ يعثر السؤال الأول على جوابه في موضوع محدّد عنوانه: الشعور الفاجع بالتخلّف والتطلّع إلى هوية جديدة تجمع بين القومية والحداثة الشاملة. أمّا جواب السؤال الثاني فيقول: يعود التخلّف الإيراني إلى "الإسلام"، الذي جاء به "الغزو العربي"، قبل قرون عديدة. يصل الجواب الثاني، لزوماً، إلى حدوده القصوى مساوياً بين الإسلام والتخلّف، وبين العرب والإسلام، وبين العرب المسلمين والتخلّف. يتعيّن الأدب الإيراني الحديث احتجاجاً على الدعوة الإسلامية القديمة، التي هي دعوة عربية، ويتعيّن الإسلام "ديناً" شريراً، يحرّض على الجهل والاضطهاد ويعمل، كما عمل دائماً، على تدمير الروح الفارسية، التي تميّزت قديماً بالإبداع والجمال والابتكار. إنّ المسؤول عن تداعي الحضارة الفارسية، في الحالات جميعاً، هو الإسلام العربي، الذي هدم حضارة عريقة ولم يستطع، أبداً، المساهمة في بناء حضارة جديدة . وواقع الأمر أنّ النص الأدبي الإيراني، وهو يسفّه الإسلام والعرب معاً، يبدو مرتبكاً، فهو يكره العرب، تارة، لأنهم حملوا إلى بلاد فارس ديناً بغيضاً، وهو يندّد بالإسلام، تارة أخرى، لأنّه لا ينفصل عن شعب عربي بغيض، أو عن "مخلوقات عربية بشعة"، بشكل أدق. ما هي السبل التي يقترحها النص الأدبي الإيراني للوصول إلى الهوية الإيرانية المقصودة؟ إنّ أول العناصر الضرورية هو التمييز العرقي، فالفرس "آريون"، على خلاف "الساميين العرب"، ولا علاقة للإيرانيين بالعرب، الذين يمثّلون "الانتماء السامي" في أكثر أشكاله انحطاطاً. بيد أنّ الانتماء الفارسي العرقي لا يستقيم إلاّ بالرجوع المطمئن المثابر إلى الأصل الفارسي القديم، أو "الأصل الذهبي" كما يقال، الذي سبق الإسلام، الذي يجعل من إلغاء الحقبة الإسلامية الإيرانية شرطاً لكل تقدّم مرغوب ونهضة محتملة.

قام النص الأدبي الإيراني القومي، كما فعلت نصوص قومية شوفينية نظيرة، باختراع ماضْ مليء بالكمال وباستعادة أصول بعيدة مؤسطرة، بعد أن اخترع هوية عربية لا ينقصها من السلب شيء، أسست لدمار إيران وانهيار الماضي العظيم. ولعل العودة إلى الماضي المؤسطر هي التي تفرض على "الأديب الإيراني القومي" أن يعود إلى الثقافة الإيرانية الزردشتية، التي ازدهرت في "الحقبة الساسانية"، وأن يستلهم "الشاهنامة"، ملحمة الفردوسي، الشاعر الذي مجّد أبطالاً إيرانيين أسطوريين، سبقوا الخراب العربي، وأن يتأمّل شعر عمر الخيام "الكاره للعرب"، وألاّ يتعرّف على اللغة العربية إلاّ كما جاءت على لسان الشعراء الإيرانيين الكبار. أسّس النص الأدبي الهوية الإيرانية الجديدة على زمن تاريخي ــ ثقافي سبق الإسلام، وتطلّع إلى لغة فارسية نقية، متحرّرة من آثار اللغة العربية، لغة متجانسة تسهم في بناء مجتمع إيراني حديث متجانس. وبداهة فإنّ هذه اللغة منقطعة عن "لغة العرب البغيضة"، أو "اللغة المتوعدة الغريبة، التي يصعب نطقها"، الأمر الذي يجعل من الناطق بها، إيرانياً كان أو غير إيراني، مخلوقاً مبتذلاً، ذلك أنّ وضع اللغة العربية لا يختلف عن "نهيق الموسيقى العربية". وإذا كانت معظم النصوص الذكورية، قاطعة في كراهيتها للإسلام، فإنّ المرتبك منها يعثر على حل ملائم له، كأن يفسّر الحضارة الإسلامية، في وقت معيّن، بتأثيرات الحضارة الفارسية، أو أن يقرأ "الإسلام الشيعي"، في حدود "التكيّف الاجتماعي"، الذي يجعل من هذا "الإسلام" منتوجاً إيرانياً ووجهاً من وجوه القومية الفارسية.

أفرد جوبا بلندل سعد، في كتابه، فصلاً كاملاً تحت عنوان "رجل في الوسط"، موضوعه الكاتب جلال آل أحمد 1923( ــ 1969 )، الذي له إشكال نظري خاص به. فهذا الكاتب، الذي اعتبر الناقد الاجتماعي الأكثر أهمية في أواخر خمسينات القرن الماضي، اتفق مع غيره من الأدباء الإيرانيين في كراهية العرب، واختلف معهم في النظر إلى الإسلام. غير أنّ اختلافه مع غيره لم يمنع عنه هاجس "الإيرانية"، أي الوصول إلى هوية قومية محدّدة، تحتضن اللغة الفارسية وتعطي "الإسلام الشيعي" مكاناً مميزاً. عثر "رجل الوسط" على الحل المنشود في جملة" حقائق" قاطعة: فقد كانت بذور الإسلام الحقيقي موجودة في إيران قبل ظهور الإسلام، بفضل الثقافة الفارسية المبشّرة بالخير الناهية عن الشر، مثلما أنّ الروح الإيرانية ملائمة كل الملاءمة لاعتناق دين سماوي سام مثل الإسلام، على خلاف العرب الذين يصيّرون الإسلام امتداداً لنوازعهم الشريرة البشعة. والمطلوب، في الحالين، تحرير الإسلام من صبغته العربية، من ناحية، و "تفريس الإسلام" من ناحية ثانية، أي جعله فارسياً، من أجل إنجاز ولادة نقية لـ "الإسلام الشيعي"، الذي هو مكوّن أساسي من مكوّنات الهوية القومية الإيرانية. ينتج عن ذلك أمران: الاعتراف بالإسلام دون الاعتراف بالعرب والاعتراف بـ "لغة القرآن" دون الاعتراف باللغة العربية المتداولة بين بشر كريهين. ومع أنّ جلال آل أحمد قد غيّر، نسبياً، من موقفه من "العرب المسلمين" بعد حرب حزيران عام 1967، فإنّ اجتهاده، الذي أنجز قراءة شوفينية للإسلام، يظل جديراً بالتأمل والدراسة. أنجز الأدب الإيراني الحديث، بشكل عام، عنصرية نموذجية تتجاوز، ربما، "الآداب العنصرية" الأخرى، بما في ذلك عنصرية الأدب الصهيوني، الذي أعقب مباشرة احتلال فلسطين. ثلاثة أسئلة جوهرية يخلص إليها قارئ كتاب "صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث" وهي: ماهو شكل وطبيعة "الروح الإسلامية" التي سادت في إيران منذ "الفتح الإسلامي" إلى منتصف القرن العشرين؟ إذا كان الأدب، نظرياً، يقوم على مبدأ المساواة بين البشر جميعاً، دون التوقف أمام انتماءاتهم المختلفة، فما هو مدى "أدبية" النصوص الإيرانية المشار إليها؟ هل استطاعت "الثورة الإسلامية"، التي قامت منذ ربع قرن وأكثر، أن تعيد صوغ النفسية الإيرانية المسكونة بكراهية العرب؟ والسؤال الثالث بالغ الأهمية، بسبب علاقات الجوار بين العرب والإيرانيين، وبسبب الدين الإسلامي الذي يجمع بين الطرفين، الذي يبني المساواة بين البشر على مبدأ "الإيمان والتقوى" لاعلى التعصّب الديني والعرقي والقومي . ــ صدر الكتاب عن دار قدموس في دمشق، وترجمه صخر الحاج حسين، وراجعه: زياد منى. ناقد ومفكر فلسطيني .

د. فيصل درّاج

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى