الأحد ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

صورة المسيح في رواية أولاد حارتنا- لنجيب محفوظ

اختار نجيب محفوظ شخصية "رفاعة" لتلعب الدور الذي يشبه دور المسيح عيسى عليه السلام في الرواية، وجاء انتقاؤه لهذا الاسم بعد دراية بإيمان الديانتين الإسلامية والمسيحية بأنه رُفع إلى السماء قبل أو بعد موته. وسنرى ذلك في نهاية القصة. وأورد محفوظ قصة ولادة "رفاعة" بعيدًا عن حيه الذي يسكن فيه والداه (عم شافعي النجار وزوجته عبدة) وهما من آل جبل والمقصود من (سلالة موسى) ( وربما أراد محفوظ أن يقول للناس أن عيسى هو بشر له أب وأم كغيره من البشر ومن يعتقد أنه ابن الله أو ابن مريم التي ولدته من غير أب إنما هو مخطيء في اعتقاده) حيث غادرا الحارة متوجهين إلى الخلاء ثم إلى سوق المقطم ليفتح شافعي له دكان نجارة_ وهنا إشارة واضحة إلى يوسف النجار الذي ورد ذكره في الإنجيل- ثم تلقي الأم باللائمة على الجبلاوي (الرب) فتقول: "آه لو صبرت يا معلم شافعي! ألم تسمعهم يقولون إن الجبلاوي لا بد أن يخرج يومًا من عزلته لينقذ أحفاده من الظلم والهوان؟" [1]

ثم ينتقل الكاتب نقلة زمنية طويلة فيكبر "رفاعة" خلالها ويعود مع أمه إلى الحارة بعد عشرين عامًا أو يزيد.. ويفتح "شافعي" دكان نجارة يساعده ابنه فيه في تصليح أثاث البيوت. أخذ رفاعة يقضي وقته عند امرأة تدعى "أم بخاطرها" وتعمل في تخليص الممسوسين من عفاريتهم وأحب رفاعة منها سماع حكايات أسرار العفاريت. اقترحت عليه أمه ذات يوم أن يتزوج من عيشة وهي ابنة زعيم الحارة، إلا انه يرفض هذا الاقتراح. نزل العم شافعي صباحا ليفتح دكانه فلم يجد رفاعة كما توقع. فاستقل عربة كارو مع زوجته وتوجها إلى سوق المقطم وبعد فترة من البحث عنه وجداه وهو عائد في استحياء إلى الحارة من الخلاء. ثم يخبرهم أنه مشى في الظلام حتى تعب وأسند ظهره إلى سور البيت الكبير، ثم سمع فجأة صوتًا الجبلاوي يتكلم وقال له: "ما أقبح أن يطالب شاب جده العجوز بالعمل، والابن الحبيب هو من يعمل.." [2] وفهم من هذا أنه يجب عليه أن يسعى من أجل سعادة الناس جميعًا. فقرر أن يزور المساكين ليطرد عنهم العفاريت.

ثم يورد الكاتب قصة امرأة من قومه تدعى "ياسمينة" وهي امرأة زانية (وأطلق عليها اسم ياسمينة لجمالها الفتان) حيث اجتمع الناس في مظاهرة حاشدة وطالبوا بقتلها لأنها كانت تسكر وتتردد كثيرًا على بيت أحد زعماء الحارة ويدعى "بيومي".

أشفق عليها "رفاعة" واقترح عليهم أن يتزوج منها ليستر عليها وينقذها من الموت. ثم أعلنت توبتها. وقالت له: "لن أنسى فضلك؛ إني مدينة لك بحياتي. فأجابها: يفاخرون دائمًا بأنهم من صلب أدهم، وفي نفس الوقت يباهون بالكبائر.. وما دام التخلص من العفاريت ميسورًا فما أقربنا من السعادة" [3]

وطلب منها أن تتخلص من عفريتها إلا أنها رفضت طلبه وأرادت أن تبقى كما هي. ثم انقطع عن دكان النجارة ومضى يدعو من يصادفه كي يخلصه من عفريته فيحقق بذلك سعادة صافية لم يحلم بها من قبل. ( في الإنجيل كان يدعو للتخلص من الخطيئة). ثم توجه إلى أم بخاطرها وطلب منها أن يطهرها من العفريت (لاحظ المصطلحات الإنجيلية: السعادة، يطهر، المعلم، يخلص وينقذ).

وبعد مدة أخذ الفقراء يتوافدون عليه ليخلصهم من عفاريتهم وليبرأوا منها وصار يدعى في الحي بالعلم رفاعة. واصطفى رفاعة من مرضاه أربعة وهم زكي وحسين وعلي وكريم اصطفاهم لصداقته فصاروا إخوة فانقلبوا إلى رجال ذوي قلوب كبيرة. وكانوا يجتمعون في الخلاء عند صخرة هند ويتبادلون أحاديث المودة والصفاء، وصاروا سعداء لأنهم تخلصوا من العفاريت فتطهروا من الحقد والطمع والكراهية وسائر الشرور. وطلب منهم معلمهم أن يتعلموا الأسرار ليخلصوا المرضى من العفاريت. في حين كانت زوجته ياسمينة قد استمرت في علاقتها بفتوة الحارة "بيومي" وتمارس معه الزنا وأخذت تلتقي به ليلا وتدخل بيته من باب حديقته الخلفي الذي يفتح على الخلاء.

واجتمع الزعماء في أحد الأيام في بيت الناظر ويدعى إيهاب (وهو الزعيم الأكبر) (ولا أدري إن كان محفوظ يقصد به الإمبراطور الروماني أم الممثل الروماني في بلاد الشام) وتم بحث أمر رفاعة الذي ذاع صيته وأصبح يطلق عليه اسم المعلم (وهي على وزن المفعّل/ المخلّص- وهو مصطلح شائع في الديانة المسيحية) واتفقوا على أن يجدوا علاجًا لجنون رفاعة ابن شافعي النجار. وقد اعتبروا أن اتصاله بالواقف (صاحب الوقف -الجد الجبلاوي- أي الرب) إنما هو جنون. "مارس نشاطه تحت سمعك وبصرك فلم تدرك له خطرًا ، وطبعًا لم تسمع عن مزاعمه عن الاتصال بالواقف" [4]..

وخرج رفاعة في أحد الأيام من حيه فصادفه الفتوة (الزعيم) بطيخة (في اعتقادي أن اختيار هذا الاسم جاء للسخرية من الشخصية ذاتها_ ويريد محفوظ أن يخبرنا أنها شخصية تحمل رأسًا فارغًا مثل البطيخة_ متسرع في قراراته) فما أن ألقى رفاعة عليه التحية حتى لطمه لطمةً دفعته إلى جدار الربع مترنحًا..واجتمع أهل الحي من الرجال والنساء على صراخ امرأة شاهد المنظر وتصايح الناس في انزعاج وتعالت احتجاجات ، وأخذ الطوب يتساقط أمام بطيخة ليمنعه من التقدم. وكانت هذه الحادثة بمثابة نقطة التحول في حياة رفاعة لأن الناظر رأى في تضامن الناس معه قوة تكفل الصمود أمام الفتوات. وعقد اجتماع طاريء في بيت الناظر واتفقوا على قتل رفاعة. في حين اتفق أنصار رفاعة على مساعدته على الهروب من فوق الأسطح والاختباء في بيت أحد أنصاره ويدعى كريم (من الكرم). وبعد هروبه خرجت زوجته "ياسمينة" إلى الخلاء خفية وتسللت إلى بيت الفتوة بيومي وأخبرته عن خطة الهروب بكل تفاصيلها.. ثم توجهت إلى بيت كريم لتخفي عنهم آثار خيانتها (لاحظ التشابه القصصي- قصة القبض على المسيح وقصة القبض على رفاعة) ثم تناولوا العشاء وفي ساعات الفجر الأولى تمت مداهمة البيت وقبض على رفاعة وفرّ أنصاره واقتيد إلى الحارة.. "وظلت عينا رفاعة مرفوعتين نحو البيت .تُرى هل يدري جده بحاله؟ إن كلمة منه تستطيع أن تنقذه من مخالب هؤلاء الجبارين وترد عنهم كيدهم. إنه قادر على أن يسمعهم صوته كما أسمعه إياه في هذا المكان" [5].

وفي الخلاء "هوى بيومي بنبوته على رأسه بشدة فصرخ رفاعة صرخة عالية وهتف من أعماقه: "يا جبلاوي!" ، وساد صمت لم تسمع خلاله إلا الحشرجة . وأخذت الأيدي تحفر الأرض بقوة في الظلام. [6]

ولما غادر القتلة المكان إذا بأربعة أشباح تنهض قائمة من موضع غير بعيد من موقع الجريمة وكان هؤلاء تلاميذه وهم علي وكريم وحسين وزكي (لاحظ اختيار الأسماء يدل على طهارتهم وإخلاصهم في العمل) تجمعوا حوله وأخذوا يزيلون الرمال براحاتهم ولما وجدوا جسده ارتفعت أصواتهم بالبكاء وتعاونوا على استخلاص الجثة من الرمال وبعد أن ردموا الحفرة حملوا الجثة إلى المقبرة ثم وضعوها في جوف القبر. ثم همس كريم: "كانت حياتك حلمًا قصيرًا ، لكنها ملأت قلوبنا بالحب والنقاء" [7]

أما الصحاب الأربعة فقد غادروا الحارة في حالة نفسية متوترة وعاشوا في أطراف الخلاء. "ولم يبق لهم من أمل في الحياة إلا أن يتحدّوا موته بإحياء رسالته" [8].

ولما انتشر نبأ قتل رفاعة هرع الناس للبحث عن جثته فلم يعثروا على شيء حتى الفتوات القتلة تسللوا في الليل وحفروا مدفنه على ضوء مشعل فلم يعثروا للجثة على أثر.

ويعرض علينا نجيب محفوظ بطريقته تضارب الآراء والعقائد واختلافها في نهاية عيسى عليه السلام فيقول في نهاية القصة: "وتوثب كل فريق للعمل على رأيه بإيمان صادق . وتناقلت الحارة قصة رفاعة على حقيقتها التي كان يجهلها الأكثرون. وتنوقل أن جثته ظلت ملقاة في الخلاء حتى حملها الجبلاوي (الله) بنفسه فواراها التراب في حديقته الغناء." [9]. ثم يختم محفوظ القصة :" وحظي رفاعة في موته بما لم يكن يحلم به في حياته من التكريم والإجلال والحب حتى سار قصة باهرة يرددها كل لسان، وتتغنى بها الرباب ، وبخاصة رفع الجبلاوي لجثته ودفنها في حديقته الغناء. وقد أجمع الرفاعيون (المسيحيون) على ذلك، كما أجمعوا على الولاء والتقديس لوالديه، وغالى منهم قوم فتجنبوا الزواج (المقصود بالرهبنة) حبًا في محاكاته واستعادة لسيرته" [10].

في اعتقادي أن الرسالة في هذه القصة يوجهها محفوظ للمسلمين والمسيحيين على حد سواء وفيها أن ما يشاع عن المسيح وقصة ولادته وصلبه ورفعه إلى السماء أو موته إنما هي خرافات وأساطير لا أساس لها من الصحة وأن اختفاء الجثة جاء على يدي أعوانه الذين اختطفوها في الليل ودفنوها في مكان بعيد لا يعرفه أحد. ويرى محفوظ أنه بشر مثل غيره لم يخلق من روح الله من غير أب وأنه كان يظن أن الله كلمه وطلب منه أن يسعى لإسعاد الناس ولكن الله تخلى عنه في النهاية ولم يستطع أن يساعده.

وللحديث بقية......

(كفر قاسم)


[1أولاد حارتنا ص 215

[2أولاد حارتنا ص 248

[3أولاد حارتنا ص 258

[4أولاد حارتنا ص 275

[5أولاد حارتنا ص 294

[6أولاد حارتنا ص 295

[7أولاد حارتنا ص 297

[8أولاد حارتنا ص 298

[9أولاد حارتنا ص 303

[10أولاد حارتنا ص 304


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى