الخميس ٢٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

طفلة في تل أبيب

السادس عشر من نوفمبر.. تاريخ طبع في الذاكرة.. ذاكرة الأيام المليئة بالحب والسعادة والفرح والمرح.. الحب الذي يخلو من الكراهية "المتجذّرة" بجذور حديدية متشعبة.. ذاكرة الأيام التي بصقها الزمن فتحولت إلى حزن وتأنيب للضمير وحرقة في القلب.. عسى أن تُكفر الذنوبُ وتُمْسَحُ الخطايا المتعفنة التي لم تخل يومها من شهوة ملتهبة في الجسد ومتأججة في الروح البشرية..

صورة جميلة حولها الزمان إلى صورة قاتمة، مشوشة خلقت بلبلة في النفس واضطرابًا مهينًا في الذات، فنغصت العيش و"غبّشت" العيون فأصبحت لا ترى إلا سوادًا بسواد.. هي ذكريات يصحو بها الضمير ويحترق القلب كل عام في مثل هذا التاريخ.. إذ أن الذنب الذي جناه "كامل" على نفسه وعلى مجتمعه لا يعرفه إلا الله وامرأة، والله يعلم مصيرها.. هو سرٌّ عميق دفن في قاع بئر في جبال نائية.. والعلم بتطوره المذهل لا يمكن أن يكتشفه.. سرٌّ إذا مات صاحبه ذاب كما يذوب الملح في النهر العظيم.. أو تلاشى في فضاء مجهول مثلما يتلاشى دخان السيجار في أجواء الدنيا.. كلما خطر بباله وانفتح باب الذاكرة رأى تلك الفتاة الجميلة الشقراء.. "إيلانة" ابنة الدكتور "يوسيف" من يهود فرنسا المتحررين.. تقف أمام ناظريه وترجوه أن يسافر معها إلى أبعد بلد في الفانية.. الولايات المتحدة!.. كندا!.. البرازيل!.. أستراليا!.. قال له والده يومها: "يا ابني من طين بلادك دهن خدادك.. فتاة على غير الدين!.. هذا أمر غير مشروع.. على غير القومية! لا لا أنا ما بقبل في هذا.. خذ أي بنت عربية بدك إياها وأنا مستعد أطلبلك إياها من الصبح! وبنات اليوم مثل النمل.. وبعدين بدري اكثير على الزواج أول شيء خلِّص تعليمك في الجامعة"..

في مقهى موشيه العراقي أخبر "إيلانه" عن رأي والديه الرافض، فاشمأزت من الموقف ولم تجب شيئًا. اقترحت عليه أن يقضيا سهرة تلك الليلة على شاطيء البحر ليستمتعا بسحره الليلي ثم يعودان إلى بيته الذي استأجره منذ أسبوعين فقط في شارع "إلياهو هنافي" في تل أبيب.. قوبل الاقتراح بالإيجاب.. كانت تنظر إليه في الحقيقة نظرة الحب الذي لم تشعر به من قبل.. صحيح أنها أحبت "ران" وظلت صديقةً له طيلة أيام الثانوية.. إلا أن "كامل" شاب يختلف عن باقي الشباب.. جماله لم يكن جمالا طبيعيًا بالنسبة لها.. ففيه امتزجت مزايا كثيرة واختلطت ثم أنتجت الفارس الذي كانت تحلم به وتتمناه.. متوسط القامة.. عينان عسليتان يشع منهما نور فيه من جمال الابتسامة.. محياه كفلق الصبح مغلف ببشرة برونزية تميل إلى البياض.. وفم اصطفت فيه أسنان لامعة كأنها لآليء استُخرجت من بحر يكثر فيه المرجان.. أما هو فقد اعتبرها صيدًا ثمينًا يتلذذ بها متى يشاء وأنها أصبحت ملكه على الرغم من أنه لم يعقد عليها.. هكذا يعيش الأوروبيون.. وهذه هي طبيعة الحياة المتقدمة.. وكل شاب له صديقة يعيش معها مثل زوجته حتى إذا ما قررا الإنجاب تزوجا وفقًا للطريقة التي تناسبهما.. أما الشرق فلا يعرف شيئًا من هذا وحياتهم كلها كبت في كبتٍ، ولقد ولّى هذا الزمان إلى غير رجعة.. وراح يتمتع من جسدها المحترق أيما استمتاع وغرس أصابعه المتوحشة في عنقها فاحتبس نفسه ثم أحست أن أبواب الدنيا قد تفتحت أمامها معه..

لم يكن يعلم أبدًا أن البذرة التي زرعها ستنبت في يوم من الأيام وخصوصًا عندما تزرع في أرض خصبة، وستنمو حتى تصبح شجرة.. لكن الشجرة سوف تتحول إلى حزن وتأنيب للضمير وحرقة في القلب.. ظلها سوف يلهب الجسد ويؤجج الروح.. ليست هناك طريقة تجبره على الزواج منها إلا بهذه الطريقة.. سوف يرتبط بشيء ما ولن يرتبط بفتاة أخرى.. وهي مستعدة لتبديل دينها واسمها وقوميتها لأن الحب الحقيقي الشافي يتطلب ذلك و لا يعرف الحدود التي ترسمها الأديان والقوميات بين أبناء البشر.. ولا تقف أمامه الحواجز ولا الأسوار ولا الجدران الفاصلة.. فهو رباط قوي بين الأرواح.. المهم أن يكون ملكًا لها لا لغيرها.. كان بالنسبة له عبارة عن ضربة شديدة.. فهو لم يكتشف الأمر إلا بعد أن ظهرت عليها أعراض الحمل جليةً ولم تستطع إخفاءها عنه طويلا.. وكانت تقول له:

 "لماذا تعتبره صدمة.. ألسنا متزوجين؟
 "لا لسنا متزوجين.. من قال لك أننا متزوجان.. الزواج لا يتم بهذه الطريقة..ولا بهذه السرعة.. ثم لم يمض على تعارفنا وقت طويل.. ماذا سيقول أهل بلدي لو عرفوا بالأمر؟"
 "يا جاهل لا تحسب لأقوال الناس حسابًا.. الغرب لا يتزوجون حسب الطريقة التي أنت تفهمها.. ويكفي للزوجين أن يتحابا ثم يتفاهما ثم يتفقا.. وإن شئت فبإمكاننا أن نعقد اتفاقًا عند أي محامٍ في كل وقت.."
 ولكنني ما زلت طالبًا في الجامعة؟
 صحيح أنت ما زلت طالبًا في الجامعة.. وهذا لا يعني أن طلاب الجامعة لا يتزوجون ولا ينجبون.. ولكن اطمئن من هذا الجانب.. راتبي يكفي لإعالتنا نحن الاثنين.."

لم تأبه لتقولاته.. ولم تكن تشعر بالصعقة التي صعق بها.. واشتد النقاش في البيت وازدادت حدته.. حاول إقناعها بالإجهاض.. إلا أنها رفضت ذلك.. أما الصعقة فلم تغير من سلوكه إلا بعد أن اقترب موعد ولادتها.. فقد هددها بالهرب وترك البيت إن لم يوضع المولود في بيت الأيتام.. المهم التخلص منه بأية طريقة.. لم تكن تتوقع أن يكون رده قاسيًا بهذه الطريقة.. حاولت أن تتلاعب بعواطفه إلا أنها فشلت.. والضرب على العواطف أهون من أية فضيحة.. وأبوه من عائلة شريفة لم يمسسها سوء من قبل.. كان أهون عليه أن يضحي بابنته من أن ينكشف أمره وينتشر الخبر بين أهله وأصدقائه..

أثار منظرها في نفسه وهي تلد أمامه في غرفة الولادة في مستشفى "إيخيلوف"، قرفًا شديدًا.. وأحس بدورانٍ في رأسه وغثيانٍ ورغبةٍ في التقيؤ.. فقد خرجت من جسدها مولودة صغيرة بحجم الأرنب.. زعقت وشهقت وتنفست مثلما يتنفس الآخرون.. وخرج من قسم الولادة يشعر بالذنب والاختناق واحتقار للنفس.. والخوف من المجهول شبح صار يلاحقه في كل مكان.. وقبح الصورة منعكس من المرآة التي يقف أمامها في الحمام وهو يحلق ذقنه.. فقد أصبحت الصورة مشوهةً في هذه الدنيا وأحس أن الدنيا تلاحقه.. وعليه الآن أن يهرب منها إلى مكان أكثر أمنًا..

وكان من عادته أن لا يطيل الغياب عن قريته فيقوم بزيارتها مرة كل أسبوعين وأحيانًا مرة كل ثلاثة أسابيع.. وكانت أمه تستقبله بحفاوة بالغةٍ فيقبل رأسها ويحتضنه والده بحرارة ويسلم عليه إخوته ويرحب به جيرانه ومعارفه.. ووضع فيه والده كل ثقته.. وهو يرجو منه أن ينهي تعليمه بنجاحٍ ليصبح مدرسًا يرفع به رأسه أمام الناس.. لاحظت أمه عليه تغيره.. وقالت له:

 مالك يا ابني يا كامل متغير هذي المرّة؟.. ليش أعصابك ساخنة ومتوترة هيك؟ في إشي؟ إحكي لي كل شيء وافتح لي قلبك! وأنا مستعدة لمساعدتك.
 لا.. ما في إشي يا ماما.. بس كثرة القراءة بتتعب.. والحياة في تل أبيب مش سهلة.. وبصراحة أنا زهقت التعليم.. لأنو شغلة التعليم بتطعمش خبز.. اليوم ميكانيكي واحد أحسن من ألف معلم.. ومقاول بسيط أفضل من مائة دكتور.. واليوم في عصرنا ما فيش قيمة للمتعلمين..

 إشو هالحكي يا كامل.. أنت تغيرت كثير كثير.. شو اللي غيرك..
قبل أن تتجاوز العشرة أيام أدخلت "مريم" في بيت للأيتام.. وبموافقة الوالدين.. ووضعت الشروط اللازمة وتم التوقيع على التنازل التام وعدم المطالبة بها أو السؤال عنها.. والمطالبة بها قد توصل صاحبها إلى المحاكم وقد تكلف مبالغ طائلة.. وقبل أن تستلمها الحاضنة، شدها إلى أنفه وشفتيه وأخذ يشمها ويقبِّلُ جبينها.. لقد قبّلها سبع قبلاتٍ حارةٍ كانت تنطق بالرأفة والحزن والعذاب.. وأخذت أصابعه تتحسس خديها الرقيقين ورقبتها الصغيرة.. ثم ألقى عليها نظرة فاحصة طويلةً متأملةً، فانزلقت من عينيه الذابلتين دمعتان ساخنتان لامستا وجه الطفلة فأيقظتاها من سباتها.. ثم أحس ببرد يلفه ويلفح وجهه، حينما رأى يدي الحاضنة تقتربان منها ثم تتلقفاها من بين ذراعيه.. وشعر عندها أنه يريد أن ينبح كالكلب المسعور إلا أنه شعر بالموقف المحرج وكان المكان مزدحمًا بالناس فلم يتمكن من ذلك.. فأخرج من جيبه منديلا ومسح به وجهه ودمعه..
لقد مضى على هذا ثمانية عشرة عامًا.. وليست هناك حواجز تمنعه من مشاهدة ابنته مباشرة على شاشات الذاكرة.. أما إنه قد انفصل عن "إيلانة" وترك الجامعة وعاد إلى قريته، فهذا لا يعني أنه يستطيع نسيان الماضي والتخلص منه.. وكان انزواؤه بنفسه الذي يشبه انزواء المريض في فراشه، وانتقاله من حسٍ إلى حسٍ، قد أثار الشك في نفس زوجته وأولاده.. ولما سئل، احتج بالإرهاق والملل من عمله الذي يعمل فيه.. ثم طغى عليه توثب الكآبة والتوتر والغفلة.. وإذا كانت "إيلانة" قد هاجرت وتزوجت في الولايات المتحدة ثم لم تعبأ بماضيها الرخيص واستهترت بما أنجبت، فإنه لا يزال يقنع نفسه أن الفتاة التي ستنتسب هذا العام للجيش هي ابنته العربية.. هي من صلبه.. من لحمه ودمه.. ولسوف تقف في أحد الحواجز العسكرية وتوقف الناس وتطلب منهم إبراز بطاقات الهوية وتفتش أمتعتهم ثم تهينهم كما يهان غيرهم.. وربما يكون هو من بينهم...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى