الجمعة ٨ آذار (مارس) ٢٠٢٤
بقلم فراس حج محمد

على هامش تحكيم مسابقة تحدي القراءة

تنطلق مسابقة تحدي القراءة من فكرة أن القراءة فعل حضاري متقدم، يساهم في خلق جيل واعٍ، وله أثر ليس في النواحي المعرفية الشخصية وحسب، وإنما تأثير في النواحي الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع بشكل عام. فـ "المجتمع القارئ هو مجتمع متحضر... ومن يدعم القراءة يدعم صناعة حضارة... ويدعم اقتصاد معرفة... ويدعم بناء أجيال تبني مستقبل الوطن العربي". تصدر هذا المقتبس دليل المشاركين للمسابقة- متاح على الموقع الإلكتروني- مع أنه يعطي القراءة حجما أكبر مما هي عليه في الحقيقة، إلا أنه لا خلاف على أن القراءة الواعية، بمفهومها الشامل، أداة من أدوات فهم الذات؛ الذات الفردية والذات الجماعية، وفهم الآخر، ذاتا أو جماعة أيضاً.

كما أن القراءة، على مستوى القارئ الفرد، هي مؤشر فعال على بناء عقلية ناقدة مفكرة وحيوية، تعيد تنظيم أدوات التفكير وضبطها، وتوجيهها نحو أغراض محددة، وتؤسس في العقل بناء مرايا من الأفكار متعاكسة ومتضاربة، تشعل التفكير وتدفعه إلى بناء منظومة جديدة من الوعي المؤسس على الفكر "المغربل" الصالح للعيش في البيئة التي ولد فيها. فالقارئ المرجو هو قارئ باحث، وليس قارئا نهما يغوص في الكتب من أجل المتعة المحضة.

في هذه الوقفة لا أريد أن أحول الكتابة إلى "مدحة" ممجوجة للقراءة، وإنما فقط أردت أن أؤسس لما أريد قوله في أهمية فعل القراءة على المستوى الفردي، للقارئ نفسه وللكاتب أيضاً.

أعتقد أنه لا كتابة جيدة دون قارئ جيد، ولا يوجد القارئ الجيد دون وجود كتاب جيد، والتأثر والتأثير جدلي، متشابك، يعمل في الاتجاهين، فالقارئ الجيد يدفع الكاتب لينتج كتابا جيدا صالحا للقراءة، والكاتب الجيد يدفع القارئ لقراءته، فيغريه بالفعل ليجره نحو كتابه. وأي كتاب يصدر لا يقرأ، فإنه لم يحقق هدفه، فالكاتب لا يكتب لمجرد أن يكتب، ويمارس هواياته، فالكتابة ليست لعبة للتسلية، كما أن القراءة ليست لعبة. القراءة لا تقل خطرا عن الكتابة، القراءة فعل وجودي ضروري لوجود الكتابة، إذا غاب أحدهما غاب الآخر.

هذه الحقيقة ألتفت إليها خلال الاستماع إلى الطالبات والطلاب المشاركين في تحدي القراءة، وأغلب هؤلاء الطلاب "حافظ" من أجل المسابقة وليس "فاهماً" ما تعنيه المسابقة، وكأن ما هو مسطور في التنظير للمسابقة مثالي جدا، مُسخ عند التطبيق، وبدا هذا المسخ في عدة جوانب:

لم تبد الجدية بالمسابقة على أغلب المشاركين هذا العام، فأغلبهم اعتمد على قراءاته السابقة، المرصودة في "الجوازات" من العام السابق أو الذي قبله، فقد أتوا لتمثيل مدارسهم وهم غير مستعدين الاستعداد الكافي، فقد نسوا كثيراً من الأفكار المتعلقة بالكتب. ولعل الظروف العامة التي نعيشها في فلسطين كان لها الأثر السلبي جدا على أداء الطلاب وقراءاتهم، فالحرب المدمرة التي نعيشها يوميا والاقتحامات، وسقوط الضحايا، والاعتقالات التي وصلت إلى كل التجمعات السكانية حتى أكثر التجمعات هامشية وبعدا عن المركز، أضف إلى ما يشهده التعليم في فلسطين من تذبذب وتأرجحه بين التعليم الوجاهي والتعليم عن بعد، جعل المسابقة تبدو هامشية في الفعل المدرسي، مع أن هناك إشراقات مهمة، لكنها قليلة. وأقل بكثير من الأعوام السابقة.

لم يتلق الطلاب المشاركين في تحدي القراءة اهتماما في مدارسهم، بما يساعدهم على أن يكونوا طلابا منافسين، فانعدم التوجيه الصحيح نحو الكتب، وكيفية التلخيص، والتدرب على اللغة الفصيحة، والحديث والتعبير عن وجهة النظر، ولم يكن هناك إشراف مباشر على هذه العملية، ولم تقم المدارس بفرز أفضل ما لديها. بل اكتفت بتسجيل الطلاب في البرنامج، ثم حملوهم إلى مركز التحكيم، وكثير منهم لا يستحق أن يمثل بين يدي لجنة التحكيم التي تريد فرز أفضل الأفضل، فصار عمل اللجنة فرز الأفضل من بين الجميع، وهذه مهمة أرهقت اللجنة، وحملتها أكثر مما ينبغي لها أن تحمل وتتحمّل.

تدني مشاركات الطلاب الذكور في المسابقة، فعلى مدار خمسة أيام من التحكيم لم يكن هناك سوى مدرستين مثلهما طلاب من الصفين الخامس والسادس.

افتقدت المشاركات الطلابية من إستراتيجية محددة لفعل القراءة، عدا حالات قليلة، فالمشاركون أتوا إلى المسابقة وهم يحملون واجباً عليهم أن يؤدوه، لا مهمة مدروسة ذات أبعاد ثقافية وإنسانية، ولذلك لم أصل إلى قناعة أن الكتب المقروءة كانت ذات أثر في الوعي المؤسس للطلاب، لأنهم قرأوا ما تيسر، ولم يقرؤوا ما يلبي الرغبة، ويمتع النفس ويغذي العقل، فكثير من الكتب ليست ذات قيمة للقارئ الطالب نفسه، لأنها أقل من مستواه العقلي، وبالتالي يصبح النشاط الفكري المرتجى من فعل القراءة، فارغا من المضمون، ومحصلة القراءة صفراً.

لم يتم توطين المسابقة لتعميم الكتاب الفلسطيني، فكانت نسبة حضور الكاتب الفلسطيني في هذه الكتب المقروءة لا يشكل أية نسبة معقولة، لغياب الاستراتيجية الأكبر من ضرورة توظيف المسابقة لخدمة الكاتب الفلسطيني وتعميم التجارب الكتابية التي أثبتت حضورها على المستوى العالمي والعربي، وهذا الأمر لا يخص الكاتب الفلسطيني بل ربما انسحب على الكاتب الأردني والمصري والجزائري في بلدانهم المشاركة في هذه المسابقة، فلا بد من أن يكون للكاتب الوطني (فلسطيني، أردني، سوري، لبناني،....) حضور في إستراتيجية القراءة الوطنية، لأنه لا بد من تحقيق شرط المعرفة والتعرف على الكاتب المحلي، وعلى الأفكار المطروحة ومناقشتها ومقارنتها بالكاتب العربي الآخر، والكاتب العالمي، لإحداث فعل الوعي الشامل الذي بنيت عليه المسابقة أصلا، وأشارت إليه في أدبياتها المنشورة.

وبهذه المناسبة أودّ أن ألفت النظر إلى هذه المسألة؛ حضور الكاتب المحلي، والعمل ضمن خطوات واضحة لزيادة نسبة حضوره في المسابقة، إذ يمكن أن تتعاون وزارات التربية والتعليم مع اتحادات الكتاب ووزارات الثقافة ودور النشر والكتّاب أنفسهم في كل بلد على تعميم الكتاب الوطني على المدارس؛ إما بتبرعات، أو بأسعار مناسبة، ورفد المكتبات المدرسية بكل جديد كل عام، ليكون الطلاب على دراية بما ينشر في بلدهم من كتب، وأن يتعرفوا على كتّابهم أيضاً. مع وجود برنامج مدرسي موازٍ يعمل على تعميم الفكرة في الإذاعة المدرسية يومياً، وعمل الندوات الدورية، وما شابه؛ ليظل الفكر لطلابي في تطور، وفي توهج، من أجل المعرفة أولا وأخيراً.

اتجهت أنظار القراء نحو الكتب المترجمة، وكتب الروايات والقصص، وغاب الشعر تماما عن القراءات، وغابت الكتب النقدية، وكتب علم الاجتماع، وكتب الفلسفة، وتدنى مستوى الكتب المقروءة لتكون متوازية مع ما هو سائد، ويتماهى مع الواقع، ما يجعل البرنامج عديم الفائدة في إحداث وعي اجتماعي يقوده الطلاب أو يؤسسون له، بوصفهم قادة المستقبل ومفكريه.

كشف البرنامج عن ضعف المكتبات المدرسية، وعدم فاعليتها، وأن ما تكسبه المدرسة من مركز التطوير الخاص بالمكتبات المدرسية هو مجرد عبء على الوزارة والهيأة التعليمية، كما أن الضعف كان واضحا فيما تحتويه تلك المكتبات من كتب، يجعلها مكتبات فقيرة فعلا، وأن المدرسة تفتقر لبرنامج تفعيل للمكتبة المدرسية، وهذا ما كنت ناقشته في مقالة سابقة بعنوان "المكتبة المدرسية ضرورة". (مجلة عود الند الثقافية، العدد 81: 2013/3).

مارس بعض الطلاب حيلا مكشوفة في تعبئة الجوازات المخصصة للمسابقة، في أنهم لم يقرؤوا جميع الكتب التي كتبوا عنها في تلك الجوازات، وإنما اتجهوا إلى ملخصات الإنترنت، ما انعكس سلبيا على أدائهم، ورؤاهم، كما أن هناك حالات لتعبئة جوازات الطلاب بنسخ زملاء المدرسة الواحدة، بعضهم عن بعض، ما أسس لنزعة "الغش" لدى الطلاب، وهذا ما يتنافى مع أهداف المسابقة وحيويتها. كما أنهم أيضا اتجهوا إلى بعض العناوين الداخلية وجعلوها كتبا مستقلة في عناوينهم، كأن يعد أحدهم قصة في مجموعة قصصية عملا أدبيا مستقلا، ليمارس نوعا من الخداع للجنة التحكيم. وبذلك نقضي على الهدف الإجرائي الأساسي للمسابقة المتمركز حول (قراءة(50 مليون كتاب سنوياً).

غالب الظن أن المدارس لم تُطلع الطلاب جيدا على المسابقة، وشروطها، وآليات التحكيم، ولم تعقد لذلك اجتماعات، ولم يكن الطلاب على علم ببنود التحكيم في الـ (Rubric) المعد لذلك، وهو متاح للمدارس، وموجود على الموقع الإلكتروني للمسابقة.

لا شك في أن هذه الملحوظات السلبية لم تفقد البرنامج أهميته، ويعوّض كثيرا عن غياب حصة المكتبة المدرسية، وإن جعلت القراءة قرارا فرديا، مدعوما بأساس التنافس على الجائزة، وكأن الطلاب لن يقرؤوا إذا لم يكن هناك جوائز، ونسوا- كما نسي معلموهم- أن أهم جائزة يحصل عليها القارئ هي المعرفة المتحصّلة من القراءة، وبناء فكر منتظم قادر على الحوار والمناقشة وسعة الأفق. فكل الكتّاب الكبار كانوا قراء نهمين، بل المفكرون والسياسيون هم كذلك أيضا، فالقراءة أداة مهمة من أدوات الحوار بين البشر، لأن القراءة بمقدورها التأسيس لفكرة تقبل الأفكار المتضاربة والمتصارعة، وإمكانية محاورتها، وفهمها على وجهها، وإن لم نتفق مع تلك الأفكار ونتبناها، إلا أنه يجب علينا- نحن القراء- أن نحترم تلك الأفكار، ونعطيها شرعية الحياة، ففكرة "المكارثية" الفكرية والثقافية يجب أن تحارب من هذا المدخل، فشرعية الحياة للفكرة مهما كانت هي شرعية الحياة لأصحابها، ولا يعني بالضرورة أنه يشكل خطرا وجوديا على الآخر، فللناس أفكارهم، ولنا أفكارنا، وهذا لا يعني أي فكر تصالحي ألبتة لفكرة التدجين الثقافي والانصياع لأفكار الآخرين، إنما هو إعادة تذكير بطبيعة الحياة في أنها مختلفة، وحيويتها في اختلافها، فكرا وتنظيما وأسلوب حياة، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، وبغض النظر عن التفسير العقدي للآية الكريمة إلا أن مبناها يحتمل شرعية الاختلاف البشري في كل شيء، فهذه هي طبيعة الحياة التي لا يشك بهذه الطبيعة أي عاقل.

إن ما أشرت إليه من "سلبيات" ليست خاصة بفلسطين وحدها، بل ربما لاحظها محكمون آخرون في بلدان أخرى، وربما في بلد المنشأ أيضاً، ومع ذلك يمكن تجاوز تلك "السلبيات" بالعمل المدروس، والمتابعة المستمرة، ونقل فكر الطلاب من فكرة التحوصل نحو "ميكافيلية" القراءة إلى فكرة "الفاعلية الحضارية" للقراءة من خلال كادر مؤهل يتابع ذلك في المدارس عن كثب، وأن يكون بموازاة هذا البرنامج برنامج كتابي أو إعلامي على المستوى المدرسي، يجعل المدرسة بنخبها الطلابية وحدة مجتمعية فاعلة ومؤثرة. بهذا- ربما- سنكون عرفنا الفلسفة التي يستند عليها برنامج تحدي القراءة العربي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى